(p-١٢٤)سُورَةُ المُزَّمِّلِ
مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَطاءٍ وجابِرٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ إلّا آيَتَيْنِ مِنها: قَوْلُهُ ﴿واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ واَلَّتِي بَعْدَها.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾ قالَ الأخْفَشُ: أصْلُهُ المُتَزَمِّلُ فَأدْغَمَ التّاءَ في الزّايِ، وكَذا المُدَّثِّرُ.
وَفي أصْلِ المُزَّمِّلِ: قَوْلانِ:
أحَدُهُما: المُحْتَمِلُ، يُقالُ زَمَلَ الشَّيْءَ إذا حَمَلَهُ، ومِنهُ الزّامِلَةُ الَّتِي تَحْمِلُ القُماشَ.
الثّانِي: المُزَّمِّلُ هو المُتَلَفِّفُ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:(p-١٢٥)
؎ كَأنَّ ثَبِيرًا في عَراثِينِ وبْلِهِ كَبِيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ.
وَفِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: يا أيُّها المُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثّانِي: بِالقُرْآنِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
الثّالِثُ: بِثِيابِهِ، قالَهُ قَتادَةُ.
قالَ إبْراهِيمُ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ وهو في قَطِيفَةٍ.
﴿قُمِ اللَّيْلَ إلا قَلِيلا﴾ يَعْنِي صَلِّ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا، وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: إلّا قَلِيلًا مِن أعْدادِ اللَّيالِي لا تَقُمْها.
الثّانِي: إلّا قَلِيلًا مِن زَمانِ كُلِّ لَيْلَةٍ لا تَقُمْهُ وقَدْ كانَ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَفي فَرْضِهِ عَلى مَن سِواهُ مِن أُمَّتِهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: فَرْضٌ عَلَيْهِ دُونَهم لِتُوَجِّهِ الخِطابِ إلَيْهِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
الثّانِي: أنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ فَقامُوا حَتّى ورِمَتْ أقْدامُهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ.
وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانُوا يَقُومُونَ نَحْوَ قِيامِهِ في شَهْرِ رَمَضانَ ثُمَّ نُسِخَ فَرْضُ قِيامِهِ عَلى الأُمَّةِ، واخْتُلِفَ بِماذا نُسِخَ عَنْهم عَلى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ وهو قَوْلُ عائِشَةَ.
الثّانِي: بِآخِرِ السُّورَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
واخْتَلَفُوا مِن مُدَّةِ فَرْضِهِ إلى أنْ نُسِخَ عَلى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: سَنَةٌ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ بَيْنَ أوَّلِ المُزَّمِّلِ وآخِرِها سَنَةٌ.
الثّانِي: سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، قالَتْهُ عائِشَةُ، فَهَذا حُكْمُ قِيامِهِ في فَرْضِهِ ونَسْخِهِ عَلى الأُمَّةِ.
فَأمّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَدْ كانَ فَرْضًا عَلَيْهِ، وفي نَسْخِهِ عَنْهُ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: المُدَّةُ المَفْرُوضَةُ عَلى أُمَّتِهِ في القَوْلَيْنِ الماضِيَيْنِ.
الثّانِي: أنَّها عَشْرُ سِنِينَ إلى أنْ خُفِّفَ عَنْها بِالنَّسْخِ زِيادَةً في التَّكْلِيفِ لِتَمَيُّزِهِ بِفَضْلِ الرِّسالَةِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.(p-١٢٦)
وَقَوْلُهُ ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلا قَلِيلا﴾ لِأنَّ قِيامَ جَمِيعِهِ عَلى الدَّوامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فاسْتَثْنى مِنهُ القَلِيلَ لِراحَةِ الجَسَدِ، والقَلِيلُ مِنَ الشَّيْءِ ما دُونَ النِّصْفِ.
حُكِيَ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ قالَ: القَلِيلُ ما دُونَ المِعْشارِ والسُّدُسُ.
وَقالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: القَلِيلُ الثُّلُثُ.
وَحَدُّ اللَّيْلِ ما بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وطُلُوعِ الفَجْرِ الثّانِي.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنهُ قَلِيلا﴾ فَكانَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا إذا لَمْ يَكُنْ زَمانُ القِيامِ مَحْدُودًا، فَقامَ النّاسُ حَتّى ورِمَتْ أقْدامُهم، فَرَوَتْ عائِشَةُ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قامَ في اللَّيْلِ فَقالَ: أيُّها النّاسُ اكْلُفُوا مِنَ الأعْمالِ ما تُطِيقُونَ، فَإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ مِنَ الثَّوابِ حَتّى تَمَلُّوا مِنَ العَمَلِ، وخَيْرُ الأعْمالِ ما دِيمَ عَلَيْهِ» . ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ . ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: بَيِّنِ القُرْآنَ تِبْيانًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ.
الثّانِي: فَسِّرْهُ تَفْسِيرًا، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثّالِثُ: أنْ تَقْرَأهُ عَلى نَظْمِهِ وتَوالِيهِ، لا تُغَيِّرْ لَفْظًا ولا تُقَدِّمْ مُؤَخِّرًا مَأْخُوذٌ مِن تَرْتِيلِ الأسْنانِ إذا اسْتَوى نَبْتُها وحَسُنَ انْتِظامُها، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.
﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾ وهو القُرْآنُ، وفي كَوْنِهِ ثَقِيلًا أرْبَعَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: أنَّهُ إذا أُوحِيَ إلَيْهِ كانَ ثَقِيلًا عَلَيْهِ لا يَقْدِرُ عَلى الحَرَكَةِ حَتّى يَنْجَلِيَ عَنْهُ، وهَذا قَوْلُ عائِشَةَ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
الثّانِي: العَمَلُ بِهِ ثَقِيلٌ في فُرُوضِهِ وأحْكامِهِ وحَلالِهِ وحَرامِهِ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ.
الثّالِثُ: أنَّهُ في المِيزانِ يَوْمَ القِيامَةِ ثَقِيلٌ، قالَهُ ابْنُ زُبَيْرٍ.(p-١٢٧)
الرّابِعُ: ثَقِيلٌ بِمَعْنى كَرِيمٍ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ ثَقِيلٌ عَلَيَّ أيْ كَرِيمٌ عَلَيَّ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا خامِسًا: أنْ يَكُونَ ثَقِيلٌ بِمَعْنى ثابِتٍ، لِثُبُوتِ الثَّقِيلِ في مَحَلِّهِ، ويَكُونُ مَعْناهُ أنَّهُ ثابِتُ الإعْجازِ لا يَزُولُ إعْجازُهُ أبَدًا.
﴿إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي أشَدُّ وطْئًا﴾ فِيها سِتَّةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: أنَّهُ قِيامُ اللَّيْلِ، بِالحَبَشِيَّةِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثّانِي: أنَّهُ ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعَشاءِ، قالَهُ أنَسُ بْنُ مالِكٍ.
الثّالِثُ: ما بَعْدُ العِشاءِ الآخِرَةِ، قالَهُ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ.
الرّابِعُ: أنَّها ساعاتُ اللَّيْلِ لِأنَّها تَنْشَأُ ساعَةً بَعْدَ ساعَةٍ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
الخامِسُ: أنَّهُ بَدْءُ اللَّيْلِ، قالَهُ عَطاءٌ وعِكْرِمَةُ.
السّادِسُ: أنَّ اللَّيْلَ كُلُّ ناشِئَةٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِأنَّهُ يَنْشَأُ بَعْدَ النَّهارِ.
وَفي ﴿أشَدُّ وطْئًا﴾ خَمْسَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: مُواطَأةُ قَلْبِكَ وسَمْعِكَ وبَصَرِكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ.
الثّانِي: مُواطَأةُ قَوْلِكَ لِعَمَلِكَ، وهو مَأْثُورٌ.
الثّالِثُ: مُواطَأةُ عَمَلِكَ لِفَراغِكَ، وهو مُحْتَمَلٌ.
الرّابِعُ: أشَدُّ نَشاطًا، قالَهُ الكَلْبِيُّ، لِأنَّهُ زَمانُ راحَتِكَ.
الخامِسُ: قالَهُ عِبادَةُ: أشُدُّ وأثْبَتُ وأحْفَظُ لِلْقِراءَةِ.
وَفي قَوْلِهِ: ﴿وَأقْوَمُ قِيلا﴾ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: مَعْناهُ أبْلَغُ في الخَيْرِ وأمْعَنُ في العَدْلِ، قالَهُ الحَسَنُ.
الثّانِي: أصْوَبُ لِلْقِراءَةِ وأثْبَتُ لِلْقَوْلِ لِأنَّهُ زَمانُ التَّفَهُّمِ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ، وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ (وَأهْيَأُ قِيلًا) وقالَ أهْيَأُ وأقْوَمُ سَواءٌ.
الثّالِثُ: أنَّهُ أعْجَلُ إجابَةً لِلدُّعاءِ، حَكاهُ ابْنُ شَجَرَةَ.
﴿إنَّ لَكَ في النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: يَعْنِي فَراغًا طَوْيًا لِنَوْمِكَ وراحَتِكَ، فاجْعَلْ ناشِئَةَ اللَّيْلِ لِعِبادَتِكَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ.(p-١٢٨)
الثّانِي: دُعاءً كَثِيرًا، قالَهُ السُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ والسَّبْحُ بِكَلامِهِمْ هو الذَّهابُ، ومِنهُ سَبَحَ السّابِحُ في الماءِ.
﴿واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: اقْصُدْ بِعَمَلِكَ وجْهَ رَبِّكَ.
الثّانِي: أنَّهُ إذا أرَدْتَ القِراءَةَ فابْدَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.
وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثالِثًا: واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ في وعْدِهِ ووَعِيدِهِ لِتَتَوَفَّرَ عَلى طاعَتِهِ وتَعْدِلَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
﴿وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: أخْلِصْ إلَيْهِ إخْلاصًا، قالَهُ مُجاهِدٌ.
الثّانِي: تَعَبَّدْ لَهُ تَعَبُّدًا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الثّالِثُ: انْقَطِعْ إلَيْهِ انْقِطاعًا، قالَهُ أبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، ومِنهُ مَرْيَمُ البَتُولُ لِانْقِطاعِها إلى اللَّهِ تَعالى، وجاءَ في الحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ الَّذِي هو الِانْقِطاعُ عَنِ النّاسِ والجَماعاتِ.
الرّابِعُ: وتَضَرَّعْ إلَيْهِ تَضَرُّعًا.
﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: رَبُّ العالَمِ بِما فِيهِ لِأنَّهم بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.
الثّانِي: يَعْنِي مَشْرِقَ الشَّمْسِ ومَغْرِبَها.
وَفي المُرادِ بِالمَشْرِقِ والمَغْرِبِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ اسْتِواءُ اللَّيْلِ والنَّهارِ، قالَهُ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ.
الثّانِي: أنَّهُ دُجْنَةُ اللَّيْلِ ووَجْهُ النَّهارِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثّالِثُ: أنَّهُ أوَّلُ النَّهارِ وآخِرُهُ، لِأنَّ نِصْفَ النَّهارِ أوَّلُهُ فَأُضِيفَ إلى المَشْرِقِ، ونِصْفَهُ آخِرُهُ فَأُضِيفَ إلى المَغْرِبِ.(p-١٢٩)
﴿فاتَّخِذْهُ وكِيلا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: مُعِينًا.
الثّانِي: كَفِيلًا.
الثّالِثُ: حافِظًا.