قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ ﴿وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا﴾ ﴿واللَّهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ ﴿ثُمَّ يُعِيدُكم فِيها ويُخْرِجُكم إخْراجًا﴾ في هَذِهِ الآيَةِ مَعَ ما قَبْلَها ثَلاثَةُ بَراهِينَ مِن بَراهِينِ البَعْثِ الأرْبَعَةِ الَّتِي كَثُرَ مَجِيئُها في القُرْآنِ:
الأُولى: خَلْقُ الإنْسانِ: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] .
والثّانِيَةُ: خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] .
صفحة ٣١٠
والثّالِثَةُ: إحْياءُ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها: ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [فصلت: ٣٩] .والرّابِعُ: الَّذِي لَمْ نَذْكُرْ هُنا هو إحْياءُ المَوْتى بِالفِعْلِ، كَقَتِيلِ بَنِي إسْرائِيلَ: ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ [البقرة: ٧٣] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ في أكْثَرَ مِن مَوْضِعٍ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - وهُنا سِياقُ هَذِهِ البَراهِينِ لِلرَّدِّ عَلى المُكَذِّبِينَ بِالبَعْثِ، ولَكِنْ في هَذا السِّياقِ إشْكالٌ فِيما يَبْدُو كَبِيرٌ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ [نوح: ١٥] .
وَإذا كانَ السِّياقُ لِلِاسْتِدْلالِ بِالمَعْلُومِ المُشاهَدِ عَلى المَجْهُولِ الغَيْبِيِّ، فَإنَّ خَلْقَ الإنْسانِ أطْوارًا مَحْسُوسٌ مُشاهَدٌ ومُسَلَّمٌ بِهِ، وإنْباتُ الإنْسانِ مِنَ الأرْضِ بِإطْعامِهِ مِن نَباتِها، وإحْياؤُها بَعْدَ مَوْتِها، واهْتِزازُها، وإنْباتُها النَّباتَ أمْرٌ مَحْسُوسٌ.
وَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ لِلْمُخاطَبِ: كَما شاهَدْتَ خَلْقَ الإنْسانِ مِن عَدَمٍ وتَطَوُّرَهُ أطْوارًا، وشاهَدْتَ إحْياءَ الأرْضِ المَيِّتَةِ، فَإنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكَ وأحْيا لَكَ الأرْضَ المَيِّتَةَ قادِرٌ عَلى أنْ يُعِيدَكَ ويُخْرِجَكَ مِنها إخْراجًا.
وَلَكِنْ كَيْفَ تَقُولُ: وكَما شاهَدْتَ خَلْقَ السَّماواتِ سَبْعًا طِباقًا، فَإنَّ القادِرَ عَلى ذَلِكَ قادِرٌ عَلى بَعْثِكَ. والحالُ أنَّ الإنْسانَ لَمْ يُشاهِدْ خَلْقَ السَّماواتِ سَبْعًا طِباقًا، ولا رَأى كَيْفَ خَلَقَها اللَّهُ سَبْعًا طِباقًا، والإشْكالُ هُنا هو كَيْفَ قِيلَ لَهم: ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ﴾ [نوح: ١٥] .
والكَيْفُ لِلْحالَةِ والهَيْئَةِ، وهم لَمْ يُشاهِدُوها كَما قالَ تَعالى: ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ﴾ [الكهف: ٥١] .
وَكَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ بِالمَجْهُولِ عِنْدَهم عَلى المُغَيَّبِ عَنْهم ؟
وَهُنا تَساءَلَ ابْنُ كَثِيرٍ تَساؤُلًا وارِدًا، وهو قَوْلُهُ: طِباقًا أيْ: واحِدَةً فَوْقَ واحِدَةٍ، وهَلْ هَذا يُتَلَقّى مِن جِهَةِ السَّمْعِ فَقَطْ ؟ أوْ هو مِنَ الأُمُورِ المُدْرَكَةِ بِالحِسِّ، مِمّا عُلِمَ مِنَ التَّسْيِيرِ والكُسُوفاتِ. وأظُنُّهُ يَعْنِي التَّسْيِيرَ مِنَ السَّيْرِ، فَإنَّ الكَواكِبَ السَّبْعَةَ السَّيّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُها بَعْضًا، فَأدْناها القَمَرُ في السَّماءِ الدُّنْيا، وذَكَرَ الكَواكِبَ السَّبْعَةَ في السَّماواتِ السَّبْعِ، وكَلامَ أهْلِ الهَيْئَةِ ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإشْكالِ بِحَلٍّ يُرْكَنُ إلَيْهِ.
صفحة ٣١١
وَقالَ القُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ﴾ عَلى جِهَةِ الإخْبارِ لا المُعايَنَةِ.كَما تَقُولُ: ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلْتُ بِفُلانٍ كَذا ؟
وَعَلى كَلامِ القُرْطُبِيِّ يَرِدُ السُّؤالُ الأوَّلُ، إذا كانَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ الإخْبارِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ الخَبَرُ دَلِيلًا عَلى خَبَرٍ آخَرَ لا يُدْرَكُ إلّا بِالسَّمْعِ ؟
والجَوابُ عَنْ ذَلِكَ مُجْمَلًا مِمّا تُشِيرُ إلَيْهِ آياتُ القُرْآنِ الكَرِيمِ كالآتِي:
أوَّلًا: إنَّ تَساؤُلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَلْ يُتَلَقّى ذَلِكَ مِن جِهَةِ السَّمْعِ فَقَطْ ؟ أوْ هو مِنَ الأُمُورِ المُدْرَكَةِ بِالحِسِّ، لا مَحَلَّ لَهُ؛ لِأنَّهُ لا طَرِيقَ إلّا النَّقْلُ فَقَطْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ﴾ [الكهف: ٥١]، أيْ: آدَمُ. فَلَمْ نَعْلَمْ كَيْفَ خُلِقَ، ولا كَيْفَ سارَتِ الرُّوحُ في جِسْمِ جَمادٍ صَلْصالٍ، فَتَحَوَّلَ إلى جِسْمٍ حَسّاسٍ نامٍ ناطِقٍ.
