Nazam Al-Durar Al-Biqa'i

Multiple Ayahs

Tags

Download Links

Nazam Al-Durar Al-Biqa'i tafsir for Surah Al-Muzzammil — Ayah 20

۞ إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ ٢٠

ولَمّا كانَ رُبَّما تَغالى بَعْضُ النّاسِ في العِبادَةِ وشُقَّ عَلى نَفْسِهِ، (p-٢٩)ورُبَّما شُقَّ عَلى غَيْرِهِ، أشارَ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى الِاقْتِصادِ تَخْفِيفًا لِما يَلْحَقُ الإنْسانَ مِنَ النَّصْبِ، مُشِيرًا إلى ما يَعْمَلُ حالَةَ اتِّصالِ الرُّوحِ بِالجَسَدِ وهي حالَةُ الحَياةِ، لِأنَّ مَنفَعَتَها التَّزَوُّدُ مِن كُلِّ خَيْرٍ لِما أدْناهُ هَوْلُ المَقابِرِ، فَإنَّ الرُّوحَ في غايَةِ اللَّطافَةِ، والسُّجَّدُ في غايَةِ الكَثافَةِ، لِأنَّها مِن عالَمِ الأمْرِ، وهو ما يَكُونُ الإيجادُ فِيهِ بِمَرَّةٍ واحِدَةٍ مِن غَيْرِ تَدْرِيجٍ وتَطْوِيرٍ والجَسَدُ مِن عالَمِ الخُلُقِ فَهي غَرِيبَةٌ فِيهِ تَحْتاجُ إلى التَّأْنِيسِ وتَأْنِيسِها بِكُلِّ ما يُقَرِّبُها إلى العالِمِ الرُّوحانِيِّ المُجَرَّدِ عَنْ عَلائِقِ الأجْسامِ، وذَلِكَ بِصَرْفِ القَلْبِ كُلِّهِ عَنْ هَذِهِ الدَّنايا والتَّلَبُّسِ بِالأذْكارِ والصَّلَواتِ وجَمِيعِ الأعْمالِ الصّالِحاتِ، فَإنَّ ذَلِكَ هو المُعِينُ عَلى اتِّصالِها بِعالَمِها العالِي العَزِيزِ الغالِي، وأعُونُ ما يَكُونُ عَلى ذَلِكَ الحِكْمَةُ، وهي العَدْلُ في الأعْمالِ والِاقْتِصادُ في الأقْوالِ والأفْعالِ، فَقالَ مُسْتَأْنِفًا الجَوابَ عَنْ تَيْسِيرِ السَّبِيلِ وبِنائِهِ عَلى الحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ بِحَيْثُ صارَ لا مانِعَ مِنهُ إلّا يَدُ القُدْرَةِ ﴿إنَّ رَبَّكَ﴾ أيِ المُدَبِّرَ لِأمْرِكَ عَلى ما يَكُونُ إحْسانًا إلَيْكَ ورِفْقًا بِكَ وبِأُمَّتِكَ ﴿يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ﴾ أيْ في الصَّلاةِ كَما أمَرْتَ بِهِ أوَّلَ السُّورَةِ.

ولَمّا كانَتْ كَثْرَةُ العَمَلِ مَمْدُوحَةً وقِلَّتُهُ بِخِلافٍ ذَلِكَ، اسْتَعارَ لِلْأقَلِّ [قَوْلَهُ-]: ﴿أدْنى﴾ أيْ زَمانًا أقَلَّ، والأدْنى مُشْتَرَكٌ (p-٣٠)بَيْنَ الأقْرَبِ، والأدْوَنِ لِلْأنْزَلِ رُتْبَةً لِأنَّ كُلًّا مِنهُما يَلْزَمُ مِنهُ قِلَّةُ المَسافَةِ ﴿مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ في بَعْضِ اللَّيالِي ﴿ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ﴾ [أيْ -] وأدْنى مِن كُلٍّ مِنهُما في بَعْضِ اللَّيالِي - هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ، والمَعْنى، عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ والكُوفِيِّينَ بِالنَّصْبِ تَعْيِينُ النِّصْفِ والثُّلُثِ الدّاخِلِ تَحْتَ الأدْنى مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وهو عَلى القِراءَتَيْنِ مُطابِقٌ لِما وقَعَ التَّخْيِيرُ فِيهِ في أوَّلِ السُّورَةِ بَيْنَ قِيامِ النِّصْفِ بِتَمامِهِ أوِ النّاقِصِ مِنهُ وهو الثُّلْثُ أوِ الزّائِدُ عَلَيْهِ وهو الثُّلُثانِ، أوِ الأقَلُّ مِنَ الأقَلِّ مِنَ النِّصْفِ وهو الرُّبُعُ.

ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ قِيامَهُ ﷺ، أتْبَعُهُ قِيامَ أتْباعِهِ، فَقالَ عاطِفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِ في تَقُومُ وحَسَّنَهُ الفَصْلُ: ﴿وطائِفَةٌ﴾ أيْ ويَقُومُ كَذَلِكَ جَماعَةٌ فِيها أهْلِيَّةِ التَّحَلُّقِ بِإقْبالِهِمْ عَلَيْكَ وإقْبالِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ. ولَمّا كانَتِ العادَةُ أنَّ الصّاحِبَ رُبَّما أطْلَقَ [عَلى -] مَن مَعَ الإنْسانِ بِقَوْلِهِ دُونَ قَلْبِهِ عَدَلَ إلى قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ أيْ بِأقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، أيْ عَلى الإسْلامِ، وكَأنَّهُ (p-٣١)اخْتارَ هَذا دُونَ أنْ يَقُولَ مِنَ المُسْلِمِينَ لِأنَّهُ يَفْهَمُ أنَّ طائِفَةً لَمْ تَقُمْ بِهَذا القِيامِ فَلَمْ يُرِدْ أنْ يُسَمِّيَهم مُسْلِمِينَ، والمَعِيَّةُ أعَمُّ.

ولَمّا كانَ القِيامُ - عَلى هَذا التَّفاوُتِ مَعَ الِاجْتِهادِ في السَّبْقِ في العِبادَةِ دالًّا عَلى عَدَمِ العِلْمِ بِالمَقادِيرِ ما هي عَلَيْهِ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ﴾ أيْ تَقُومُونَ هَكَذا لِعَدَمِ عِلْمِكم بِمَقادِيرِ السّاعاتِ عَلى التَّحْرِيرِ والحالُ أنَّ المَلِكَ المُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا وحْدَهُ ﴿يُقَدِّرُ﴾ أيْ تَقْدِيرًا عَظِيمًا هو في غايَةِ التَّحْرِيرِ ﴿اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ فَيَعْلَمُ كُلَّ دَقِيقَةٍ مِنهُما عَلى ما هي عَلَيْهِ لِأنَّهُ خالِقُهُما ولا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنهُما إلّا بِهِ ”﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ﴾ [الملك: ١٤]“ .

ولَمّا عَلِمَ مِن هَذا المَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ في قِيامِ اللَّيْلِ عَلى هَذا الوَجْهِ عِلْمًا وعَمَلًا، تَرْجَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلِمَ﴾ أيِ اللَّهُ سُبْحانَهُ ﴿أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ أيْ تُطِيقُوا التَّقْدِيرَ عِلْمًا وعَمَلًا، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا» ﴿فَتابَ﴾ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ هَذا العِلْمِ أنَّهُ سُبْحانَهُ رَجَعَ بِالنَّسَخِ عَمّا كانَ أوْجَبَ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بِالتَّرْخِيصِ لَكم في تَرْكِ القِيامِ المُقَدَّرِ أوَّلِ السُّورَةِ، أيْ رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنْكم في تَرْكِ القِيامِ عَلى ذَلِكَ (p-٣٢)التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ كَما رَفَعَ عَنِ التّائِبِ، وكَأنَّهُ سَمّاهُ تَوْبَةً وإنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ مَعْصِيَةً إشارَةً إلى أنَّهُ مِن شَأْنِهِ لِثِقَلِهِ أنْ يُجَرَّ إلى المَعْصِيَةِ.

