ثم انتقلت السورة - للمرة الرابعة - إلى توبيخهم على أمر آخر ، فقال - تعالى - : ( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ . . . ) .أى : أيكون سبب إصرارهم على كفرهم اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؟ كلا ، فإنهم يعلمون حق العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل الناس عقلا ، وأرجحهم فكرا ، وأثقبهم رأيا ، وأوفرهم رزانة .وقوله - تعالى - ( بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) إضراب عما يدل عليه ما سبق من اتهامات باطلة دارت على ألسنة المشركين .أى : ليس الأمر كما زعموا من أنه صلى الله عليه وسلم به جنة أو أنه أتاهم بما لم يأت آباءهم الأولين ، بل الأمر الصدق ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ولكن هؤلاء القوم أكثرهم كارهون للحق ، لأنه يتعارض مع أنانيتهم وشهواتهم ، وأهوائهم .وقال - سبحانه - : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) لأن قلة من هؤلاء المشركين كانت تعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالحق ، وتحب أن تدخل فى الإسلام ، ولكن حال بينهم وبين ذلك ، الخوف من تعبير أقوامهم لهم بأنهم فارقوا دين آبائهم وأجدادهم ، كأبى طالب - مثلا - فإنه مع دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقى على كفره .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قوله ( وَأَكْثَرُهُمْ ) فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق؟ قلت : كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه ، وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه ، لا كراهة للحق ، كما يحكى عن أبى طالب .فإن قلت : يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه؟ قلت : يا سبحان الله . كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس - رضى الله عنهما - ويخفى إسلام أبى طالب " .