وَأمّا قَوْلُ القُرْطُبِيِّ: إنَّهُ عَلى جِهَةِ الإخْبارِ لا المُعايَنَةِ، فَهو الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ القُرْآنُ.
وَيُجِيبُ القُرْآنُ عَلى السُّؤالِ الوارِدِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ٩ - ١٣]؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى خاطَبَ هُنا الكُفّارَ قَطْعًا؛ لِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ .
وَخاطَبَهم بِأُمُورٍ مُفَصَّلَةٍ لَمْ يَشْهَدُوها قَطْعًا مِن خَلْقِ الأرْضِ في يَوْمَيْنِ، ومِن تَقْدِيرِ أقْواتِها في أرْبَعَةِ أيّامٍ، ومِنَ اسْتِوائِهِ إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ.
وَمِن قَوْلِهِ لَها ولِلْأرْضِ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ .
وَمِن قَوْلِهِما: ﴿أتَيْنا طائِعِينَ﴾ .
صفحة ٣١٢
وَمِن قَضائِهِنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ.وَمِن وحْيِهِ في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها.
كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِأُمُورٍ لَمْ يَشْهَدُوها ولَمْ يَعْلَمُوا عَنْها بِشَيْءٍ، ومِن ضِمْنِها قَضاؤُهُ سَبْعَ سَماواتٍ، فَكانَ كُلُّهُ عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ لِجَماعَةِ الكُفّارِ.
وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾؛ فَكانَ مُقْتَضى هَذا الإخْبارِ ومُوجِبُ هَذا التَّقْدِيرِ مِنَ العَزِيزِ العَلِيمِ، أنْ يُصَدِّقُوا أوْ أنْ يُؤْمِنُوا. وهَذا مِن خَصائِصِ كُلِّ إخْبارٍ يَكُونُ مَقْطُوعًا بِصِدْقِهِ مِن كُلِّ مَن هو واثِقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُولُ الخَبَرَ، وكانَ لِقُوَّةِ صِدْقِهِ مُلْزِمًا لِسامِعِهِ، ولا يُبالِي قائِلُهُ بِقَبُولِ السّامِعِ لَهُ أوْ إعْراضِهِ عَنْهُ.
وَلِذا قالَ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ مُباشَرَةً: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا﴾ أيْ: بَعْدَ إعْلامِهِمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَلا عَلَيْكَ مِنهم: ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ .
وَحَيْثُ إنَّ اللَّهَ خاطَبَهم هُنا ﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ﴾ فَكانَ هَذا أمْرًا لِفَرْطِ صِدْقِ الإخْبارِ بِهِ، كالمُشاهَدِ المَحْسُوسِ المُلْزِمِ لَهُمْ
وَقَدْ جاءَتِ السُّنَّةُ، وبَيَّنَتْ تِلْكَ الكَيْفِيَّةَ أنَّها سَبْعٌ طِباقٌ، بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ والَّتِي تَلِيها مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وشَمْلُ كُلِّ سَماءٍ وسُمْكُ كُلِّ سَماءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ.
وَقَدْ يُقالُ: إنَّ الرُّؤْيَةَ هُنا في الكَيْفِيَّةِ حاصِلَةٌ بِالعَيْنِ مَحْسُوسَةٌ، ولَكِنْ في شَخْصِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ لَيْلَةَ الإسْراءِ والمِعْراجِ؛ حَيْثُ عُرِجَ بِهِ ورَأى السَّبْعَ الطِّباقَ، وكانَ يَسْتَأْذِنُ لِكُلِّ سَماءٍ. ومُشاهَدَةُ الواحِدِ مِنَ الجِنْسِ كَمُشاهَدَةِ الجَمِيعِ، فَكَأنَّنا شاهَدْناها كُلُّنا لِإيمانِنا بِصِدْقِهِ ﷺ ولِحَقِيقَةِ مَعْرِفَتِهِمْ إيّاهُ ﷺ في الصِّدْقِ مِن قَبْلُ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
QUL supports exporting tafsir content in both JSON and SQLite formats.
Tafsir text may include <html>
tags for formatting such as <b>
,
<i>
, etc.
Note:
Tafsir content may span multiple ayahs. QUL exports both the tafsir text and the ayahs it applies to.
Example JSON Format:
{ "2:3": { "text": "tafisr text.", "ayah_keys": ["2:3", "2:4"] }, "2:4": "2:3" }
"ayah_key"
in "surah:ayah"
, e.g. "2:3"
means
3rd ayah of Surah Al-Baqarah.
text
: the tafsir content (can include HTML)ayah_keys
: an array of ayah keys this tafsir applies toayah_key
where the tafsir text can be found.
ayah_key
: the ayah for which this record applies.group_ayah_key
: the ayah key that contains the main tafsir text (used for shared tafsir).
from_ayah
/ to_ayah
: start and end ayah keys for convenience (optional).ayah_keys
: comma-separated list of all ayah keys that this tafsir covers.text
: tafsir text. If blank, use the text
from the group_ayah_key
.