﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينِ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ .

اسْتِئْنافٌ نَشَأ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠] إذْ كانَتْ إضافَةُ أمْوالٍ وأوْلادٍ إلى ضَمِيرِ ”هم“ دالَّةٌ عَلى أنَّها مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قُصِدَ مِنهُ عِظَةُ المُسْلِمِينَ ألّا يَغْتَرُّوا بِحالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتُعْجِبَهم زِينَةُ الدُّنْيا، وتُلْهِيَهم عَنِ التَّهَمُّمِ بِما بِهِ الفَوْزُ في الآخِرَةِ، فَإنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الغاياتِ يَسْتَدْعِي التَّحْذِيرَ مِنَ البِداياتِ، وقَدْ صُدِّرَ هَذا الوَعْظُ والتَّأْدِيبُ بِبَيانِ مَدْخَلِ هَذِهِ الحالَةِ إلى النُّفُوسِ، حَتّى يَكُونُوا عَلى أشَدِّ الحَذَرِ مِنها؛ لِأنَّ ما قَرارَتُهُ النَّفْسُ يَنْسابُ إلَيْها مَعَ الأنْفاسِ.

صفحة ١٧٩

والتَّزْيِينُ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ زَيْنًا أيْ حَسَنًا، فَهو تَحْسِينُ الشَّيْءِ المُحْتاجِ إلى التَّحْسِينِ، وإزالَةُ ما يَعْتَرِيهِ مِنَ القُبْحِ أوِ التَّشْوِيهِ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ الحَلّاقُ مُزَيِّنًا.

وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

الحَرْبُ أوَّلَ ما تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعى بِزِينَتِها لِكُلِّ جَهُولِ

فالزِّينَةُ هي ما في الشَّيْءِ مِنَ المَحاسِنِ: الَّتِي تُرَغِّبُ النّاظِرِينَ في اقْتِنائِهِ، قالَ تَعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٢٨] . وكَلِمَةُ ”زَيْنٍ“ قَلِيلَةُ الدَّوَرانِ في كَلامِ العَرَبِ مَعَ حُسْنِها وخِفَّتِها؛ قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ:

أزْمَعَتْ خُلَّتِي مَعَ الفَجْرِ بَيْنا ∗∗∗ جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الوَجْهَ زَيْنَـا

وفِي حَدِيثِ سُنَنِ أبِي داوُدَ: أنَّ أبا بَرَزَةَ الأسْلَمِيَّ دَخَلَ عَلى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيادٍ وقَدْ أرْسَلَ إلَيْهِ لِيَسْألَهُ عَنْ حَدِيثِ الحَوْضِ - فَلَمّا دَخَلَ أبُو بَرَزَةَ قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِجُلَسائِهِ: إنَّ مُحَمَّدِيَّكم هَذا الدِّحْداحُ. قالَ أبُو بَرَزَةَ: ما كُنْتُ أحْسَبُ أنِّي أبْقى في قَوْمٍ يُعَيِّرُونَنِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ. فَقالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ.

والشَّهَواتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وأصْلُ الشَّهْوَةِ مَصْدَرُ ”شَهِيَ“ كَرَضِيَ، والشَّهْوَةُ بِزِنَةِ المَرَّةِ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِ مَصْدَرِ ”شَهِيَ“ أنْ يَكُونَ بِزِنَةِ المَرَّةِ. وأُطْلِقَتِ الشَّهَواتُ هُنا عَلى الأشْياءِ المُشْتَهاةِ عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ في قُوَّةِ الوَصْفِ، وتَعْلِيقُ التَّزْيِينِ بِالحُبِّ جَرى عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ المُزَيَّنَ لِلنّاسِ هو الشَّهَواتُ، أيِ المُشْتَهَياتُ نَفْسُها، لا حُبُّها، فَإذا زُيِّنَتْ لَهم أحَبُّوها؛ فَإنَّ الحُبَّ يَنْشَأُ عَنِ الِاسْتِحْسانِ، ولَيْسَ الحُبُّ بِمُزَيَّنٍ، وهَذا إيجازٌ يُغْنِي عَنْ أنْ يُقالَ زُيِّنَتْ لِلنّاسِ الشَّهَواتُ فَأحَبُّوها، وقَدْ سَكَتَ المُفَسِّرُونَ عَنْ وجْهِ نَظْمِ الكَلامِ بِهَذا التَّعْلِيقِ.

والوَجْهُ عِنْدِي إمّا أنْ يُجْعَلَ ﴿حُبُّ الشَّهَواتِ﴾ مَصْدَرًا نائِبًا عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، مُبَيِّنًا لِنَوْعِ التَّزْيِينِ: أيْ زُيِّنَ لَهم تَزْيِينُ حُبٍّ، وهو أشَدُّ التَّزْيِينِ، وجُعِلَ المَفْعُولُ المُطْلَقُ نائِبًا عَنِ الفاعِلِ، وأصْلُ الكَلامِ: زُيِّنَ لِلنّاسِ الشَّهَواتُ حُبًّا، فَحُوِّلَ وأُضِيفَ إلى النّائِبِ عَنِ الفاعِلِ، وجُعِلَ نائِبًا عَنِ الفاعِلِ، كَما جُعِلَ مَفْعُولًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقالَ إنِّي أحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ [ص: ٣٢] . وإمّا أنْ يُجْعَلَ ”حُبُّ“ مَصْدَرًا بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيْ

صفحة ١٨٠

مَحْبُوبُ الشَّهَواتِ أيِ الشَّهَواتُ المَحْبُوبَةُ. وإمّا أنْ يُجْعَلَ ”زُيِّنَ“ كِنايَةً مُرادًا بِهِ لازِمُ التَّزْيِينِ وهو إقْبالُ النَّفْسِ عَلى ما في المُزَيَّنِ مِنَ المُسْتَحْسَناتِ مَعَ سَتْرِ ما فِيهِ مِنَ الأضْرارِ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّزْيِينِ، أيْ تَحْسِينِ ما لَيْسَ بِخالِصِ الحُسْنِ. فَإنَّ مُشْتَهَياتِ النّاسِ تَشْتَمِلُ عَلى أُمُورٍ مُلائِمَةٍ مَقْبُولَةٍ، وقَدْ تَكُونُ في كَثِيرٍ مِنها مَضارُّ، أشَدُّها أنَّها تُشْغِلُ عَنْ كَمالاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِذَلِكَ كانَتْ كالشَّيْءِ المُزَيَّنِ تُغَطّى نَقائِصُهُ بِالمُزَيَّناتِ، وبِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ في تَعْلِيقِ ”زُيِّنَ“ بِـ ”حُبُّ“ إشْكالٌ.

وحُذِفَ فاعِلُ التَّزْيِينِ لِخَفائِهِ عَنْ إدْراكِ عُمُومِ المُخاطَبِينَ، لِأنَّ ما يَدُلُّ عَلى الغَرائِزِ والسَّجايا، لَمّا جُهِلَ فاعِلُهُ في مُتَعارَفِ العُمُومِ، كانَ الشَّأْنُ إسْنادَ أفْعالِهِ لِلْمَجْهُولِ: كَقَوْلِهِمْ عُنِيَ بِكَذا، واضْطُرَّ إلى كَذا، لا سِيَّما إذا كانَ المُرادُ الكِنايَةَ عَنْ لازِمِ التَّزْيِينِ، وهو الإغْضاءُ عَمّا في المُزَيَّنِ مِنَ المَساوِي؛ لِأنَّ الفاعِلَ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا بِحالٍ، والمُزَيَّنُ في نَفْسِ الأمْرِ هو إدْراكُ الإنْسانِ الَّذِي أحَبَّ الشَّهَواتِ، وذَلِكَ أمْرٌ جِبِلِّيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ في نِظامِ الخِلْقَةِ؛ قالَ تَعالى: ﴿وذَلَّلْناها لَهم فَمِنها رَكُوبُهم ومِنها يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧٢] .

ولَمّا رَجَعَ التَّزْيِينُ إلى انْفِعالٍ في الجِبِلَّةِ، كانَ فاعِلُهُ عَلى الحَقِيقَةِ هو خالِقَ هَذِهِ الجِبِلّاتِ، فالمُزَيِّنُ هو اللَّهُ بِخَلْقِهِ لا بِدَعْوَتِهِ، ورُوِيَ مِثْلُ هَذا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وإذا التَفَتْنا إلى الأسْبابِ القَرِيبَةِ المُباشِرَةِ كانَ المُزَيِّنُ هو مَيْلَ النَّفْسِ إلى المُشْتَهى، أوْ تَرْغِيبَ الدّاعِينَ إلى تَناوُلِ الشَّهَواتِ: مِنَ الخِلّانِ والقُرَناءِ، وعَنِ الحَسَنِ: المُزَيِّنُ هو الشَّيْطانُ، وكَأنَّهُ ذَهَبَ إلى أنَّ التَّزْيِينَ بِمَعْنى التَّسْوِيلِ والتَّرْغِيبِ بِالوَسْوَسَةِ لِلشَّهَواتِ الذَّمِيمَةِ والفَسادِ، وقَصَرَهُ عَلى هَذا - وهو بَعِيدٌ - لِأنَّ تَزْيِينَ هَذِهِ الشَّهَواتِ في ذاتِهِ قَدْ يُوافِقُ وجْهَ الإباحَةِ والطّاعَةِ، فَلَيْسَ يُلازِمُها تَسْوِيلُ الشَّيْطانِ إلّا إذا جَعَلَها وسائِلَ لِلْحَرامِ، وفي الحَدِيثِ «قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أيَأْتِي أحَدُنا شَهْوَتَهُ ولَهُ فِيها أجْرٌ. فَقالَ: أرَأيْتُمْ لَوْ وضَعَها في حَرامٍ أكانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إذا وضَعَها في الحَلالِ كانَ لَهُ أجْرٌ» وسِياقُ الآيَةِ تَفْضِيلُ مَعالِي الأُمُورِ وصالِحِ الأعْمالِ عَلى المُشْتَهَياتِ المَخْلُوطَةِ أنْواعُها بِحَلالٍ مِنها وحَرامٍ، والمُعَرَّضَةِ لِلزَّوالِ، فَإنَّ الكَمالَ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ لِتَبْلُغَ الدَّرَجاتِ القُدْسِيَّةَ، وتَنالَ النَّعِيمَ الأبَدِيَّ العَظِيمَ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ .

صفحة ١٨١

وبَيانُ الشَّهَواتِ بِـ ﴿النِّساءِ والبَنِينَ﴾ وما بَعْدَهُما، بَيانٌ بِأُصُولِ الشَّهَواتِ البَشَرِيَّةِ: الَّتِي تَجْمَعُ مُشْتَهَياتٍ كَثِيرَةً، والَّتِي لا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأُمَمِ والعُصُورِ والأقْطارِ، فالمَيْلُ إلى النِّساءِ مَرْكُوزٌ في الطَّبْعِ، وضَعَهُ اللَّهُ تَعالى لِحِكْمَةِ بَقاءِ النَّوْعِ بِداعِي طَلَبِ التَّناسُلِ؛ إذِ المَرْأةُ هي مَوْضِعُ التَّناسُلِ، فَجُعِلَ مَيْلُ الرَّجُلِ إلَيْها في الطَّبْعِ حَتّى لا يَحْتاجَ بَقاءُ النَّوْعِ إلى تَكَلُّفٍ رُبَّما تَعْقُبُهُ سَآمَةٌ، وفي الحَدِيثِ: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أشَدَّ عَلى الرِّجالِ مِن فِتْنَةِ النِّساءِ» ولَمْ يَذْكُرِ الرِّجالَ لِأنَّ مَيْلَ النِّساءِ إلى الرِّجالِ أضْعَفُ في الطَّبْعِ، وإنَّما تَحْصُلُ المَحَبَّةُ مِنهُنَّ لِلرِّجالِ بِالإلْفِ والإحْسانِ.

ومَحَبَّةُ الأبْناءِ - أيْضًا - في الطَّبْعِ: إذْ جَعَلَ اللَّهُ في الوالِدَيْنِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ شُعُورًا وِجْدانِيًّا يُشْعِرُ بِأنَّ الوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنهُما، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَدْعاةً إلى المُحافَظَةِ عَلى الوَلَدِ الَّذِي هو الجِيلُ المُسْتَقْبَلُ، وبِبَقائِهِ بَقاءُ النَّوْعِ، فَهَذا بَقاءُ النَّوْعِ بِحِفْظِهِ مِنَ الِاضْمِحْلالِ المَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وفي الوَلَدِ أيْضًا حِفْظٌ لِلنَّوْعِ مِنَ الِاضْمِحْلالِ العارِضِ بِالِاعْتِداءِ عَلى الضَّعِيفِ مِنَ النَّوْعِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ يَعْرِضُ لَهُ الضَّعْفُ بَعْدَ القُوَّةِ، فَيَكُونُ ولَدُهُ دافِعًا عَنْهُ اعْتِداءَ مَن يَعْتَدِي عَلَيْهِ، فَكَما دَفَعَ الوالِدُ عَنِ ابْنِهِ في حالِ ضَعْفِهِ، يَدْفَعُ الوَلَدُ عَنِ الوالِدِ في حالِ ضَعْفِهِ.

