والتَّبَتُّلُ الِانْقِطاعُ. وهو تَفَعُّلٌ مِنَ البَتْلِ وهو القَطْعُ.
وَسُمِّيَتْ مَرْيَمُ عَلَيْها السَّلامُ البَتُولَ لِانْقِطاعِها عَنِ الأزْواجِ، وعَنْ أنْ يَكُونَ لَها نُظَراءُ مِن نِساءِ زَمانِها. فَفاقَتْ نِساءَ الزَّمانِ شَرَفًا وفَضْلًا. وقُطِعَتْ مِنهُنَّ.
وَمَصْدَرُ بَتَّلَ تَبَتُّلًا كالتَّعَلُّمِ والتَّفَهُّمِ، ولَكِنْ جاءَ عَلى التَّفْعِيلِ - مَصْدَرُ تَفَعَّلَ - لِسِرٍّ لِطَيْفٍ.
فَإنَّ في هَذا الفِعْلِ إيذانًا بِالتَّدْرِيجِ والتَّكَلُّفِ والتَّعَمُّلِ والتَّكَثُّرِ والمُبالَغَةِ.
فَأتى بِالفِعْلِ الدّالِّ عَلى أحَدِهِما، وبِالمَصْدَرِ الدّالِّ عَلى الآخَرِ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إلى اللَّهِ تَبْتِيلًا، وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبَتُّلًا. فَفُهِمَ المَعْنَيانِ مِنَ الفِعْلِ ومَصْدَرِهِ. وهَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ. وهو مِن أحْسَنِ الِاخْتِصارِ والإيجازِ.
(فَوائد ومواعظ)
بَين العَبْد وبَين الله والجنَّة قنطرة تقطع بخطوتين خطْوَة عَن نَفسه وخطوة عَن الخلق، فَيسْقط نَفسه ويلغيها فِيما بَينه وبَين النّاس، ويسْقط النّاس ويلغيهم فِيما بَينه وبَين الله، فَلا يلْتَفت إلّا إلى من دله على الله وعَلى الطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ.
صاح بالصحابة واعظُ ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم﴾ فَجَزِعت للخوف قُلُوبهم فجرت من الحذر العُيُون ﴿فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدرِها﴾
تزينت الدُّنْيا لعَلي فَقالَ أنْت طالِق ثَلاثًا لا رَجْعَة لي فِيك، وكانَت تكفيه واحِدَة للسنة، لكنه جمع الثَّلاث لِئَلّا يتَصَوَّر للهوى جَواز المُراجَعَة، ودينه الصَّحِيح وطبعه السَّلِيم يأنفان من المُحَلّل، كَيفَ وهو أحد رُواة حَدِيث لعن الله المُحَلّل؟!
ما في هَذِه الدّار مَوضِع خلْوَة، فاتخذه في نَفسك لا بُد أن تجذبك الجواذب فاعرفها، وكن مِنها على حذر.
لا تَضُرك الشواغل إذا خلوت مِنها وأنت فِيها نور الحق أضْوَأ من الشَّمْس، فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عَنهُ.
الطَّرِيق إلى الله خال من أهل الشَّك، ومن الَّذين يتبعُون الشَّهَوات، وهو معمور بِأهْل اليَقِين والصَّبْر، وهم على الطَّرِيق كالأعلام
﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يوقنون﴾.
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ التَّبَتُّلِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: ٨].
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
التَّبَتُّلُ الِانْقِطاعُ إلى اللَّهِ بِالكُلِّيَّةِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ﴾ [الرعد: ١٤] أيِ التَّجْرِيدِ المَحْضِ.
وَمُرادُهُ بِالتَّجْرِيدِ المَحْضِ التَّبَتُّلُ عَنْ مُلاحَظَةِ الأعْواضِ. بِحَيْثُ لا يَكُونُ المُتَبَتِّلُ كالأجِيرِ الَّذِي لا يَخْدِمُ إلّا لِأجْلِ الأُجْرَةِ. فَإذا أخَذَها انْصَرَفَ عَنْ بابِ المُسْتَأْجِرِ، بِخِلافِ العَبْدِ. فَإنَّهُ يَخْدِمُ بِمُقْتَضى عُبُودِيَّتِهِ، لا لِلْأُجْرَةِ. فَهو لا يَنْصَرِفُ عَنْ بابِ سَيِّدِهِ إلّا إذا كانَ آبِقًا. والآبِقُ قَدْ خَرَجَ مِن شَرَفِ العُبُودِيَّةِ. ولَمْ يَحْصُلْ لَهُ إطْلاقُ الحُرِّيَّةِ. فَصارَ بِذَلِكَ مَرْكُوسًا عِنْدَ سَيِّدِهِ وعِنْدَ عَبِيدِهِ. وغايَةُ شَرَفِ النَّفْسِ دُخُولُها تَحْتَ رِقِّ العُبُودِيَّةِ طَوْعًا واخْتِيارًا ومَحَبَّةً، لا كَرْهًا وقَهْرًا.
كَما قِيلَ:
؎شَرَفُ النُّفُوسِ دُخُولُها في رِقِّهِمْ ∗∗∗ والعَبْدُ يَحْوِي الفَخْرَ بِالتَّمْلِيكِ
والَّذِي حَسُنَ اسْتِشْهادُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ﴾ [الرعد: ١٤] في هَذا المَوْضِعِ: إرادَةُ هَذا المَعْنى. وأنَّهُ تَعالى صاحِبُ دَعْوَةِ الحَقِّ لِذاتِهِ وصِفاتِهِ. وإنْ لَمْ يُوجِبْ لِداعِيهِ بِها ثَوابًا. فَإنَّهُ يَسْتَحِقُّها لِذاتِهِ. فَهو أهْلٌ أنْ يُعْبَدَ وحْدَهُ، ويُدْعى وحْدَهُ، ويُقْصَدَ ويُشْكَرَ ويُحْمَدَ، ويُحَبَّ ويُرْجى ويُخافَ، ويُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، ويُسْتَعانَ بِهِ، ويُسْتَجارَ بِهِ، ويُلْجَأ إلَيْهِ، ويُصْمَدَ إلَيْهِ. فَتَكُونُ الدَّعْوَةُ الإلَهِيَّةُ الحَقُّ لَهُ وحْدَهُ.
وَمَن قامَ بِقَلْبِهِ هَذا - مَعْرِفَةً وذَوْقًا وحالًا - صَحَّ لَهُ مَقامُ التَّبَتُّلِ، والتَّجْرِيدِ المَحْضِ.
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ دَعْوَةَ الحَقِّ بِالتَّوْحِيدِ والإخْلاصِ فِيهِ والصِّدْقِ. ومُرادُهم هَذا المَعْنى.
فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْوَةُ الحَقِّ التَّوْحِيدُ.
وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: الدُّعاءُ بِالإخْلاصِ. والدُّعاءُ الخالِصُ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ.
وَدَعْوَةُ الحَقِّ دَعْوَةُ الإلَهِيَّةِ وحُقُوقُها وتَجْرِيدُها وإخْلاصُها.
[دَرَجاتُ التَّبَتُّلِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ عَنِ الحُظُوظِ واللُّحُوظِ إلى العالَمِ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ.
الدَّرَجَةُ الأُولى: تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ عَنِ الحُظُوظِ
واللُّحُوظُ إلى العالَمِ، خَوْفًا أوْ رَجاءً، أوْ مُبالاةً بِحالٍ.
قُلْتُ: التَّبَتُّلُ يَجْمَعُ أمْرَيْنِ اتِّصالًا وانْفِصالًا. لا يَصِحُّ إلّا بِهِما.
فالِانْفِصالُ: انْقِطاعُ قَلْبِهِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ المُزاحِمَةِ لِمُرادِ الرَّبِّ مِنهُ. وعَنِ التِفاتِ قَلْبِهِ إلى ما سِوى اللَّهِ، خَوْفًا مِنهُ، أوْ رَغْبَةً فِيهِ، أوْ مُبالاةً بِهِ، أوْ فِكْرًا فِيهِ، بِحَيْثُ يُشْغَلُ قَلْبُهُ عَنِ اللَّهِ.