ولَمّا رَفَعَهُ سَبَّبَ عَنْهُ أمْرَهم بِما يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ فَقالَ مُعَبِّرًا عَنِ الصَّلاةِ بِالقِراءَةِ لِأنَّها أعْظَمُ أرْكانِها إشارَةً إلى أنَّ التَّهَجُّدَ مُسْتَحَبٌّ لا واجِبٌ: ﴿فاقْرَءُوا﴾ أيْ في الصَّلاةِ أوْ غَيْرِها في اللَّيْلِ والنَّهارِ ﴿ما تَيَسَّرَ﴾ أيْ سَهُلَ وهانَ إلى الغايَةِ عَلَيْكم ولانَ وانْقادَ لَكم ﴿مِنَ القُرْآنِ﴾ أيِ الكِتابِ الجامِعِ لِجَمِيعِ ما يَنْفَعُكُمْ، قالَ القُشَيْرِيُّ: يُقالُ: مِن خَمْسِ آياتٍ إلى ما زادَ، ويُقالُ: مِن عَشْرِ آياتٍ إلى ما يَزِيدُ، قالَ البَغَوِيُّ: قالَ قَيْسُ بْنُ أبِي حازِمٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما بِالبَصْرَةِ، فَقَرَأ في أوَّلِ رَكْعَةٍ بِالحَمْدِ وأوَّلِ آيَةٍ مِنَ البَقَرَةِ، ثُمَّ قامَ في الثّانِيَةِ فَقَرَأ بِالحَمْدِ والآيَةِ الثّانِيَةِ. وقِيلَ: إنَّهُ أمَرَ بِالقِراءَةِ مُجَرَّدَةً إقامَةً [لَها -] مَقامَ ما كانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلاةِ بِزِيادَةٍ في التَّخْفِيفِ، ولِذَلِكَ رَوى أبُو داوُدَ وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن قامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ، ومَن قامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القانِتِينَ، ومَن قامَ بِألْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ» قالَ المُنْذِرِيُّ: مِن سُورَةِ المُلْكِ إلى آخِرِ القُرْآنِ ألْفَ آيَةٍ. (p-٣٣)ولَمّا كانَ هَذا نَسْخًا لَما كانَ واجِبًا مِن قِيامِ اللَّيْلِ أوَّلَ السُّورَةِ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِعَدَمِ إحْصائِهِ، فَسِرُّ ذَلِكَ العِلْمِ المُجْمَلِ بِعِلْمٍ مُفَصَّلٍ بَيانًا لِحِكْمَةٍ أُخْرى لِلنَّسْخِ فَقالَ: ﴿عَلِمَ أنْ﴾ أيْ أنَّهُ ﴿سَيَكُونُ﴾ يَعْنِي بِتَقْدِيرٍ لا بُدَّ لَكم مِنهُ ﴿مِنكم مَرْضى﴾ جَمْعُ مَرِيضٍ، وهَذِهِ السُّورَةُ مِن أوَّلِ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﷺ، فَفي هَذِهِ بِشارَةٌ بِأنَّ أهْلَ الإسْلامِ يَكْثُرُونَ جِدًّا.

ولَمّا ذَكَرَ عُذْرَ المَرِيضِ وبَدَأ بِهِ لِكَوْنِهِ أعَمَّ ولا قُدْرَةَ لِلْمَرِيضِ عَلى دَفْعِهِ، أتْبَعَهُ السَّفَرَ لِلتِّجارَةِ لِأنَّهُ يَلِيهِ في العُمُومِ، فَقالَ مُبَشِّرًا مَعَ كَثْرَةِ أهْلِ الإسْلامِ بِاتِّساعِ الأرْضِ لَهُمْ: ﴿وآخَرُونَ﴾ أيْ غَيْرُ المَرْضى ﴿يَضْرِبُونَ﴾ أيْ يُوقِعُونَ الضَّرْبَ ﴿فِي الأرْضِ﴾ أيْ يُسافِرُونَ لِأنَّ الماشِيَ بِجِدٍّ واجْتِهادٍ يَضْرِبُ الأرْضَ بِرِجْلِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بَيانَ عِلَّةِ الضَّرْبِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أيْ يَطْلُبُونَ طَلَبًا شَدِيدًا، وأشارَ إلى سِعَةِ ما عِنْدَ اللَّهِ بِكَوْنِهِ فَوْقَ أمانِيهِمْ فَقالَ: ﴿مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ أيْ بَعْضَ ما أوْجَدَهُ المَلِكُ الأعْظَمُ لِعِبادِهِ ولا حاجَةَ بِهِ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الرِّبْحِ في التِّجارَةِ أوْ تَعَلُّمِ العِلْمِ ﴿وآخَرُونَ﴾ أيْ مِنكم أيُّها المُسْلِمُونَ ﴿يُقاتِلُونَ﴾ أيْ يَطْلُبُونَ ويُوقِعُونَ قَتْلَ أعْداءِ اللَّهِ، ولِذَلِكَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (p-٣٤)﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ ذَلِكَ القَتْلُ مَظْرُوفٌ لِطَرِيقِ المَلِكِ الأعْظَمِ لِيَزُولَ عَنْ سُلُوكِهِ المانِعِ لِقَتْلِ قُطّاعِ الطَّرِيقِ المَعْنَوِيِّ والحِسِّيِّ، وأظْهَرَ ولَمْ يُضْمِرْ تَعْظِيمًا لِلْجِهادِ ولِئَلّا يَلْبَسَ بِالعُودِ إلى المَتْجَرِ، وهو نَدْبٌ لَنا مِنَ اللَّهِ إلى رَحْمَةِ العِبادِ والنَّظَرِ في أعْذارِهِمْ، فَمَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ، قالَ البَغَوِيُّ: رَوى إبْراهِيمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: أيُّما رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا مِن مَدِينَةٍ مِن مَدائِنِ المُسْلِمِينَ صابِرًا مُحْتَسِبًا فَباعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كانَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنزِلَةِ الشُّهَداءِ، ثُمَّ قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ﴾ الآيَةُ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: ما خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً أُمُوتُها بَعْدَ القَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتِي رِجْلٍ أضْرِبُ في الأرْضِ أبْتَغِي مِن فَضْلِ اللَّهِ.

ولَمّا كانَتْ هَذِهِ أعْذارًا أُخْرى مُقْتَضِيَةً لِلتَّرْخِيصِ أوْ أسْبابًا لِعَدَمِ الإحْصاءِ، رَتَّبَ عَلَيْها الحُكْمَ السّابِقَ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِلْقِراءَةِ بَيانًا لِمَزِيدِ عَظَمَتِها: ﴿فاقْرَءُوا﴾ أيْ كُلَّ واحِدٍ مِنكم ﴿ما تَيَسَّرَ﴾ أيْ لَكم ﴿مِنهُ﴾ أيِ القُرْآنُ، أضْمَرَهُ إعْلامًا بِأنَّهُ عَيْنُ السّابِقِ، فَصارَ الواجِبُ قِيامَ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ عَلى وجْهِ التَّيْسِيرِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ. ولَمّا كانَ صالِحًا لِأنْ يُرادَ [بِهِ -] الصَّلاةَ لِكَوْنِهِ أعْظَمَ أرْكانِها وأنْ يُرادَ بِهِ نَفْسُهُ مِن غَيْرِ صَلاةِ زِيادَةٍ في التَّخْفِيفِ، قالَ تَرْجِيحًا لِإرادَةِ هَذا الثّانِي (p-٣٥)أوْ تَنْصِيصًا عَلى إرادَةِ الأوَّلِ: ﴿وأقِيمُوا﴾ أيْ أوْجَدُوا إقامَةَ ﴿الصَّلاةَ﴾ المَكْتُوبَةَ بِجَمِيعِ الأُمُورِ الَّتِي تَقُومُ بِها مِن أرْكانِها وشُرُوطِها ومُقَدِّماتِها ومُتَمِّماتِها وهَيْئاتِها ومُحْسِناتِها ومُكْمِلاتِها.

ولَمّا ذَكَّرَ بِصِفَةِ الخالِقِ الَّتِي هي [أحَدُ -] عَمُودَيِ الإسْلامِ البَدَنِيِّ والمالِيِّ، أتْبَعُها العَمُودُ الآخَرُ وهو الوَصْلَةُ بَيْنَ الخَلائِقِ فَقالَ: ﴿وآتُوا﴾ مِن طِيبِ أمْوالِكُمُ الَّتِي أنْعَمْنا بِهِ عَلَيْكم ﴿الزَّكاةَ﴾ أيِ المَفْرُوضَةِ، ولَمّا كانَ المُرادُ الواجِبَ المَعْرُوفَ، أتْبَعَهُ سائِرَ الإنْفاقاتِ المَفْرُوضَةِ والمَندُوبَةِ، فَقالَ: ﴿وأقْرِضُوا اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْلى الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي مِنها الغِنى المُطْلَقُ، مِن أبْدانِكم وأمْوالِكم في أوْقاتِ صِحَّتِكم ويَسارِكم ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مِن نَوافِلِ الخَيْراتِ كُلِّها في جَمِيعِ شَرْعِهِ بِرَغْبَةٍ تامَّةٍ وعَلى هَيْئَةٍ جَمِيلَةٍ في ابْتِدائِهِ وانْتِهائِهِ وجَمِيعِ أحْوالِهِ، فَإنَّهُ مَحْفُوظٌ لَكم عِنْدَهُ مُبارَكٌ فِيهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْكم مُضاعَفًا أحْوَجَ ما تَكُونُونَ إلَيْهِ.