و﴿الذَّهَبِ والفِضَّةِ﴾ شَهْوَتانِ بِحُسْنِ مَنظَرِهِما وما يُتَّخَذُ مِنهُما مِن حُلِيٍّ لِلرِّجالِ والنِّساءِ، والنَّقْدانِ مِنهُما: الدَّنانِيرُ والدَّراهِمُ، شَهْوَةٌ لِما أوْدَعَ اللَّهُ في النُّفُوسِ مُنْذُ العُصُورِ المُتَوَغِّلَةِ في القِدَمِ مِن حُبِّ النُّقُودِ الَّتِي بِها دَفْعُ أعْواضِ الأشْياءِ المُحْتاجِ إلَيْها.

والقَناطِيرُ جَمْعُ قِنْطارٍ وهو ما يَزِنُ مِائَةَ رِطْلٍ، وأصْلُهُ مُعَرَّبٌ قِيلَ عَنِ الرُّومِيَّةِ - اللّاتِينِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ - كَما نَقَلَهُ النَّقّاشُ عَنِ الكَلْبِيِّ، وهو الصَّحِيحُ؛ فَإنَّ أصْلَهُ في اللّاتِينِيَّةِ (كِينْتالُ) وهو مِائَةُ رِطْلٍ. وقالَ ابْنُ سِيدَهْ: هو مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيانِيَّةِ. فَما في الكَشّافِ في سُورَةِ النِّساءِ أنَّ القِنْطارَ مَأْخُوذٌ مَن قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ إذا رَفَعْتَهُ - تَكَلُّفٌ. وقَدْ كانَ القِنْطارُ عِنْدَ العَرَبِ وزْنًا ومِقْدارًا مِنَ الثَّرْوَةِ، يَبْلُغُهُ بَعْضُ المُثْرِينَ: وهو أنْ يَبْلُغَ مالُهُ مِائَةَ رِطْلٍ فِضَّةً، ويَقُولُونَ: قَنْطَرَ الرَّجُلُ: إذا بَلَغَ مالُهُ قِنْطارًا وهو اثْنا عَشَرَ ألْفَ دِينارٍ أيْ ما يُساوِي قِنْطارًا مِنَ الفِضَّةِ، وقَدْ يُقالُ: هو مِقْدارُ مِائَةِ ألْفِ دِينارٍ مِنَ الذَّهَبِ.

صفحة ١٨٢

و﴿المُقَنْطَرَةِ﴾ أُرِيدَ بِها هُنا المُضاعَفَةُ المُتَكاثِرَةُ، لِأنَّ اشْتِقاقَ الوَصْفِ مِنِ اسْمِ الشَّيْءِ المَوْصُوفِ، إذا اشْتُهِرَ صاحِبُ الِاسْمِ بِصِفَةٍ، يُؤْذِنُ ذَلِكَ الِاشْتِقاقُ بِمُبالَغَةٍ في الحاصِلِ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ ألْيَلُ، وظِلٌّ ظَلِيلٌ، وداهِيَةٌ دَهْياءُ، وشِعْرٌ شاعِرٌ، وإبِلٌ مُؤَبَّلَةٌ، وآلافٌ مُؤَلَّفَةٌ.

والخَيْلُ مَحْبُوبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، في العُصُورِ الماضِيَةِ وفِيما بَعْدَها، لَمْ يُنْسِها ما تَفَنَّنَ فِيهِ البَشَرُ مِن صُنُوفِ المَراكِبِ بَرًّا وبَحْرًا وجَوًّا، فالأُمَمُ المُتَحَضِّرَةُ اليَوْمَ مَعَ ما لَدَيْهِمْ مِنِ القِطاراتِ الَّتِي تَجْرِي بِالبُخارِ وبِالكَهْرَباءِ عَلى السِّكَكِ الحَدِيدِيَّةِ، ومِن سَفائِنِ البَحْرِ العَظِيمَةِ الَّتِي تُسَيِّرُها آلاتُ البُخارِ، ومِنَ السَّيّاراتِ الصَّغِيرَةِ المُسَيَّرَةِ بِاللَّوالِبِ تُحَرِّكُها حَرارَةُ النِّفْطِ المُصَفّى، ومِنَ الطِّياراتِ في الهَواءِ مِمّا لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ البَشَرُ في عَصْرٍ مَضى، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ النّاسَ عَنْ رُكُوبِ ظُهُورِ الخَيْلِ، وجَرِّ العَرَباتِ بِمُطَهَّماتِ الأفْراسِ، والعِنايَةِ بِالمُسابَقَةِ بَيْنَ الأفْراسِ.

وذَكَرَ الخَيْلَ لِتَواطُؤِ نُفُوسِ أهْلِ البَذَخِ عَلى مَحَبَّةِ رُكُوبِها، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

كَأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ

و﴿المُسَوَّمَةِ﴾ الأظْهَرُ فِيهِ ما قِيلَ: إنَّهُ الرّاعِيَةُ، فَهو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّوْمِ وهو الرَّعْيُ، يُقالُ: أسامَ الماشِيَةَ إذا رَعى بِها في المَرْعى، فَتَكُونُ مادَّةُ ”فَعَّلَ“ لِلتَّكْثِيرِ أيِ الَّتِي تُتْرَكُ في المَراعِي مُدَدًا طَوِيلَةً وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ لِسَعَةِ أصْحابِها وكَثْرَةِ مَراعِيهِمْ، فَتَكُونُ خَيْلُهم مُكَرَّمَةً في المُرُوجِ والرِّياضِ. وفي الحَدِيثِ في ذِكْرِ الخَيْلِ («فَأطالَ لَها في مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ» ) .

وقِيلَ: المُسَوَّمَةُ مِنَ السُّومَةِ - بِضَمِّ السِّينِ - وهي السِّمَةُ أيِ العَلامَةُ مِن صُوفٍ أوْ نَحْوِهِ، وإنَّما يَجْعَلُونَ لَها ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِكَرَمِها وحُسْنِ بَلائِها في الحَرْبِ، قالَ العَتّابِيُّ:

ولَوْلاهُنَّ قَدْ سَوَّمْتُ مُهْـرِي ∗∗∗ وفي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفاءِ كافِ

يُرِيدُ جَعَلْتُ لَهُ سُومَةَ أفْراسِ الجِهادِ أيْ عَلامَتَها وقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقاقُ السِّمَةِ والسُّومَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والأنْعامُ زِينَةٌ لِأهْلِ الوَبَرِ قالَ تَعالى: ﴿ولَكم فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: ٦]، وفِيها مَنافِعُ عَظِيمَةٌ أشارَ إلَيْها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ﴾ [النحل: ٥]

صفحة ١٨٣

الآياتِ في سُورَةِ النَّحْلِ، وقَدْ لا تَتَعَلَّقُ شَهَواتُ أهْلِ المُدُنِ بِشِدَّةِ الإقْبالِ عَلى الأنْعامِ لَكِنَّهم يُحِبُّونَ مَشاهِدَها، ويُعْنَوْنَ بِالِارْتِياحِ إلَيْها إجْمالًا.

والحَرْثِ أصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَثَ الأرْضَ: إذا شَقَّها بِآلَةٍ لِيَزْرَعَ فِيها أوْ يَغْرِسَ، وأُطْلِقَ هَذا المَصْدَرُ عَلى المَحْرُوثِ فَصارَ يُطْلَقُ عَلى الجَنّاتِ والحَوائِطِ وحُقُولِ الزَّرْعِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَسْقِي الحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] فِيها.

والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ إلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وأفْرَدَ كافَ الخِطابِ لِأنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيءِ ﷺ أوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، عَلى أنَّ عَلامَةَ المُخاطَبِ الواحِدِ هي الغالِبُ في الِاقْتِرانِ بِأسْماءِ الإشارَةِ لِإرادَةِ البُعْدِ، والبُعْدُ هُنا بُعْدٌ مَجازِيٌّ بِمَعْنى الرِّفْعَةِ والنَّفاسَةِ.

والمَتاعُ مُؤْذِنٌ بِالقِلَّةِ وهو ما يُسْتَمْتَعُ بِهِ مُدَّةً.

ومَعْنى ﴿واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ أنَّ ثَوابَ اللَّهِ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ. والمَآبُ: المَرْجِعُ، وهو هُنا مَصْدَرٌ، مَفْعَلٌ مِن آبَ يَئُوبُ، وأصْلُهُ مَأْوَبٌ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى الهَمْزَةِ، وقُلِبَتِ الواوُ ألِفًا، والمُرادُ بِهِ العاقِبَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.