صفحة ٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الكَهْفِ

﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قالَ إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِي عُذْرًا﴾ كانَ جَوابُ الخَضِرِ هَذا عَلى نَسَقِ جَوابِهِ السّابِقِ إلّا أنَّهُ زادَ ما حُكِيَ في الآيَةِ بِكَلِمَةِ (لَكَ) وهو تَصْرِيحٌ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ القَوْلِ. وإذْ كانَ المَقُولُ لَهُ مَعْلُومًا مِن مَقامِ الخِطابِ كانَ في التَّصْرِيحِ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ القَوْلِ تَحْقِيقٌ لِوُقُوعِ القَوْلِ وتَثْبِيتٌ لَهُ وتَقْوِيَةٌ، والدّاعِي لِذَلِكَ أنَّهُ أهْمَلَ العَمَلَ بِهِ.

واللّامُ في قَوْلِهِ (لَكَ) لامُ التَّبْلِيغِ، وهي الَّتِي تَدْخُلُ عَلى اسْمِ أوْ ضَمِيرِ السّامِعِ لِقَوْلٍ أوْ ما في مَعْناهُ، نَحْوَ: قَلْتُ لَهُ، وأذِنْتُ لَهُ، وفَسَّرْتُ لَهُ؛ وذَلِكَ عِنْدَما يَكُونُ المَقُولُ لَهُ الكَلامُ مَعْلُومًا مِنَ السِّياقِ فَيَكُونُ ذِكْرُ اللّامِ لِزِيادَةِ تَقَوِّي الكَلامِ وتَبْلِيغِهِ إلى السّامِعِ، ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ لامُ التَّبْلِيغِ. ألا تَرى أنَّ اللّامَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِهِ في جَوابِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ ﴿ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٢] . فَكانَ التَّقْرِيرُ والإنْكارُ مَعَ ذِكْرِ لامِ تَعْدِيَةِ القَوْلِ أقْوى وأشَدَّ.

صفحة ٦

وهُنا لَمْ يَعْتَذِرْ مُوسى بِالنِّسْيانِ: إمّا لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَسِيَ. ولَكِنَّهُ رَجَّحَ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ العَظِيمِ. وهو قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ مُوجِبٍ عَلى واجِبِ الوَفاءِ بِالِالتِزامِ؛ وإمّا لِأنَّهُ نَسِيَ وأعَرَضَ عَنِ الِاعْتِذارِ بِالنِّسْيانِ لِسَماجَةِ تَكَرُّرِ الِاعْتِذارِ بِهِ.

وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ فَقَدْ عَدَلَ إلى المُبادَرَةِ بِاشْتِراطِ ما تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ نَفْسُ صاحِبِهِ بِأنَّهُ إنْ عادَ لِلسُّؤالِ الَّذِي لا يَبْتَغِيهِ صاحِبُهُ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ أنْ لا يُصاحِبَهُ بَعْدَهُ.

وفِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ: كانَتِ الأُولى مِن مُوسى نِسْيانًا، والثّانِيَةُ شَرْطًا، فاحْتَمَلَ كَلامُ النَّبِيءِ الِاحْتِمالَيْنِ المَذْكُورَيْنِ.

وأنْصَفَ مُوسى إذْ جَعَلَ لِصاحِبِهِ العُذْرَ في تَرْكِ مُصاحَبَتِهِ في الثّالِثَةِ تَجَنُّبًا لِإحْراجِهِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لَدُنِّي) - بِتَشْدِيدِ النُّونِ - قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي قِراءَةُ النَّبِيءِ ﷺ يَعْنِي أنَّ فِيها سَنَدًا خاصًّا مَرْوِيًّا فِيهِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ السّادِسَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ.

وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو بَكْرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ (مِن لَدُنِي) - بِتَخْفِيفِ النُّونِ - عَلى أنَّهُ حُذِفَ مِنهُ نُونُ الوِقايَةِ تَخْفِيفًا، لِأنَّ (لَدُنْ) أثْقَلُ مِن (عَنْ) (ومِن) فَكانَ التَّخْفِيفُ فِيها مَقْبُولًا دُونَهُما.

ومَعْنى ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ قَدْ وصَلْتَ مِن جِهَتِي إلى العُذْرِ. فاسْتُعِيرَ (بَلَغْتَ) لِمَعْنًى (تَحَتَّمَ وتَعَيَّنَ) لِوُجُودِ أسْبابِهِ بِتَشْبِيهِ العُذْرِ في قَطْعِ الصُّحْبَةِ بِمَكانٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ السّائِرُ عَلى طَرِيقَةِ المَكْنِيَّةِ.

وأثْبَتَ لَهُ البُلُوغَ تَخْيِيلًا، أوِ اسْتَعارَ البُلُوغَ لِتَعَيُّنِ حُصُولِ الشَّيْءِ بَعْدَ المُماطَلَةِ.