﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهم جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾ هَذا مُقابِلُ قَوْلِهِ ﴿إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا﴾ [الكهف: ١٠٢] عَلى عادَةِ القُرْآنِ في ذِكْرِ البِشارَةِ بَعْدَ الإنْذارِ.

وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ لِلِاهْتِمامِ بِها لِأنَّها جاءَتْ في مُقابَلَةِ جُمْلَةِ ﴿إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا﴾ [الكهف: ١٠٢]، وهي مُؤَكَّدَةٌ كَيْ لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ جَزاءَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُهْتَمٍّ بِتَأْكِيدِهِ مَعَ ما في التَّأْكِيدَيْنِ مِن تَقْوِيَةِ الإنْذارِ وتَقْوِيَةِ البِشارَةِ.

وجَعْلُ المُسْنَدِ إلَيْهِ المَوْصُولَ بِصِلَةِ الإيمانِ وعَمَلِ الصّالِحاتِ لِلِاهْتِمامِ بِشَأْنِ أعْمالِهِمْ، فَلِذَلِكَ خُولِفَ نَظْمُ الجُمْلَةِ الَّتِي تُقابِلُها فَلَمْ

صفحة ٥٠

يَقُلْ: جَزاؤُهُمُ الجَنَّةُ. وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا الأُسْلُوبِ في المُخالِفِ بَيْنَ وصْفِ الجَزاءَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ نارًا أحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾ [الكهف: ٢٩] ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَن أحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٣٠] . وفي الإتْيانِ بِكانَتْ دَلالَةٌ عَلى أنَّ اسْتِحْقاقَهُمُ الجَنّاتِ أمْرٌ مُسْتَقِرٌّ مِن قَبْلُ مُهَيَّأٌ لَهم.

وجِيءَ بِلامِ الِاسْتِحْقاقِ تَكْرِيمًا لَهم بِأنَّهم نالُوا الجَنَّةَ بِاسْتِحْقاقِ إيمانِهِمْ وعَمَلِهِمْ، كَما قالَ تَعالى ﴿وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٢] . وجَمْعُ الجَنّاتِ إيماءً إلى سَعَةِ نَعِيمِهِمْ، وأنَّها جَنّاتٌ كَثِيرَةٌ كَما جاءَ في الحَدِيثِ: «إنَّها جِنانٌ كَثِيرَةٌ» . والفِرْدَوْسُ: البُسْتانُ الجامِعُ لِكُلِّ ما يَكُونُ في البَساتِينِ. وعَنْ مُجاهِدٍ هو مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ. وقِيلَ عَنِ السُّرْيانِيَّةِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو عَرَبِيٌّ، أيْ لَيْسَ مُعَرَّبًا. ولَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ في كَلامِ العَرَبِ قَبْلَ القُرْآنِ.

وأهْلُ الشّامِ يَقُولُونَ لِلْبَساتِينِ والكُرُومِ: الفَرادِيسُ. وفي مَدِينَةِ حَلَبَ بابٌ يُسَمّى بابُ الفَرادِيسِ.

وإضافَةُ الجَنّاتِ إلى الفِرْدَوْسِ بَيانِيَّةٌ، أيْ جَنّاتٌ هي مِن صِنْفِ الفِرْدَوْسِ. ووَرَدَ في الحَدِيثِ أنَّ «الفِرْدَوْسَ أعْلى الجَنَّةِ أوْ وسَطُ الجَنَّةِ» . وذَلِكَ إطْلاقٌ آخَرُ عَلى هَذا المَكانِ المَخْصُوصِ يَرْجِعُ إلى أنَّهُ عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ.

فَإنْ حُمِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَيْهِ كانَتْ إضافَةُ جَنّاتٍ إلى الفِرْدَوْسِ إضافَةً حَقِيقِيَّةً، أيْ جَنّاتُ هَذا المَكانِ.

صفحة ٥١

والنُّزُلُ: تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

وقَوْلُهُ ﴿لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾ أيْ لَيْسَ بَعْدَما حَوَتْهُ تِلْكَ الجَنّاتُ مِن ضُرُوبِ اللَّذّاتِ والتَّمَتُّعِ ما تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إلَيْهِ فَتَوَدُّ مُفارَقَةَ ما هي فِيهِ إلى ما هو خَيْرٌ مِنهُ. أيْ هم يَجِدُونَ فِيها كُلَّ ما يُخامِرُ أنْفُسَهم مِنَ المُشْتَهى.

والحِوَلُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ العِوَجِ والصِّغَرِ. وحَرْفُ العِلَّةِ يُصَحَّحُ في هَذِهِ الصِّيغَةِ لَكِنَّ الغالِبَ فِيما كانَ عَلى هَذِهِ الزِّنَةِ مَصْدَرًا التَّصْحِيحُ مِثْلَ: الحِوَلِ، وفِيما كانَ مِنها جَمْعًا الإعْلالُ نَحْوَ: الحِيَلُ جَمْعُ حِيلَةٍ. وهو مِن ذَواتِ الواوِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّحَوُّلِ.