﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ أيْ زَمانا أقَلَّ مِنهُما اسْتُعْمِلَ فِيهِ الأدْنى وهو اسْمُ تَفْضِيلٍ مِن دَنا إذا قَرُبَ لِما أنَّ المَسافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذا دَنَتْ قَلَّ ما بَيْنَهُما مِنَ الأحْيازِ فَهو فِيهِ مَجازٌ مُرْسَلٌ لِأنَّ القُرْبَ يَقْتَضِي قِلَّةَ الأحْيازِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فاسْتُعْمِلَ في لازِمِهِ أوْ في مُطْلَقِ القِلَّةِ وجَوَّزَ اعْتِبارَ التَّشْبِيهِ بَيْنَ القُرْبِ والقِلَّةِ لِيَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ والإرْسالُ أقْرَبُ وقَرَأ الحَسَنُ وشَيْبَةُ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ السَّمَيْفِعِ وهِشامٌ وابْنُ مُجاهِدٍ عَنْ قُنْبُلٍ فِيما ذَكَرَ صاحِبُ الكامِلِ «ثُلْثَيِ» بِإسْكانِ اللّامِ وجاءَ ذَلِكَ عَنْ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ فِيما ذَكَرَ صاحِبُ اللَّوامِحِ.
﴿ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى ﴿أدْنى﴾ كَأنَّهُ قِيلَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ أقَلَّ مِن ثُلْثَيْهِ وتَقُومُ نِصْفَهُ وتَقُومُ ثُلْثَهُ وقَرَأ العَرَبِيّانِ ونافِعٌ ونِصْفِهِ وثُلْثِهِ بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى ﴿ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ أيْ تَقُومُ أقَلَّ مِنَ الثُّلْثَيْنِ وأقَلَّ مِنَ النِّصْفِ وأقَلَّ مِنَ الثُّلْثِ والأوَّلُ مُطابِقٌ لِكَوْنِ التَّخْيِيرِ فِيما مَرَّ بَيْنَ قِيامِ النِّصْفِ بِتَمامِهِ وبَيْنَ قِيامِ النّاقِصِ مِنهُ وهو الثُّلْثُ وبَيْنَ قِيامِ الزّائِدِ عَلَيْهِ وهو الأدْنى مِنَ الثُّلْثَيْنِ والثّانِي مُطابِقٌ لِكَوْنِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ النِّصْفِ وهو أدْنى مِنَ الثُّلْثَيْنِ وبَيْنَ الثُّلْثِ وهو أدْنى مِنَ النِّصْفِ وبَيْنَ الرُّبْعِ وهو أدْنى مِنَ الثُّلْثِ كَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ فَلا تَغْفُلْ واسْتُشْكِلَ الأمْرُ بِأنَّ التَّفاوُتَ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ ظاهِرٌ فَكَيْفَ وجَّهَ صِحَّةَ عَلِمِ اللَّهِ تَعالى لِمَدْلُولِها وهُما لا يَجْتَمِعانِ وأُجِيبُ بِأنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الأوْقاتِ فَوَقَعَ كُلٌّ في وقْتٍ فَكانا مَعْلُومَيْنِ لَهُ تَعالى واسْتُشْكِلَ أيْضًا هَذا المَقامُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الأمْرِ وارِدًا بِالأكْثَرِ بِأنَّهُ يَلْزَمُ إمّا مُخالَفَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِما أُمِرَ بِهِ أوِ اجْتِهادُهُ والخَطَأُ
صفحة 111
فِي مُوافَقَةِ الأمْرِ وكَلاهُما غَيْرُ صَحِيحٍ.أمّا الأوَّلُ فَظاهِرٌ لا سِيَّما عَلى كَوْنِ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ مَن جَوَّزَ اجْتِهادَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والخَطَأ فِيهِ يَقُولُ إنَّهُ لا يُقِرُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى الخَطَأِ وأُجِيبُ بِالتِزامِ أنَّ الأمْرَ وارِدٌ بِالأقَلِّ لَكِنَّهم زادُوا حَذَرًا مِنَ الوُقُوعِ في المُخالَفَةِ وكانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وعِلْمُ اللَّهِ سُبْحانَهُ أنَّهم لَوْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالأشَقِّ وقَعُوا في المُخالَفَةِ فَنَسَخَ سُبْحانَهُ الأمْرَ كَذا قِيلَ فَتَأمَّلْ فالمَقامُ بَعْدُ مُحْتاجٌ إلَيْهِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ شِبْلٍ «وثُلْثَهُ» بِإسْكانِ اللّامِ ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ عُطِفَ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في ﴿تَقُومُ﴾ وحَسَّنَهُ الفَصْلُ بَيْنَهُما أيْ وتَقُومُ مَعَكَ طائِفَةٌ مِن أصْحابِكَ ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ لا يَعْلَمُ مَقادِيرَ ساعاتِهِما كَما هي ( إلّا ) اللَّهُ تَعالى.
فَإنَّ تَقْدِيمَ اسْمِهِ تَعالى مُبْتَدَأً مَبْنِيًّا عَلَيْهِ يُقَدِّرُ دالٌّ عَلى الِاخْتِصاصِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ جارُ اللَّهِ ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ فَإنَّ الضَّمِيرَ لِمَصْدَرٍ يُقَدَّرُ لا لِلْقِيامِ المَفْهُومِ مِنَ الكَلامِ والمَعْنى عَلِمَ أنَّ الشَّأْنَ لَنْ تَقْدِرُوا عَلى تَقْدِيرِ الأوْقاتِ ولَنْ تَسْتَطِيعُوا ضَبْطَ السّاعاتِ ولا يَتَأتّى لَكم حِسابُها بِالتَّعْدِيلِ والتَّسْوِيَةِ ( إلّا ) أنْ تَأْخُذُوا بِالأوْسَعِ لِلِاحْتِياطِ وذَلِكَ شاقٌّ عَلَيْكم بالِغٌ مِنكم ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ بِالتَّرْخِيصِ في تَرْكِ القِيامِ المُقَدَّرِ ورَفْعِ التَّبِعَةِ عَنْكم في تَرْكِهِ فالكَلامُ عَلى الِاسْتِعارَةِ حَيْثُ شَبَّهَ التَّرْخِيصَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ في رَفْعِ التَّبِعَةِ واسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ الشّائِعُ في المُشَبَّهِ بِهِ في المُشَبَّهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكم فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ [اَلْبَقَرَةِ: 187] وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ عَلى ما يَتَبادَرُ مِنهُ فَقالَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن تَرَكَ بَعْضَ ما أُمِرَ بِهِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ.
﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ أيْ فَصَلُّوا ما تَيَسَّرَ لَكم مِن صَلاةِ اللَّيْلِ عَبَّرَ عَنِ الصَّلاةِ بِالقِراءَةِ كَما عَبَّرَ عَنْها بِسائِرِ أرْكانِها. وقِيلَ الكَلامُ عَلى حَقِيقَتِهِ مِن طَلَبِ قِراءَةِ القُرْآنِ بِعَيْنِها وفِيهِ بُعْدٌ عَنْ مُقْتَضى السِّياقِ ومَن ذَهَبَ أيِ الأوَّلُ قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى افْتَرَضَ قِيامَ مِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ اللَّيْلِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ إلَخِ ثُمَّ نَسَخَ بِقِيامِ مِقْدارٍ ما مِنهُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا﴾ الآيَةَ فالأمْرُ في المَوْضِعَيْنِ لِلْوُجُوبِ ( إلّا ) أنَّ الواجِبَ أوَّلًا كانَ مُعَيَّنًا مِن مُعَيَّناتٍ وثانِيًا كانَ بَعْضًا مُطْلَقًا ثُمَّ نَسَخَ وُجُوبَ القِيامِ عَلى الأُمَّةِ مُطْلَقًا بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ ومَن ذَهَبَ إلى الثّانِي قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى رَخَّصَ لَهم في تَرْكِ جَمِيعِ القِيامِ وأمَرَ بِقِراءَةِ شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ لَيْلًا فَكَأنَّهُ قِيلَ فَتابَ عَلَيْكم ورَخَّصَ في التَّرْكِ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ إنْ شَقَّ عَلَيْكُمِ القِيامُ فَإنَّ هَذا لا يَشُقُّ وتَنالُونَ بِهَذِهِ القِراءَةِ ثَوابَ القِيامِ وصَرَّحَ جَمْعٌ أنَّ ﴿فاقْرَءُوا﴾ عَلى هَذا أمْرٌ نُدِبَ بِخِلافِهِ عَلى الأوَّلِ هَذا.
واعْلَمْ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أمْرِ التَّهَجُّدِ فَعَنْ مُقاتِلٍ وابْنِ كِيسانَ أنَّهُ كانَ فَرْضًا بِمَكَّةَ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصَّلَواتُ الخَمْسُ ثُمَّ نُسِخَ بِهِنَّ ( إلّا ) ما تَطَوَّعُوا بِهِ ورَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في حَدِيثِ جابِرٍ، ورَوى الإمامُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والدّارِمِيُّ وابْنُ ماجَّةَ والنِّسائِيُّ «عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشامٍ قالَ قُلْتُ لِعائِشَةَ: يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ أنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَتْ: ألَسْتَ تَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلى قالَتْ: فَإنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ تَعالى القُرْآنُ قالَ: فَهَمَمْتُ أنْ أقُومَ ولا أسْألَ أحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتّى أمُوتَ ثُمَّ بَدا لِي فَقُلْتُ أنْبِئِينِي عَنْ قِيامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: ألَسْتَ تَقْرَأُ يا أيُّها المُزَّمِّلُ؟ قُلْتُ: بَلى، قالَتْ: فَإنَّ اللَّهَ تَعالى افْتَرَضَ قِيامَ اللَّيْلِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقامَ نَبِيُّ اللَّهِ وأصْحابُهُ حَوْلًا وأمْسَكَ اللَّهُ تَعالى خاتِمَتَها اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا في السَّماءِ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في آخِرِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ وصارَ قِيامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا.
وفِي رِوايَةٍ عَنْها أنَّهُ دامَ ذَلِكَ ثَمانِيَةَ أشْهُرٍ» وعَنْ قَتادَةَ دامَ عامًا أوْ عامَيْنِ وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ كانَ واجِبًا وإنَّما وقَعَ التَّخْيِيرُ في المِقْدارِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ وكانَ الرَّجُلُ كَما قالَ الكَلْبِيُّ يَقُومُ حَتّى يُصْبِحَ مَخافَةَ أنْ لا يَحْفَظَ ما بَيْنَ النِّصْفِ والثُّلُثِ والثُّلْثَيْنِ وقِيلَ كانَ نَفْلًا بِدَلِيلِ التَّخْيِيرِ في المِقْدارِ وقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾ [اَلْإسْراءِ: 79] حَكاهُ غَيْرُ واحِدٍ وبَحَثُوا فِيهِ لَكِنْ قالَ الإمامُ صاحِبُ الكَشْفِ لَمْ يَرِدْ هَذا القائِلُ إنَّ التَّخْيِيرَ يُنافِي الوُجُوبَ بَلِ اسْتَدَلَّ بِالِاسْتِقْراءِ وإنَّ الفَرائِضَ لَها أوْقاتٌ مَحْدُودَةٌ
صفحة 112
مُتَّسِعَةً كانَتْ أوْ ضَيِّقَةً لَمْ يُفَوِّضِ التَّحْدِيدَ إلى رَأْيِ الفاعِلِ وهو دَلِيلٌ حَسَنٌ.وأمّا القائِلُ بِالفَرْضِيَّةِ فَقَدْ نَظَرَ إلى اللَّفْظِ دُونَ الدَّلِيلِ الخارِجِيِّ ولِكُلٍّ وجْهٌ وأمّا قَوْلُهُ ولِقَوْلِهِ تَعالى ( ومِنَ اللَّيْلِ )إلَخِ فالِاسْتِدْلالُ بِأنَّهُ فَسَرَّ ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ أنَّ مَعْناهُ زائِدَةٌ عَلى الفَرائِضِ لَكَ خاصَّةً دُونَ غَيْرِكَ لِأنَّها تَطَوُّعُ لَهم وهَذا القائِلُ لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ في حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنَّما يَمْنَعُهُ في حَقِّ غَيْرِهِ ﷺ والآيَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَلا نَظَرَ فِيهِ ثُمَّ إنَّهُ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ في تِلْكَ السُّورَةِ ( ومِنَ اللَّيْلِ ) أيْ خَصَّ بَعْضَ اللَّيْلِ دُونَ تَوْقِيتٍ وهاهُنا وقَّتَ جَلَّ وعَلا ودَلَّ عَلى مُشارَكَةِ الأُمَّةِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ نَزَلَ ما ثَمَّ عَلى الوُجُوبِ عَلَيْهِ ﷺ خاصَّةً.
وهاهُنا عَلى التَّنَفُّلِ في حَقِّهِ وحَقِّ الأُمَّةِ وهَذا قَوْلٌ سَدِيدٌ ( إلّا ) أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ يُؤَيِّدُ الأوَّلَ انْتَهى وعَنى بِالأوَّلِ القَوْلَ بِالفَرْضِيَّةِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَلى الأُمَّةِ وظَواهِرُ الآثارِ الكَثِيرَةُ تَشْهَدُ لَهُ لَكِنْ في البَحْرِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلى الجَمِيعِ إذْ لَوْ كانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لَكانَ التَّرْكِيبُ ( ( واَلَّذِينَ مَعَكَ) ( إلّا ) أنْ أعْتَقِدَ أنَّهُ كانَ مِنهم مَن يَقُومُ في بَيْتِهِ ومِنهم مَن يَقُومُ مَعَهُ فَيُمْكِنُ إذْ ذاكَ الفَرْضِيَّةُ في حَقِّ الجَمِيعِ انْتَهى وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ ﴿مِن﴾ تَبْعِيضِيَّةً بَلْ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ بَيانِيَّةً ومَن يَقُولُ بِالفَرْضِيَّةِ عَلى الكُلِّ صَدَرَ الإسْلامُ بِحَمْلِها عَلى ذَلِكَ دُونَ البَعْضِيَّةِ بِاعْتِبارِ المَعِيَّةِ فَإنَّها لَيْسَتْ بِذاكَ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وأفادَتِ الآيَةُ عَلى القَوْلِ الأخِيرِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿فاقْرَءُوا﴾ إلَخِ نَدْبَ قِراءَةِ شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ لَيْلًا وفي بَعْضِ الآثارِ «مَن قَرَأ مِائَةَ آيَةٍ في لَيْلَةٍ لَمْ يُحاجَّهُ القُرْآنُ» وفي بَعْضِها «مَن قَرَأ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القانِتِينَ» وفي بَعْضٍ خمْسِنَ آيَةً والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنَ القَوْلَيْنِ فِيهِ القَوْلُ الأوَّلُ وقَدْ سَمِعْتَ أنَّ الأمْرَ عَلَيْهِ لِلْإيجابِ وأنَّهُ كانَ يَجِبُ قِيامُ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ عَنِ الأُمَّةِ بِوُجُوبِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ فَهو اليَوْمَ في حَقِّ الأُمَّةِ سُنَّةٌ وفي البَحْرِ بَعْدَ تَفْسِيرِ ﴿فاقْرَءُوا﴾ يُصَلُّوا وحِكايَةُ ما قِيلَ مِنَ النَّسْخِ وهَذا الأمْرُ عِنْدَ الجُمْهُورِ أمْرُ إباحَةٍ وقالَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ قِيامُ اللَّيْلِ فَرْضٌ ولَوْ قَدْرَ حَلْبَ شاةٍ وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وجَماعَةٌ هو فَرْضٌ لا بُدَّ مِنهُ ولَوْ بِمِقْدارِ خَمْسِينَ آيَةً انْتَهى.
وظاهِرُ سِياقِهِ أنَّ هَؤُلاءِ قائِلُونَ بِوُجُوبِهِ اليَوْمَ وأنَّهُ لَمْ يَنْسَخِ الوُجُوبَ مُطْلَقًا وإنَّما نَسَخَ وُجُوبَ مُعَيَّنٍ وهَذا خِلافُ المَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ سَقَطَ قِيامُ اللَّيْلِ عَنْ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وصارَ تَطَوُّعًا وبَقِيَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأظُنُّ الأمْرَ غَنِيًّا عَنِ الِاسْتِدْلالِ فَلْنَطْوِ بِساطَ القِيلَ والقالَ نَعَمْ كانَ السَّلَفُ الصّالِحُ يُثابِرُونَ عَلى القِيامِ مُثابَرَتَهم عَلى فَرائِضِ الإسْلامِ لِما في ذَلِكَ مِنَ الخَلْوَةِ بِالحَبِيبِ والأُنْسِ بِهِ وهو القَرِيبُ مِن غَيْرِ رَقِيبٍ نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يُوَفِّقَنا كَما وفَّقَهم ويَمُنَّ عَلَيْنا كَما ( مَنَّ ) عَلَيْهِمْ.
بَقِيَ هُنا بَحْثٌ وهو أنَّ الإمامَ أبا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ عَلى أنَّ الفَرْضَ في الصَّلاةِ مُطْلَقُ القِراءَةِ لا الفاتِحَةُ بِخُصُوصِها وهو ظاهِرٌ عَلى القَوْلِ بِأنَّهُ عَبَّرَ فِيهِ عَنِ الصَّلاةِ بِرُكْنِها وهو القِراءَةُ كَما عَبَّرَ عَنْها بِالسُّجُودِ والقِيامِ والرُّكُوعِ في مَواضِعَ وقَدَّرَ ما تَيَسَّرَ بِآيَةٍ عَلى ما حَكاهُ عَنْهُ الماوَرْدِيُّ وبِثُلْثٍ عَلى ما حَكاهُ عَنْهُ ابْنُ العَرَبِيِّ والمَسْألَةُ مُقَرَّرَةٌ في الفُرُوعِ وخَصَّ الشّافِعِيُّ ومالِكٌ ما تَيَسَّرَ بِالفاتِحَةِ واحْتَجُّوا عَلى وُجُوبِ قِراءَتِها في الصَّلاةِ بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ
مِنها ما نَقَلَ أبُو حامِدٍ الأسْفَرايِنِيُّ عَنِ ابْنِ المُنْذِرِ بِإسْنادِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لا تَجْزِي صَلاةٌ لا يُقْرَأُ فِيها بِفاتِحَةِ الكِتابِ» .
ومِنها ما رُوِيَ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ ﷺ: «كُلُّ صَلاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيها بِفاتِحَةِ الكِتابِ فَهي خِداجٌ فَهي خِداجٌ» .
أيْ نُقْصانٌ لِلْمُبالَغَةِ أوْ ذُو نُقْصانٍ واعْتَرَضَ بِأنَّ النُّقْصانَ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الجَوازِ وأُجِيبُ بِأنَّهُ يَدُلُّ لِأنَّ التَّكْلِيفَ بِالصَّلاةِ قائِمٌ والأصْلُ في الثّابِتِ البَقاءُ خالَفْناهُ عِنْدَ الإتْيانِ بِها عَلى صِفَةِ الكَمالِ فَعِنْدَ النُّقْصانِ وجَبَ أنْ يَبْقى عَلى الأصْلِ ولا يَخْرُجَ عَنِ العُهْدَةِ
صفحة 113
وأكَّدَ بِقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ بِعَدَمِ جَوازِ صَوْمِ يَوْمِ العِيدِ قَضاءً عَنْ رَمَضانَ مَعَ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِيهِ عِنْدَهُ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِأنَّ الواجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ الكامِلُ والصَّوْمُ في هَذا اليَوْمِ ناقِصٌ فَلا يُفِيدُ الخُرُوجَ عَنِ العُهْدَةِ ومِنها: قَوْلُهُ ﷺ: «لا صَلاةَ ( إلّا ) بِفاتِحَةِ الكِتابِ» .وهُوَ ظاهِرٌ في المَقْصُودِ إذِ التَّقْدِيرُ لا صَلاةَ صَحِيحَةً ( إلّا ) بِها واعْتَرَضَ بِجَوازِ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لا صَلاةَ كامِلَةً فَإنَّهُ لَمّا امْتَنَعَ نَفْيُ مُسَمّى الصَّلاةِ لِثُبُوتِهِ دُونَ الفاتِحَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن صَرْفِهِ إلى حُكْمٍ مِن أحْكامِها ولَيْسَ الصَّرْفُ إلى الصِّحَّةِ أوْلى مِنَ الصَّرْفِ إلى الكَمالِ وأُجِيبُ ( بِأنّا ) لا نُسَلِّمُ امْتِناعَ دُخُولِ النَّفْيِ عَلى مُسَمّاها لِأنَّ الفاتِحَةَ إذا كانَتْ جُزْءًا مِن ماهِيَّةِ الصَّلاةِ تَنْفِي الماهِيَّةَ عِنْدَ عَدَمِ قِراءَتِها فَيَصِحُّ دُخُولُهُ عَلى مُسَمّاها وإنَّما يَمْتَنِعُ لَوْ ثَبَتَ أنَّها لَيْسَتْ جُزْءًا مِنها وهو أوَّلُ المَسْألَةِ سَلَّمْناهُ لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ صَرْفَهُ إلى الصِّحَّةِ لَيْسَ أوْلى مِن صَرْفِهِ إلى الكَمالِ بَلْ هو أوْلى لِأنَّ الحَمْلَ عَلى المَجازِ الأقْرَبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الحَمْلِ عَلى الحَقِيقَةِ أوْلى بَلْ واجِبٌ بِالإجْماعِ ولا شَكَّ أنَّ المَوْجُودَ الَّذِي لا يَكُونُ صَحِيحًا أقْرَبَ إلى المَعْدُومِ مِنَ المَوْجُودِ الَّذِي يَكُونُ كامِلًا ولِأنَّ الأصْلَ بَقاءُ ما كانَ وهو التَّكْلِيفُ عَلى ما كانَ ولِأنَّ جانِبَ الحُرْمَةِ أرْجَحُ لِأنَّهُ أحْوَطُ ومِنها أنَّ الصَّلاةَ بِدُونِ الفاتِحَةِ تُوجِبُ فَواتَ الفَضِيلَةِ الزّائِدَةِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِلْإجْماعِ عَلى أنَّ الصَّلاةَ مَعَها أفْضَلُ فَلا يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ لِأنَّهُ قَبِيحٌ عُرْفًا فَيَكُونُ قَبِيحًا شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ما رَآهُ المُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهو عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. وما رَآهُ المُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهو عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» .
ومِنها أنَّ قِراءَتَها تُوجِبُ الخُرُوجَ عَنِ العُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَتَكُونُ أحْوَطَ فَوَجَبَ القَوْلُ بِوُجُوبِها لِنَصِّ: «دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ» .
ولِلْمَعْقُولِ وهو دَفْعُ ضَرَرِ الخَوْفِ عَنِ النَّفْسِ فَإنَّهُ واجِبٌ. وكَوْنُ اعْتِقادِ الوُجُوبِ يُورِثُ الخَوْفَ لِجَوازِ كَوْنَنا مُخْطِئِينَ مَعارَضٌ بِاعْتِقادِ عَدَمِهِ فَيَتَقابَلانِ وأمّا في العَمَلِ فالقِراءَةُ لا تُوجِبُ الخَوْفَ وتَرْكُها يُوجِبُهُ فالأحْوَطُ القِراءَةُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ وأجابَ ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ بِما أجابُوا.
واسْتَدَلُّوا عَلى أنَّ الواجِبَ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ لا الفاتِحَةُ بِخُصُوصِها بِأُمُورٍ مِنها ما رَوى أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: «أمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ أخْرُجَ وأُنادِيَ لا صَلاةَ ( إلّا ) بِقِراءَةٍ ولَوْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ» .
ودُفِعَ بِأنَّهُ مُعارَضٌ بِما نُقِلَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: «أمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ أخْرُجَ وأُنادِيَ لا صَلاةَ ( إلّا ) بِفاتِحَةِ الكِتابِ» .
وبِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ ولَوْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ هو أنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلى الفاتِحَةِ لَكَفى ويَجِبُ الحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الأدِلَّةِ وفِيهِ تَعَسُّفٌ ولَعَلَّ الأوَّلَ في الجَوابِ جَوازُ كَوْنِ المُرادِ ولَوْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ ما هو السّابِقُ إلى الفَهْمِ مِن قَوْلِ القائِلِ لا حَياةَ ( إلّا ) بِقُوتٍ ولَوِ الخُبْزِ كُلَّ يَوْمٍ أُوقِيَّةً وهو أنَّ هَذا القَدْرَ لا بُدَّ مِنهُ وعَلَيْهِ يَصِيرُ الحَدِيثُ مِن أدِلَّةِ الوُجُوبِ ومِنها أنَّهُ لَوْ وجَبَتِ الفاتِحَةُ لَصَدَقَ قَوْلُنا كُلَّما وجَبَتِ القِراءَةُ وجَبَتِ الفاتِحَةُ ومَعْناهُ مُقَدِّمَةٌ صادِقَةٌ وهي أنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبِ الفاتِحَةُ لَوَجَبَتِ القِراءَةُ لِوُجُوبِ مُطْلَقِ القِراءَةِ بِالإجْماعِ فَتَنْتِجُ المُقْدِمَتانِ لَوْ لَمْ تَجِبِ الفاتِحَةُ لَوَجَبَتِ الفاتِحَةُ وهو باطِلٌ.
وأُجِيبُ بِمَنعِ الصُّغْرى أيْ لا نُسَلِّمُ صِدْقَ قَوْلِنا لَوْ لَمْ تَجِبِ الفاتِحَةُ لَوَجَبَتِ القِراءَةُ لِأنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الفاتِحَةِ مُحالٌ والمَحالُ جازَ أنْ يَسْتَلْزِمَ المُحالَ وهو رَفْعُ وُجُوبِ مُطْلَقِ القِراءَةِ الثّابِتِ بِالإجْماعِ سَلَّمْناها لَكِنْ لا نُسَلِّمُ اسْتِحالَةَ قَوْلِنا لَوْ لَمْ تَجِبِ الفاتِحَةُ لَوَجَبَتِ الفاتِحَةُ لِما ذَكَرَ آنِفًا وجَعَلَ بَعْضٌ القِياسَ حُجَّةً عَلى الحَنَفِيَّةِ لِأنَّ كُلَّ ما اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ وُجُودَهُ ثَبَتَ وُجُودُهُ ضَرُورَةً ورُدَّ بِأنَّ هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَتِ المُلازِمَةُ وهي قَوْلُنا لَوْ لَمْ تَجِبِ الفاتِحَةُ لَوَجَبَتْ ثابِتَةً في نَفْسِ الأمْرِ ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هي ثابِتَةٌ عَلى تَقْدِيرِ وُجُوبِ قِراءَةِ الفاتِحَةِ فَلِهَذا لا يَصِيرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وتَمامُ الكَلامِ عَلى ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ عَلى القَوْلِ الثّانِي في الآيَةِ لا يَظْهَرُ الِاسْتِدْلالُ بِها عَلى فَرْضِيَّةِ مُطْلَقِ القِراءَةِ في الصَّلاةِ إذْ لَيْسَ فِيها عَلَيْهِ أكْثَرُ مِنَ الأمْرِ بِقِراءَةِ شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ قَلَّ أوْ أكْثَرَ بَدَلَ ما افْتَرَضَ
صفحة 114
عَلَيْهِمْ مِن صَلاةِ اللَّيْلِ فَلْيَتُنَبَّهْ.وقَوْلُهُ تَعالى ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنٌ لِحِكْمَةٍ أُخْرى غَيْرِ ما تَقَدَّمَ مِن عُسْرَةِ إحْصاءِ تَقْدِيرِ الأوْقاتِ مُقْتَضِيَةٍ لِلتَّرْخِيصِ والتَّخْفِيفِ أيْ عَلِمَ أنَّ الشَّأْنَ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ﴾ يُسافِرُونَ فِيها لِلتِّجارَةِ ﴿يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ وهو الرِّبْحُ وقَدْ عَمَّمَ ابْتِغاءَ الفَضْلِ لِتَحْصِيلِ العِلْمِ والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ ﴿وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي المُجاهِدِينَ وفي قَرْنِ المُسافِرِينَ لِابْتِغاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعالى بِهِمْ إشارَةٌ إلى أنَّهم نَحْوَهم في الأجْرِ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ وغَيْرُهُما عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: ما مِن حالٍ يَأْتِينِي عَلَيْهِ المَوْتُ بَعْدَ الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ أحَبَّ إلَيَّ مِن أنَّ يَأْتِيَنِي وأنا بَيْنَ شُعْبَتِي جَبَلٍ ألْتَمِسُ مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى وتَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ﴾ إلَخِ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن جالِبٍ يَجْلِبُ طَعامًا إلى بَلَدٍ مِن بُلْدانِ المُسْلِمِينَ فَيَبِيعُهُ لِسِعْرِ يَوْمِهِ ( إلّا ) كانَتْ مَنزِلَتُهُ عِنْدَ اللهِ» ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾»» .
والمُرادُ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَن يَشُقُّ عَلَيْهِ القِيامُ كَما عَلِمَ سُبْحانَهُ عُسْرَ إحْصاءِ تَقْدِيرِ الأوْقاتِ وإذا كانَ الأمْرُ كَما ذَكَرَ وتَعاضَدَتْ مُقْتَضَياتُ التَّرْخِيصِ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ﴾ أيْ مِنَ القُرْآنِ مِن غَيْرِ تَحَمُّلِ المَشاقِّ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أيِ المَفْرُوضَةَ ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ كَذَلِكَ وعَلى هَذا أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ والظّاهِرُ أنَّهم عَنَوْا بِالصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ الصَّلَواتِ الخَمْسَ وبِالزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ أُخْتَها المَعْرُوفَةَ.
واسْتَشْكَلَ بِأنَّ السُّورَةَ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ بِمَكَّةَ ولَمْ تُفْرَضِ الصَّلَواتُ الخَمْسُ إلّا بَعْدَ الإسْراءِ والزَّكاةُ إنَّما فُرِضَتْ بِالمَدِينَةِ وأُجِيبُ بِأنَّ الذّاهِبَ إلى ذَلِكَ يَجْعَلُ هَذِهِ الآياتِ مَدَنِيَّةً وقِيلَ إنِ الزَّكاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ لِلْأنْصِباءِ واَلَّذِي فُرِضَ بِالمَدِينَةِ تَعْيِينُ الأنْصِباءِ فَيُمْكِنُ أنْ يُرادَ بِالزَّكاةِ الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ في الجُمْلَةِ فَلا مانِعَ عَنْ كَوْنِ الآياتِ مَكِّيَّةً لَكِنْ يَلْتَزِمُ لِكَوْنِها نَزَلَتْ بَعْدَ الإسْراءِ وحُكْمِها عَلى صَلاةِ اللَّيْلِ السّابِقَةِ حَيْثُ كانَتْ مَفْرُوضَةً تُنافِي التَّرْخِيصَ وقِيلَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مِمّا تَأخَّرَ حُكْمُهُ عَنْ نُزُولِهِ ولَيْسَ بِذاكَ ﴿وأقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أُرِيدَ بِهِ الإنْفاقاتُ في سَبِيلِ الخَيْراتِ أوْ أداءُ الزَّكاةِ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ وأنْفَعِها لِلْفُقَراءِ.
﴿وما تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ﴾ أيْ خَيْرٍ كانَ مِمّا ذَكَرَ ومِمّا لَمْ يَذْكُرْ ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرًا وأعْظَمَ أجْرًا﴾ أيْ مِنَ الَّذِي تُؤَخِّرُونَهُ إلى الوَصِيَّةِ عِنْدَ المَوْتِ ( وخَيْرًا ) ثانِي مَفْعُولَيْ ﴿تَجِدُوهُ﴾ وهو تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ ﴿تَجِدُوهُ﴾ وإنْ كانَ بِصُورَةِ المَرْفُوعِ والمُؤَكَّدُ مَنصُوبٌ لِأنَّ هو يُسْتَعارُ لِتَأْكِيدِ المَجْرُورِ والمَنصُوبِ كَما ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ أوْ ضَمِيرُ فَصْلٍ وإنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ فَإنَّ أفْعَلَ مِن حُكْمِ المُعَرَّفَةِ ولِذا يَمْتَنِعُ مِن حَرْفِ التَّعْرِيفِ كالعِلْمِ وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ البَدَلِيَّةَ مِن ضَمِيرِ ﴿تَجِدُوهُ﴾ ووَهِمَهُ أبُو حَيّانٍ بِأنَّ الواجِبَ عَلَيْها إيّاهُ وقَرَأ أبُو =السَّمالِ بِاللّامِ، العَدُوِّيُّ وأبُو السَّماكِ بِالكافِ، الغَنَوِيُّ وأبُو السَّمَيْفِعِ هو «خَيْرٌ وأعْظَمُ» بِرَفْعِهِما عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ وجَعَلَ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي قالَ أبُو زَيْدٍ هي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ يَرْفَعُونَ ما بَعْدَ الفاصِلَةِ يَقُولُونَ كانَ زَيْدٌ هو الفاعِلُ بِالرَّفْعِ وعَلَيْهِ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذَرِيحٍ:
تَحِنُّ إلى لُبْنى وأنْتَ تَرَكْتَها وكُنْتَ عَلَيْها بِالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
فَقَدْ قالَ أبُو عَمْرٍو الجِرْمِيُّ أنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ شاهِدًا لِلرَّفْعِ والقَوافِي مَرْفُوعٌ ويُرْوى أقْدَرا ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ في كافَّةِ أحْوالِكم فَإنَّ الإنْسانَ قَلَّما يَخْلُو مِمّا يُعَدُّ تَفْرِيطًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وعَدَّ مِن ذَلِكَ الصُّوفِيَّةُ رُؤْيَةَ العابِدِ عِبادَتَهُ قِيلَ ولِهَذا الإشارَةُ أمْرٌ بِالِاسْتِغْفارِ بَعْدَ الأوامِرِ السّابِقَةِ بِإقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والإقْراضِصفحة 115
الحَسَنِ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَيَغْفِرُ سُبْحانَهُ ذَنْبَ مَنِ اسْتَغْفَرَهُ ويَرْحَمُهُ عَزَّ وجَلَّ وفي حَذْفِ المَعْمُولِ دَلالَةٌ عَلى العُمُومِ وتَفْصِيلُ الكَلامِ فِيهِ مَعْلُومٌ نَسْألُ اللَّهَ تَعالى عَظِيمَ مَغْفِرَتِهِ ورَحْمَتِهِ لَنا ولِوالِدِينا ولِكافَّةِ مُؤْمِنِي بَرِّيَّتِهِ بِحُرْمَةِ سَيِّدِ خَلِيقَتِهِ وسَنَدِ أهْلِ صَفْوَتِهِ ﷺ وصَحِبِهِ وشِيعَتِهِ.
QUL supports exporting tafsir content in both JSON and SQLite formats.
Tafsir text may include <html>
tags for formatting such as <b>
,
<i>
, etc.
Note:
Tafsir content may span multiple ayahs. QUL exports both the tafsir text and the ayahs it applies to.
Example JSON Format:
{ "2:3": { "text": "tafisr text.", "ayah_keys": ["2:3", "2:4"] }, "2:4": "2:3" }
"ayah_key"
in "surah:ayah"
, e.g. "2:3"
means
3rd ayah of Surah Al-Baqarah.
text
: the tafsir content (can include HTML)ayah_keys
: an array of ayah keys this tafsir applies toayah_key
where the tafsir text can be found.
ayah_key
: the ayah for which this record applies.group_ayah_key
: the ayah key that contains the main tafsir text (used for shared tafsir).
from_ayah
/ to_ayah
: start and end ayah keys for convenience (optional).ayah_keys
: comma-separated list of all ayah keys that this tafsir covers.text
: tafsir text. If blank, use the text
from the group_ayah_key
.