ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامى ، والتوجيه العالى ، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون ، وأمرت النبى صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم ، فقال - تعالى - : ( واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . ) وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى أشراف قريش ، حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود . وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك . . وأمره أن يصبر نفسه فى الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال : ( واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) .وصبر النفس معناه : حبسها وتثبيتها على الشئ ، يقال : صبرَت فُلانا أصْبِره صَبْراً ، أى : حبسته .والغداة : أول النهار . والعشى . آخره .والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك ( الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم ) أى : يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات ، فى الصباح والمساء ، ويداومون على ذلك ، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة ، سوى رضا الله - تعالى - عنهم ورحمته بهم .وفى تخصيص الغداة والعشى بالذكر : إشعار بفضل العبادة فيهما : لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا .ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة . وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : قوله : ( يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي ) أى : يعبدونه دائما . وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام . وهى نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن . يريدون به ضرب جميع البدن . وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى : يعبدونه فى طرفى النهار .وقوله : ( يريدون وجهه ) مدح لهم بالإِخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة . . فهم لا يتقربون إلى الله - تعالى - بالطاعات من أجل دينا يصيبونها . أو من أجل إرضاء الناس .وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله - تعالى - وحده ، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا .وقوله - سبحانه - ( وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . ) نهى له صلى الله عليه وسلم - عن الغفلة عنهم ، بعد أمره بحبس نفسه عليهم .والفعل ( تَعْدُ ) بمعنى تصرف . يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله .أى : احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه - سبحانه - ولا تصرف عيناك النظر عنهم ، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، طمعا فى إسلامهم .فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا فى إيمانهم .وجملة ( تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا ) فى موضع الحال من الضمير المضاف إليه فى قوله ( عيناك ) ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه .وقوله - تعالى - ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء ، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء .والفرط - بضم الفاء والراء - : مجاوزة الحد ، ونبذ الحق والصواب ، واتباع الباطل والضلال . أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - فى تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها ، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغى على الرشد . والذين كان أمرهم . فرطا أى : مخالفا للحق ، ومجاوزا للصواب ، ومؤديا للضياع والخسران .قال ابن جرير - " بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى قوله - تعالى - : ( فرطا ) : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال معناه : ضياعا وهلاكا . من قولهم : أفرط فلان فى هذا الأمر إفراطاً ، إذا أسرف فيه . وتجاوز قدره . وكذلك قوله : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) . معناه : وكان أمر هذا الذى أغفلنا قلبه عن ذكرنا فى الرياء والكبر واحتقار أهل الإِيمان سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك " .فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما فى بيان القيم الحقيقية للناس؛ وهى أنها تتمثل فى الإِيمان والتقوى ، لا فى الغنى والجاه .فالمؤمن الصادق فى إيمانه ، الكريم فى أخلاقه . . هو الذى يحرص على مخالطة أهل الإِيمان والتقوى . ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم ، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم .ولقد ربى النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم ، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى قال : " مر رجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : " ما رأيك فى هذا؟ " فقال : رجل من أشرف الناس ، هذا والله حرىٌّ إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر : فقال له صلى الله عليه وسلم : " ما رأيك فى هذا "؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " " .