صفحة ٣٠٧

﴿وقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ إنّا أعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ نارًا أحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ بَعْدَ أنْ أمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ ﷺ بِما فِيهِ نَقْضُ ما يَفْتِلُونَهُ مِن مُقْتَرَحاتِهِمْ، وتَعْرِيضٌ بِتَأْيِيسِهِمْ مِن ذَلِكَ أمَرَهُ أنْ يُصارِحَهم بِأنَّهُ لا يَعْدِلُ عَنِ الحَقِّ الَّذِي جاءَهُ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ مُبَلِّغُهُ بِدُونِ هَوادَةٍ، وأنَّهُ لا يَرْغَبُ في إيمانِهِمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، ولا يَتَنازَلُ إلى مُشاطَرَتِهِمْ في رَغَباتِهِمْ بِشَطْرِ الحَقِّ الَّذِي جاءَ بِهِ، وأنَّ إيمانَهم وكُفْرَهم مَوْكُولٌ إلى أنْفُسِهِمْ، لا يَحْسَبُونَ أنَّهم بِوَعْدِ الإيمانِ يَسْتَنْزِلُونَ النَّبِيءَ ﷺ عَنْ بَعْضِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ.

والحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ، أيْ هَذا الحَقُّ، والتَّعْبِيرُ بِـ رَبَّكُمُ لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ.

والأمْرُ في قَوْلِهِ ﴿فَلْيُؤْمِن﴾ وقَوْلِهِ ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾ لِلتَّسْوِيَةِ المُكَنّى بِها عَنِ الوَعْدِ والوَعِيدِ.

وقَدَّمَ الإيمانَ عَلى الكُفْرِ؛ لِأنَّ إيمانَهم مَرْغُوبٌ فِيهِ.

وفاعِلُ المَشِيئَةِ في المَوْضِعَيْنِ ضَمِيرٌ عائِدٌ إلى ”مَنِ“ المَوْصُولَةِ في المَوْضِعَيْنِ.

وفِعْلُ (يُؤْمِن، ويَكْفُرْ) مُسْتَعْمَلانِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أيْ مَن شاءَ أنْ يُوقِعَ أحَدَ الأمْرَيْنِ ولَوْ بِوَجْهِ الِاسْتِمْرارِ عَلى أحَدِهِما المُتَلَبِّسِ بِهِ الآنَ فَإنَّ العَزْمَ عَلى الِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ تَجْدِيدٌ لِإيقاعِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ نارًا﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ ما دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ مِن إيكالِ الإيمانِ والكُفْرِ إلى أنْفُسِهِمْ وما يُفِيدُهُ مِنَ الوَعِيدِ، كِلاهُما

صفحة ٣٠٨

يُثِيرُ في النُّفُوسِ أنْ يَقُولَ قائِلٌ: فَماذا يُلاقِي مَن شاءَ فاسْتَمَرَّ عَلى الكُفْرِ، فَيُجابُ بِأنَّ الكُفْرَ وخِيمُ العاقِبَةِ عَلَيْهِمْ.

والمُرادُ بِالظّالِمِينَ: المُشْرِكُونَ قالَ تَعالى ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] .

وتَنْوِينُ نارًا لِلتَّهْوِيلِ والتَّعْظِيمِ.

والسُّرادِقُ بِضَمِّ السِّينِ قِيلَ: هو الفُسْطاطُ، أيِ الخَيْمَةُ، وقِيلَ: السُّرادِقُ: الحُجْزَةُ بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ الزّايِ، أيِ الحاجِزُ الَّذِي يَكُونُ مُحِيطًا بِالخَيْمَةِ يَمْنَعُ الوُصُولَ إلَيْها، فَقَدْ يَكُونُ مِن جِنْسِ الفُسْطاطِ أدِيمًا أوْ ثَوْبًا، وقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كالخَنْدَقِ، وهو كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ الفارِسِيَّةِ، أصْلُها (سُراطاقْ) قالُوا: لَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ اسْمٌ مُفْرَدٌ ثالِثُهُ ألِفٌ، وبَعْدَهُ حَرْفانِ، والسُّرادِقُ: هُنا تَخْيِيلٌ لِاسْتِعارَةٍ مَكْنِيَّةٍ بِتَشْبِيهِ النّارِ بِالدّارِ، وأُثْبِتَ لَها سُرادِقُ مُبالَغَةً في إحاطَةِ دارِ العَذابِ بِهِمْ، وشَأْنُ السُّرادِقِ يَكُونُ في بُيُوتِ أهْلِ التَّرَفِ، فَإثْباتُهُ لِدارِ العَذابِ اسْتِعارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ.

والِاسْتِغاثَةُ: طَلَبُ الغَوْثِ، وهو الإنْقاذُ مِن شَدَّةٍ، وبِتَخْفِيفِ الألَمِ، وشَمِلَ ﴿يَسْتَغِيثُوا﴾ الِاسْتِغاثَةَ مِن حَرِّ النّارِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا يُبْرِدُ عَلَيْهِمْ، بِأنْ يَصُبُّوا عَلى وُجُوهِهِمْ ماءً مَثَلًا، كَما في آيَةِ الأعْرافِ ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ﴾ [الأعراف: ٥٠]، والِاسْتِغاثَةُ مِن شِدَّةِ العَطَشِ النّاشِئِ عَنِ الحَرِّ فَيَسْألُونَ الشَّرابَ، وقَدْ أوْمَأ إلى شُمُولِ الأمْرَيْنِ ذِكْرُ وصْفَيْنِ لِهَذا الماءِ بِقَوْلِهِ ﴿يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ﴾ .

والإغاثَةُ: مُسْتَعارَةٌ لِلزِّيادَةِ مِمّا اسْتُغِيثَ مِن أجْلِهِ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وهو مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ.

والمُهْلُ: - بِضَمِّ المِيمِ - لَهُ مَعانٍ كَثِيرَةٌ أشْبَهُها هُنا أنَّهُ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ فَإنَّهُ يَزِيدُها التِهابًا قالَ تَعالى ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ [المعارج: ٨] .

والتَّشْبِيهُ في سَوادِ اللَّوْنِ وشِدَّةِ الحَرارَةِ فَلا يَزِيدُهم إلّا حَرارَةً، ولِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ ﴿يَشْوِي الوُجُوهَ﴾ وهو اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ.

صفحة ٣٠٩

والوَجْهُ أشَدُّ الأعْضاءِ تَألُّمًا مِن حَرِّ النّارِ قالَ تَعالى ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ﴾ [المؤمنون: ١٠٤] .

وجُمْلَةُ ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ أيْضًا لِتَشْنِيعِ ذَلِكَ الماءِ مَشْرُوبًا كَما شُنِّعَ مُغْتَسَلًا، وفي عَكْسِهِ الماءُ المَمْدُوحُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ [ص: ٤٢] .

والمَخْصُوصُ بِذَمِّ بِئْسَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، والتَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّرابُ ذَلِكَ الماءُ.

وجُمْلَةُ ﴿وساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿يَشْوِي الوُجُوهَ﴾، فَهي مُسْتَأْنَفَةٌ أيْضًا؛ لِإنْشاءِ ذَمِّ تِلْكَ النّارِ بِما فِيها.

والمُرْتَفَقُ: مَحَلُّ الِاتِّفاقِ، وهو اسْمُ مَكانٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جامِدٍ إذِ اشْتُقَّ مِنَ المِرْفَقِ، وهو مَجْمَعُ العَضُدِ والذِّراعِ، سُمِّيَ مِرْفَقًا؛ لِأنَّ الإنْسانَ يُحَصِّلُ بِهِ الرِّفْقَ إذا أصابَهُ إعْياءٌ فَيَتَّكِئُ عَلَيْهِ، فَلَمّا سُمِّيَ بِهِ العُضْوُ تُنُوسِيَ اشْتِقاقُهُ وصارَ كالجامِدِ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنهُ المُرْتَفَقُ، فالمُرْتَفَقُ هو المُتَّكَأُ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ.

وشَأْنُ المُرْتَفَقِ أنْ يَكُونَ مَكانَ اسْتِراحَةٍ، فَإطْلاقُ ذَلِكَ عَلى النّارِ تَهَكُّمٌ، كَما أُطْلِقَ عَلى ما يُزادُ بِهِ عَذابُهم لَفْظُ الإغاثَةِ، وكَما أُطْلِقَ عَلى مَكانِهِمُ السُّرادِقُ.

وفِعْلُ (ساءَ) يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَ (بِئْسَ) فَيَعْمَلُ عَمَلَ (بِئْسَ)، فَقَوْلُهُ مُرْتَفَقًا تَمْيِيزٌ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾ .