﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ ﴿الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ والقانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ .

اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، فَإنَّهُ نَشَأ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤] المُقْتَضِي أنَّ الكَلامَ مَسُوقٌ مَساقَ الغَضِّ مِن هَذِهِ الشَّهَواتِ. وافْتَتَحَ الِاسْتِئْنافَ بِكَلِمَةِ ”قُلْ“ لِلِاهْتِمامِ بِالمَقُولِ، والمُخاطَبُ بِـ ”قُلْ“

صفحة ١٨٤

النَّبِيءُ ﷺ والِاسْتِفْهامُ لِلْعَرْضِ تَشْوِيقًا مِن نُفُوسِ المُخاطَبِينَ إلى تَلَقِّي ما سَيُقَصُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الصف: ١٠] الآيَةَ.

وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ، ورُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ: أوُنَبِّئُكم بِتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ واوًا. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ، ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وخَلَفٌ: بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ.

وجُمْلَةُ ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ وهي المُنَبَّأُ بِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ”خَيْرٍ“، وجَنّاتٌ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ: أيْ لَهم، أوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وقَدْ أُلْغِيَ ما يُقابِلُ شَهَواتِ الدُّنْيا في ذِكْرِ نَعِيمِ الآخِرَةِ؛ لِأنَّ لَذَّةَ البَنِينَ ولَذَّةَ المالِ هُنالِكَ مَفْقُودَةٌ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْها، وكَذَلِكَ لَذَّةُ الخَيْلِ والأنْعامِ؛ إذْ لا دَوابَّ في الجَنَّةِ، فَبَقِيَ ما يُقابِلُ النِّساءَ والحَرْثَ، وهو الجَنّاتُ والأزْواجُ، لِأنَّ بِهِما تَمامُ النَّعِيمِ والتَّأنُّسِ، وزِيدَ عَلَيْهِما رِضْوانُ اللَّهِ الَّذِي حُرِمَهُ مَن جَعَلَ حَظَّهُ لَذّاتِ الدُّنْيا وأعْرَضَ عَنِ الآخِرَةِ. ومَعْنى المُطَهَّرَةِ المُنَزَّهَةُ مِمّا يَعْتَرِي نِساءَ البَشَرِ مِمّا تَشْمَئِزُّ مِنهُ النُّفُوسُ، فالطَّهارَةُ هُنا حِسِّيَّةٌ لا مَعْنَوِيَّةٌ.

وعَطَفَ ”رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ“ عَلى ما أعَدَّ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عِنْدَ اللَّهِ: لِأنَّ رِضْوانَهُ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ النَّعِيمِ المادِّيِّ؛ لِأنَّ رِضْوانَ اللَّهِ تَقْرِيبٌ رُوحانِيٌّ، قالَ تَعالى: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] .

وقَرَأ الجُمْهُورُ: رِضْوانٌ، بِكَسْرِ الرّاءِ وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: بِضَمِّ الرّاءِ وهُما لُغَتانِ.

وأظْهَرَ اسْمَ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ﴾، دُونَ أنْ يَقُولَ ورِضْوانٌ مِنهُ أيْ مِن رَبِّهِمْ: لِما في اسْمِ الجَلالَةِ مِنَ الإيماءِ إلى عَظَمَةِ ذَلِكَ الرِّضْوانِ.

وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ اعْتِراضٌ لِبَيانِ الوَعْدِ أيْ أنَّهُ عَلِيمٌ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا ومَراتِبِ تَقْواهم، فَهو يُجازِيهِمْ، ولِتَضَمُّنِ ”بَصِيرٌ“ مَعْنى ”عَلِيمٍ“ عُدِّيَ بِالباءِ. وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ لِقَصْدِ اسْتِقْلالِ الجُمْلَةِ لِتَكُونَ كالمَثَلِ.

وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ عَطْفُ بَيانٍ ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وصَفَهم بِالتَّقْوى وبِالتَّوَجُّهِ إلى اللَّهِ تَعالى بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ. ومَعْنى القَوْلِ هُنا الكَلامُ المُطابِقُ لِلْواقِعِ في الخَبَرِ، والجارِي عَلى

صفحة ١٨٥

فَرْطِ الرَّغْبَةِ في الدُّعاءِ، في قَوْلِهِمْ: ﴿فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ إلَخْ، وإنَّما يَجْرِي كَذَلِكَ إذا سَعى الدّاعِي في وسائِلِ الإجابَةِ وتَرَقَّبَها بِأسْبابِها الَّتِي تُرْشِدُ إلَيْها التَّقْوى، فَلا يُجازى هَذا الجَزاءَ مَن قالَ ذَلِكَ بِفَمِهِ ولَمْ يَعْمَلْ لَهُ.

وقَوْلُهُ: ﴿الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ﴾ الآيَةَ - صِفاتٌ ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، أوْ صِفاتٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ، والظّاهِرُ الأوَّلُ. وذَكَرَ هُنا أُصُولَ فَضائِلِ صِفاتِ المُتَدَيِّنِينَ: وهي الصَّبْرُ الَّذِي هو مِلاكُ فِعْلِ الطّاعاتِ وتَرْكِ المَعاصِي. والصِّدْقُ الَّذِي هو مِلاكُ الِاسْتِقامَةِ وبَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ أفْرادِ الأُمَّةِ. والقُنُوتُ، وهو مُلازَمَةُ العِباداتِ في أوْقاتِها وإتْقانُها وهو عِبادَةٌ نَفْسِيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ. والإنْفاقُ وهو أصْلُ إقامَةِ أوَدِ الأُمَّةِ بِكِفايَةِ حاجِ المُحْتاجِينَ، وهو قُرْبَةٌ مالِيَّةٌ والمالُ شَقِيقُ النَّفْسِ. وزادَ الِاسْتِغْفارَ بِالأسْحارِ وهو الدُّعاءُ والصَّلاةُ المُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ في أواخِرِ اللَّيْلِ، والسَّحَرُ سُدُسُ اللَّيْلِ الأخِيرُ؛ لِأنَّ العِبادَةَ فِيهِ أشَدُّ إخْلاصًا، لِما في ذَلِكَ الوَقْتِ مِن هُدُوءِ النُّفُوسِ، ولِدَلالَتِهِ عَلى اهْتِمامِ صاحِبِهِ بِأمْرِ آخِرَتِهِ، فاخْتارَ لَهُ هَؤُلاءِ الصّادِقُونَ آخِرَ اللَّيْلِ لِأنَّهُ وقْتُ صَفاءِ السَّرائِرِ، والتَّجَرُّدِ عَنِ الشَّواغِلِ.

وعَطْفُ الصِّفاتِ في قَوْلِهِ: الصّابِرِينَ، وما بَعْدَهُ - سَواءٌ كانَ قَوْلُهُ الصّابِرِينَ صِفَةً ثانِيَةً، بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾، أمْ كانَ ابْتِداءَ الصِّفاتِ بَعْدَ البَيانِ - طَرِيقَةٌ ثانِيَةٌ مِن طَرِيقَتَيْ تَعْدادِ الصِّفاتِ في الذِّكْرِ في كَلامِهِمْ، فَيَكُونُ بِالعَطْفِ وبِدُونِهِ، مِثْلَ تَعَدُّدِ الأخْبارِ والأحْوالِ؛ إذْ لَيْسَتْ حُرُوفُ العَطْفِ بِمَقْصُورَةٍ عَلى تَشْرِيكِ الذَّواتِ. وفي الكَشّافِ أنَّ في عَطْفِ الصِّفاتِ نُكْتَةً زائِدَةً عَلى ذِكْرِها بِدُونِ العَطْفِ، وهي الإشارَةُ إلى كَمالِ المَوْصُوفِ في كُلِّ صِفَةٍ مِنها، وأحالَ تَفْصِيلَهُ عَلى ما تَقَدَّمَ لَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] مَعَ أنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنالِكَ شَيْئًا مِن هَذا، وسَكَتَ الكاتِبُونَ عَنْ بَيانِ ذَلِكَ هُنا وهُناكَ، وكَلامُهُ يَقْتَضِي أنَّ الأصْلَ عِنْدَهُ في تَعَدُّدِ الصِّفاتِ والأخْبارِ تَرْكُ العَطْفِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُها مُؤْذِنًا بِمَعْنًى خُصُوصِيٍّ، يَقْصِدُهُ البَلِيغُ، ولَعَلَّ وجْهَهُ أنَّ شَأْنَ حَرْفِ العَطْفِ أنْ يُسْتَغْنى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ العامِلِ فَيُناسِبَ المَعْمُولاتِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفاتُ، فَإذا عُطِفَتْ فَقَدْ نُزِّلَتْ كُلُّ صِفَةٍ مَنزِلَةَ ذاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وما ذَلِكَ إلّا لِقُوَّةِ المَوْصُوفِ في تِلْكَ الصِّفَةِ، حَتّى كَأنَّ الواحِدَ صارَ عَدَدًا، كَقَوْلِهِمْ: واحِدٌ كَألْفٍ، ولا أحْسَبُ لِهَذا الكَلامِ تَسْلِيمًا. وقَدْ تَقَدَّمَ عَطْفُ الصِّفاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ.