﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ واتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ .

بَعْدَ أنْ أشارَ إلى جِدالِهِمْ في هُدى القُرْآنِ بِما مَهَّدَ لَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]، وأشارَ إلى أنَّ الجِدالَ فِيهِ مُجَرَّدُ مُكابَرَةٍ وعِنادٍ، وأنَّهُ لا يَحُفُّ بِالقُرْآنِ ما يَمْنَعُ مِنَ الإيمانِ بِهِ، كَما لَمْ يَحُفَّ بِالهُدى الَّذِي أرْسَلَ إلى الأُمَمِ ما يَمْنَعُهُمُ الإيمانَ بِهِ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِأنَّ وظِيفَةَ الرُّسُلِ التَّبْلِيغُ بِالبِشارَةِ والنِّذارَةِ، لا التَّصَدِّي لِلْمُجادَلَةِ؛ لِأنَّها مُجادَلَةٌ لَمْ يُقْصَدْ مِنها الِاسْتِرْشادُ، بَلِ الغايَةُ مِنها إبْطالُ الحَقِّ.

والِاسْتِثْناءُ مِن أحْوالٍ عامَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ ما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ في حالٍ إلّا في حالِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، والمُرادُ بِالمُرْسَلِينَ جَمِيعُ الرُّسُلِ.

صفحة ٣٥٣

وجُمْلَةُ ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾، وكِلْتا الجُمْلَتَيْنِ مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَتِي ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]، وتَرْتِيبُ هَذِهِ الجُمَلِ في الذِّكْرِ جارٍ عَلى تَرْتِيبِ مَعانِيها في النَّفْسِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ بِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنها ناشِئٌ مَعْناها عَلى مَعْنى الَّتِي قَبْلَها، فَكانَتْ جُمْلَةُ ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ﴾ مُفِيدَةً مَعْنى الِاسْتِدْراكِ، أيْ أرْسَلْنا الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ بِما فِيهِ مَقْنَعٌ لِطالِبِ الهُدى، ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جادَلُوهُ بِالباطِلِ؛ لِإزالَةِ الحَقِّ لا لِقَصْدٍ آخَرَ، واخْتِيارُ فِعْلِ المُضارَعَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ المُجادَلَةِ، أوْ لِاسْتِحْضارِ صُورَةِ المُجادَلَةِ.

والمُجادِلَةُ تَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٤] في سُورَةِ هُودٍ.

والإدْحاضُ: الإزْلاقُ، يُقالُ: دَحَضَتِ القَدَمُ، إذا زَلَّتْ، وهو مَجازٌ في الإزالَةِ؛ لِأنَّ الرِّجْلَ إذا زَلَقَتْ زالَتْ عَنْ مَوْضِعِ تَخَطِّيها، قالَ تَعالى ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: ١٤١] .

وجُمْلَةُ ﴿واتَّخَذُوا آياتِي﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ويُجادِلُ فَإنَّهم ما قَصَدُوا مِنَ المُجادَلَةِ الِاهْتِداءَ، ولَكِنْ أرادُوا إدْحاضَ الحَقِّ، واتِّخاذَ الآياتِ كُلِّها، وبِخاصَّةٍ آياتُ الإنْذارِ هُزُؤًا.

والهُزُؤُ: مَصْدَرُ هَزَأ، أيِ اتَّخَذُوا ذَلِكَ مُسْتَهْزَأً بِهِ، والِاسْتِهْزاءُ بِالآياتِ هو الِاسْتِهْزاءُ عِنْدَ سَماعِها، كَما يَفْعَلُونَ عِنْدَ سَماعِ آياتِ الإخْبارِ بِالبَعْثِ وعِنْدَ سَماعِ آياتِ الوَعِيدِ والإنْذارِ بِالعَذابِ.

وعَطْفُ ”وما أنْذَرُوا“ عَلى ”الآياتِ“ عَطْفُ خاصٍّ عَلى عامٍّ؛ لِأنَّهُ أبْلَغُ في الدَّلالَةِ عَلى تَوَغُّلِ كُفْرِهِمْ وحَماقَةِ عُقُولِهِمْ.

”وما أُنْذِرُوا“ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ وإنْذارُهم، والإخْبارُ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ (هُزُؤًا) بِضَمِّ الزّايِ، وقَرَأهُ حَمْزَةُ (هُزْءًا) بِسُكُونِ الزّايِ.