والِاتِّصالُ: لا يَصِحُّ إلّا بَعْدَ هَذا الِانْفِصالِ. وهو اتِّصالُ القَلْبِ بِاللَّهِ، وإقْبالُهُ عَلَيْهِ، وإقامَةُ وجْهِهِ لَهُ، حُبًّا وخَوْفًا ورَجاءً، وإنابَةً وتَوَكُّلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ ما يُعِينُ عَلى هَذا التَّجْرِيدِ، وبِأيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ. فَقالَ:
بِحَسْمِ الرَّجاءِ بِالرِّضا، وقَطْعِ الخَوْفِ بِالتَّسْلِيمِ، ورَفْضِ المُبالاةِ بِشُهُودِ الحَقِيقَةِ.
يَقُولُ: إنَّ الَّذِي يَحْسِمُ مادَّةَ رَجاءِ المَخْلُوقِينَ مِن قَلْبِكَ هو الرِّضا بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وقَسْمِهِ لَكَ.
فَمَن رَضِيَ بِحُكْمِ اللَّهِ وقَسْمِهِ، لَمْ يَبْقَ لِرَجاءِ الخَلْقِ في قَلْبِهِ مَوْضِعٌ.
والَّذِي يَحْسِمُ مادَّةَ الخَوْفِ هو التَّسْلِيمُ لِلَّهِ. فَإنَّ مَن سَلَّمَ لِلَّهِ واسْتَسْلَمَ لَهُ، وعَلِمَ أنَّ ما أصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أخْطَأهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وعَلِمَ أنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُ - لَمْ يَبْقَ لِخَوْفِ المَخْلُوقِينَ في قَلْبِهِ مَوْضِعٌ أيْضًا.
فَإنَّ نَفْسَهُ الَّتِي يَخافُ عَلَيْها قَدْ سَلَّمَها إلى ولِيِّها ومَوْلاها.
وَعَلِمَ أنَّهُ لا يُصِيبُها إلّا ما كُتِبَ لَها. وأنَّ ما كُتِبَ لَها لا بُدَّ أنْ يُصِيبَها.
فَلا مَعْنى لِلْخَوْفِ مِن غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهٍ.
وَفِي التَّسْلِيمِ أيْضًا فائِدَةٌ لَطِيفَةٌ. وهي أنَّهُ إذا سَلَّمَها اللَّهُ فَقَدْ أوْدَعَها عِنْدَهُ. وأحْرَزَها في حِرْزِهِ. وجَعَلَها تَحْتَ كَنَفِهِ. حَيْثُ لا تَنالُها يَدُ عَدُوٍّ عادٍ، ولا بَغْيُ باغٍ عاتٍ.
والَّذِي يَحْسِمُ مادَّةَ المُبالاةِ بِالنّاسِ شُهُودُ الحَقِيقَةِ. وهو رُؤْيَةُ الأشْياءِ كُلَّها مِنَ اللَّهِ، وبِاللَّهِ، وفي قَبْضَتِهِ، وتَحْتَ قَهْرِهِ وسُلْطانِهِ. لا يَتَحَرَّكُ مِنها شَيْءٌ إلّا بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ. ولا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ إلّا بِإذْنِهِ ومَشِيئَتِهِ.
فَما وجْهُ المُبالاةِ بِالخَلْقِ بَعْدَ هَذا الشُّهُودِ؟
[الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلى النَّفْسِ بِمُجانَبَةِ الهَوى]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلى النَّفْسِ بِمُجانَبَةِ الهَوى.
وَتَنَسُّمِ رَوْحِ الأُنْسِ، وشَيْمِ بَرْقِ الكَشْفِ.
الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ والَّتِي قَبْلَها: أنَّ الأُولى انْقِطاعٌ عَنِ الخَلْقِ، وهَذِهِ انْقِطاعٌ عَنِ النَّفْسِ. وجَعَلَهُ بِثَلاثَةِ أشْياءَ:
أوَّلُها: مُجانَبَةُ الهَوى ومُخالَفَتُهُ ونَهْيُ نَفْسِهِ عَنْهُ؛ لِأنَّ اتِّباعَهُ يَصُدُّ عَنِ التَّبَتُّلِ.