ولَمّا كانَ هَذا الدِّينُ جامِعًا، وكانَ هَذا القُرْآنُ حَكِيمًا لِأنَّ مَنزِلَهُ لَهُ صِفاتُ الكَمالِ فَأمَرَ في هَذِهِ الجُمَلِ بِأُمَّهاتِ الأعْمالِ اهْتِمامًا بِها، (p-٣٦)أتْبَعَ ذَلِكَ أمْرًا عامًّا بِجَمِيعِ شَرائِعِ الدِّينِ فَقالَ: ﴿وما تُقَدِّمُوا﴾ وحَثَّ عَلى إخْلاصِ النِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿لأنْفُسِكُمْ﴾ أيْ خاصَّةً سَلَفًا لِأجْلِ ما بَعْدَ المَوْتِ لا تَقْدِرُونَ عَلى الأعْمالِ ﴿مِن خَيْرٍ﴾ أيْ أيِّ خَيْرٍ كانَ مِن عِباداتِ البَدَنِ والمالِ ﴿تَجِدُوهُ﴾ مَحْفُوظًا لَكم ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ﴿هُوَ﴾ أيْ لا غَيْرُهُ ﴿خَيْرًا﴾ أيْ لَكُمْ، وجازَ وُقُوعُهُ الفَصْلَ بَيْنَ غَيْرِ مَعْرِفَتَيْنِ لِأنَّ ”أفْعَلَ مِن“ كالمَعْرِفَةِ، ولِذَلِكَ يَمْنَعُ دُخُولَ أداةِ التَّعْرِيفِ عَلَيْها.

ولَمّا كانَ [كُلُّ -] مَن عَمِلَ خَيْرًا جُوزِيَ عَلَيْهِ سَواءٌ كانَ عِنْدَ المَوْتِ أوْ في الحَياةِ سَواءٌ كانَ كافِرًا أوْ مُسْلِمًا مُخْلِصًا أوْ لا، إنْ كانَ مُخْلِصًا كانَ جَزاؤُهُ في الآخِرَةِ، وإلّا فَفي الدُّنْيا، [قالَ-]: ﴿وأعْظَمَ أجْرًا﴾ أيْ مِمّا لِمَن أوْصى في مَرَضِ المَوْتِ، و[كانَ -] بِحَيْثُ يُجازى بِهِ في الدُّنْيا.

ولَمّا كانَ الإنْسانُ إذا عَمِلَ ما يُمْدَحُ عَلَيْهِ ولا سِيَّما إذا كانَ المادِحُ (p-٣٧)لَهُ رَبَّهُ رُبَّما أدْرَكَهُ الإعْجابُ، بَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لا يَقْدِرُ بِوَجْهٍ عَلى أنْ يُقَدِّرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، فَلا يَزالُ مُقَصِّرًا فَلا يَسَعُهُ إلّا العَفْوُ بَلِ الغَفْرُ فَقالَ حاثًّا عَلى أنْ يَكُونَ خِتامُ الأعْمالِ بِالِاسْتِغْفارِ والِاعْتِرافِ بِالتَّقْصِيرِ في خِدْمَةِ المُتَكَبِّرِ الجَبّارِ مُشِيرًا إلى حالَةِ انْفِصالِ رُوحِهِ عَنْ بَدَنِهِ وأنَّ صَلاحَها الرّاحَةُ مِن كُلِّ شَرٍّ: ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ أيِ اطْلُبُوا وأوْجِدُوا سَتْرَ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا تُحِيطُونَ بِمَعْرِفَتِهِ [فَكَيْفَ -] بِأداءِ حَقِّ خِدْمَتِهِ لِتَقْصِيرِكم عَيْنًا وأثَرًا بِفِعْلِ ما يُرْضِيهِ واجْتِنابِ ما يُسْخِطُهُ.

ولَمّا عَلِمَ مِنَ السِّياقِ ومِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ أنَّهُ سُبْحانَهُ بالِغٌ في العَظَمَةِ إلى حَدٍّ يُؤَيِّسُ مِن إجابَتِهِ، عَلَّلَ الأمْرَ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا تَقْرِيبًا لِما يَسْتَبْعِدُهُ مَن يَسْتَحْضِرُ عَظَمَتَهُ سُبْحانَهُ وشَدَّةَ انْتِقامِهِ وقُوَّةَ بَطْشِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ وأظْهَرَ إعْلامًا بِأنَّ صِفاتَهُ لا تَقْتَصِرُ آثارُها عَلى المُسْتَغْفِرِينَ ولا عَلى مُطْلَقِ السّائِلِينَ ﴿غَفُورٌ﴾ أيْ بالِغُ السَّتْرِ لِأعْيانِ الذُّنُوبِ وآثارِها حَتّى لا يَكُونَ عَلَيْها عِتابٌ ولا عِقابٌ ﴿رَحِيمٌ﴾ أيْ بالِغُ الإكْرامِ بَعْدَ السَّتْرِ إفْضالًا وإحْسانًا وتَشْرِيفًا وامْتِنانًا، وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى شَرْحِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِيما أُوتِيَ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ «[اللَّهُمَّ -] أصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هو عِصْمَةُ أمْرِي وأصْلِحْ في دُنْيايَ الَّتِي فِيها مَعاشِي وأصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إلَيْها (p-٣٨)مُنْقَلَبِي واجْعَلِ الحَياةَ زِيادَةً لِي في كُلِّ خَيْرٍ واجْعَلِ المَوْتَ راحَةً لِي مِن كُلِّ شَرٍّ» كَما أُشِيرَ إلى كُلِّ جُمْلَةٍ مِنها في مَحَلِّها، ولَقَدْ رَجَعَ آخِرَ السُّورَةِ - بِالتَّرْغِيبِ في العَمَلِ وذِكْرِ جَزائِهِ - عَلى أوَّلِها الأمْرُ بِالقِيامِ بَيْنَ يَدَيْهِ وبِإشارَةِ الِاسْتِغْفارِ إلى عِظَمِ المَقامِ وإنْ جَلَّ العَمَلُ ودامَ وإنْ كانَ بِالقِيامِ في ظَلامِ اللَّيالِي والنّاسُ نِيامٌ، فَسُبْحانَهُ مَن لَهُ هَذا الكَلامُ المُعْجِزُ لِسائِرِ الأنامِ لِإحاطَتِهِ بِالجَلالِ والإكْرامِ، فَسُبْحانَهُ مِن إلَهٍ جابِرِ القُلُوبِ المُنْكَسِرَةِ.

Tafsir Resource

QUL supports exporting tafsir content in both JSON and SQLite formats. Tafsir text may include <html> tags for formatting such as <b>, <i>, etc.

Example JSON Format:

{
  "2:3": {
    "text": "tafisr text.",
    "ayah_keys": ["2:3", "2:4"]
  },
  "2:4": "2:3"
}
  • Keys in the JSON are "ayah_key" in "surah:ayah", e.g. "2:3" means 3rd ayah of Surah Al-Baqarah.
  • The value of ayah key can either be:
    • an object — this is the main tafsir group. It includes:
      • text: the tafsir content (can include HTML)
      • ayah_keys: an array of ayah keys this tafsir applies to
    • a string — this indicates the tafsir is part of a group. The string points to the ayah_key where the tafsir text can be found.

SQLite exports includes the following columns

  • ayah_key: the ayah for which this record applies.
  • group_ayah_key: the ayah key that contains the main tafsir text (used for shared tafsir).
  • from_ayah / to_ayah: start and end ayah keys for convenience (optional).
  • ayah_keys: comma-separated list of all ayah keys that this tafsir covers.
  • text: tafsir text. If blank, use the text from the group_ayah_key.