وَثانِيها: - وهو بَعْدَ مُخالَفَةِ الهَوى - تَنَسُّمُ رَوْحِ الأُنْسِ بِاللَّهِ، والرَّوْحُ لِلرُّوحِ كالرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَهو رُوحُها وراحَتُها.
وَإنَّما حَصَلَ لَهُ هَذا الرَّوْحُ لَمّا أعْرَضَ عَنْ هَواهُ. فَحِينَئِذٍ تَنَسَّمَ رَوْحَ الأُنْسِ بِاللَّهِ. ووَجَدَ رائِحَتَهُ. إذِ النَّفْسُ لا بُدَّ لَها مِنَ التَّعَلُّقِ. فَلَمّا انْقَطَعَ تَعَلُّقُها مِن هَواها وجَدَتْ رَوْحَ الأُنْسِ بِاللَّهِ. وهَبَّتْ عَلَيْها نَسَماتُهُ. فَرَيَّحَتْها وأحْيَتْها.
وَثالِثُها: شَيْمُ بَرْقِ الكَشْفِ. وهو مُطالَعَتُهُ واسْتِشْرافُهُ، والنَّظَرُ إلَيْهِ. لِيَعْلَمَ بِهِ مَواقِعَ الغَيْثِ ومَساقِطَ الرَّحْمَةِ.
وَلَيْسَ مُرادُهُ بِالكَشْفِ هاهُنا الكَشْفُ الجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ، المُشْتَرَكُ بَيْنَ البَرِّ والفاجِرِ، والمُؤْمِنِ والكافِرِ، كالكَشْفِ عَنْ مُخَبَّآتِ النّاسِ ومَسْتُورِهِمْ. وإنَّما هو الكَشْفُ عَنْ ثَلاثَةِ أشْياءَ، هُنَّ مُنْتَهى كَشْفِ الصّادِقِينَ أرْبابِ البَصائِرِ.
أحَدُها: الكَشْفُ عَنْ مَنازِلِ السَّيْرِ.
والثّانِي: الكَشْفُ عَنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وآفاتِ الأعْمالِ ومُفَسَّداتِها.
والثّالِثُ: الكَشْفُ عَنْ مَعانِي الأسْماءِ والصِّفاتِ، وحَقائِقِ التَّوْحِيدِ والمَعْرِفَةِ.
وَهَذِهِ الأبْوابُ الثَّلاثَةُ هي مَجامِعُ عُلُومِ القَوْمِ. وعَلَيْها يَحُومُونَ. وحَوْلَها يُدَنْدِنُونَ. وإلَيْها يُشَمِّرُونَ. فَمِنهم مَن جُلُّ كَلامِهِ ومُعْظَمُهُ في السَّيْرِ وصِفَةِ المَنازِلِ. ومِنهم مَن جُلُّ كَلامِهِ في الآفاتِ والقَواطِعِ. ومِنهم مَن جُلُّ كَلامِهِ في التَّوْحِيدِ والمَعْرِفَةِ، وحَقائِقِ الأسْماءِ والصِّفاتِ.
والصّادِقُ الذَّكِيُّ يَأْخُذُ مِن كُلٍّ مِنهم ما عِنْدَهُ مِنَ الحَقِّ. فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلى مَطْلَبِهِ. ولا يَرُدُّ ما يَجِدُهُ عِنْدَهُ مِنَ الحَقِّ لِتَقْصِيرِهِ في الحَقِّ الآخَرِ. ويَهْدِرُهُ بِهِ. فالكَمالُ المُطْلَقُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وما مِنَ العِبادِ إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
[الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ إلى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقامَةِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطاعِ إلى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقامَةِ، والِاسْتِغْراقِ في قَصْدِ الوُصُولِ، والنَّظَرِ إلى أوائِلِ الجَمْعِ.
لَمّا جَعَلَ الدَّرَجَةَ الأُولى انْقِطاعًا عَنِ الخَلْقِ، والثّانِيَةُ انْقِطاعًا عَنِ النَّفْسِ، جَعَلَ الثّالِثَةَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ. وجَعَلَهُ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقامَةِ. وهي الإعْراضُ عَمّا سِوى الحَقِّ. ولُزُومُ الإقْبالِ عَلَيْهِ، والِاشْتِغالِ بِمَحابِّهِ. ثُمَّ بِالِاسْتِغْراقِ في قَصْدِ الوُصُولِ.
وَهُوَ أنْ يَشْغَلَهُ طَلَبُ الوُصُولِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ هُمُومَهُ وعَزائِمَهُ وإرادَتَهُ وأوْقاتَهُ. وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ بُدُوِّ بَرْقِ الكَشْفِ المَذْكُورِ لَهُ.
وَأمّا النَّظَرُ إلى أوائِلِ الجَمْعِ فالجَمْعُ هو قِيامُ الخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالحَقِّ وحْدَهُ. وقِيامُهُ عَلَيْهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ والتَّدْبِيرِ.
والنَّظَرُ إلى أوائِلِ ذَلِكَ هو الِالتِفاتُ إلى مُقَدِّماتِهِ وبِداياتِهِ. وهي العَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنها عَلى وادِي الفَناءِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّها وقْفَةٌ تَعْتَرِضُ القاطِعَ لِأوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلى الجَمْعِ. ومِنها يُشْرِفُ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الوَقْفَةُ تَعْتَرِضُ كُلَّ طالِبِ مَجْدٍ في طَلَبِهِ. فَمِنها يَرْجِعُ عَلى عَقِبِهِ، أوْ يَصِلُ إلى مَطْلَبِهِ كَما قِيلَ:
لابُدَّ لِلْعاشِقِ مِن وقْفَةٍ
ما بَيْنَ سُلْوانٍ وبَيْنَ غَرامِ ... وعِنْدَها يَنْقِلُ أقْدامَهُ إمّا إلى خَلْفٍ وإمّا أمامِ
والَّذِي يَظْهَرُ لِي مِن كَلامِهِ أنَّ أوائِلَ الجَمْعِ مَبادِئُهُ ولَوائِحُهُ وبَوارِقُهُ.
وَبَعْدَ هَذا دَرَجَةٌ رابِعَةٌ. وهي الِانْقِطاعُ عَنْ مُرادِهِ مِن رَبِّهِ. والفَناءُ عَنْهُ إلى مُرادِ رَبِّهِ مِنهُ، والفَناءِ بِهِ. فَلا يُرِيدُ مِنهُ، بَلْ يُرِيدُ ما يُرِيدُهُ، مُنْقَطِعًا بِهِ عَنْ كُلِّ إرادَةٍ. فَيَنْظُرُ في أوائِلِ الجَمْعِ في مُرادِهِ الدِّينِيِّ الأمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ.
وَأكْثَرُ أرْبابِ السُّلُوكِ عِنْدَهُمْ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ فَرْقٌ، ﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ جَمْعٌ.
ثُمَّ مِنهم مَن يَرى أنَّ تَرْكَ الجَمْعِ زَنْدَقَةٌ وكُفْرٌ. فَهو يُعْرِضُ عَنِ الجَمْعِ إلى الفَرْقِ.
وَمِنهم مَن يَرى أنَّ مَقامَ التَّفْرِقَةِ ناقِصٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. ويَرى سُوءَ حالِ أهْلِهِ وتَشَتُّتَهم. فَيَرْغَبُ عَنْهُ عامِلًا عَلى الجَمْعِ.
يَتَوَجَّهُ مَعَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ رَكائِبُهُ.
والمُسْتَقِيمُونَ مِنهم يَقُولُونَ: لا بُدَّ لِلْعَبْدِ السّالِكِ مِن جَمْعٍ وفَرْقٍ، وقِيامُ العُبُودِيَّةِ بِهِما. فَمَن لا تَفْرِقَةَ لَهُ لا عُبُودِيَّةَ لَهُ. ومَن لا جَمْعَ لَهُ لا مَعْرِفَةَ لَهُ ولا حالَ.
فَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ فَرْقٌ. ﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ جَمْعٌ.
والحَقُّ: أنَّ كُلًّا مِن مَشْهَدَيْ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مُتَضَمِّنٌ لِلْفَرْقِ والجَمْعِ، وكَمالُ العُبُودِيَّةِ بِالقِيامِ بِهِما في كُلِّ مَشْهَدٍ.
فَفَرْقُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ تَنَوُّعُ ما يُعْبَدُ بِهِ، وكَثْرَةُ تَعَلُّقاتِهِ وضُرُوبِهِ.
وَجَمْعُهُ: تَوْحِيدُ المَعْبُودِ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وإرادَةُ وجْهِهِ وحْدَهُ، والفَناءُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ ومُرادٍ يُزاحِمُ حَقَّهُ ومُرادَهُ.
فَتَضَمَّنَ هَذا المَشْهَدُ فَرْقًا في جَمْعٍ، وكَثْرَةً في وحْدَةٍ. فَصاحِبُهُ يَتَنَقَّلُ في مَنازِلَ العُبُودِيَّةِ مِن عِبادَةٍ إلى عِبادَةٍ، ومَعْبُودٍ واحِدٍ، لا إلَهَ إلّا هو.
وَأمّا فَرْقُ: ﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فَشُهُودُ ما يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، ومَرْتَبَتَهُ ومَنزِلَتَهُ، ومَحَلَّهِ مِنَ النَّفْعِ والضُّرِّ، وبِدايَتَهُ وعاقِبَتَهُ، واتِّصالَهُ - بَلْ وانْفِصالَهُ - وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن هَذا الِاتِّصالِ والِانْفِصالِ.
وَيَشْهَدُ - مَعَ ذَلِكَ - فَقْرَ المُسْتَعِينِ وحاجَتَهُ ونَقْصَهُ، وضَرُورَتَهُ إلى كَمالاتِهِ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ في تَحْصِيلِها، وآفاتَهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ في دَفْعِها. ويَشْهَدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِعانَةِ وكِفايَةَ المُسْتَعانِ بِهِ.
وَهَذا كُلُّهُ فَرْقٌ يُثْمِرُ عُبُودِيَّةَ هَذا المَشْهَدِ.
وَأمّا جَمْعُهُ: فَشُهُودُ تَفَرُّدِهِ سُبْحانَهُ بِالأفْعالِ، وصُدُورِ الكائِناتِ بِأسْرِها عَنْ مَشِيئَتِهِ، وتَصْرِيفِها بِإرادَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
فَغَيْبَتُهُ بِهَذا المَشْهَدِ عَمّا قَبْلَهُ مِنَ الفَرْقِ: نَقْصٌ في العُبُودِيَّةِ، كَما أنَّ تَفَرُّقَهُ في الَّذِي قَبْلَهُ دُونَ مُلاحَظَتِهِ: نَقْصٌ أيْضًا. والكَمالُ إعْطاءُ الفَرْقِ والجَمْعِ حَقَّهُما في هَذا المَشْهَدِ والمَشْهَدِ الأوَّلِ.
فَتَبَيَّنَ تَضَمُّنُ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لِلْجَمْعِ والفَرْقِ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
QUL supports exporting tafsir content in both JSON and SQLite formats.
Tafsir text may include <html>
tags for formatting such as <b>
,
<i>
, etc.
Note:
Tafsir content may span multiple ayahs. QUL exports both the tafsir text and the ayahs it applies to.
Example JSON Format:
{ "2:3": { "text": "tafisr text.", "ayah_keys": ["2:3", "2:4"] }, "2:4": "2:3" }
"ayah_key"
in "surah:ayah"
, e.g. "2:3"
means
3rd ayah of Surah Al-Baqarah.
text
: the tafsir content (can include HTML)ayah_keys
: an array of ayah keys this tafsir applies toayah_key
where the tafsir text can be found.
ayah_key
: the ayah for which this record applies.group_ayah_key
: the ayah key that contains the main tafsir text (used for shared tafsir).
from_ayah
/ to_ayah
: start and end ayah keys for convenience (optional).ayah_keys
: comma-separated list of all ayah keys that this tafsir covers.text
: tafsir text. If blank, use the text
from the group_ayah_key
.