Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ١٨٨
﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ قَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ إنَّ الدِّينَ - بِكَسْرِ هَمْزَةِ إنَّ - فَهو اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ لِبَيانِ فَضِيلَةِ هَذا الدِّينِ بِأجْمَعِ عِبارَةٍ وأوْجَزِها.وهَذا شُرُوعٌ في أوَّلِ غَرَضٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةُ: غَرَضِ مُحاجَّةِ نَصارى نَجْرانَ، فَهَذا الِاسْتِئْنافُ مِن مُناسَباتِ افْتِتاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ تَنْزِيلِ القُرْآنِ والتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، ثُمَّ بِتَخْصِيصِ القُرْآنِ بِالذِّكْرِ وتَفْضِيلِهِ بِأنَّ هَدْيَهُ يَفُوقُ هَدْيَ ما قَبْلَهُ مِنَ الكُتُبِ، إذْ هو الفُرْقانُ، فَإنَّ ذَلِكَ أُسُّ الدِّينِ القَوِيمِ، ولَمّا كانَ الكَلامُ المُتَقَدِّمُ مُشْتَمِلًا عَلى تَعْرِيضٍ بِاليَهُودِ والنَّصارى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ، وإبْطالٍ لِقَوْلِ وفْدِ نَجْرانَ لَمّا طَلَبَ مِنهُمُ الرَّسُولُ ﷺ الإسْلامَ: أسْلَمْنا قَبْلَكَ، فَقالَ لَهم: كَذَبْتُمْ. رَوى الواحِدِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: أنَّ وفْدَ نَجْرانَ لَمّا دَخَلُوا المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ تَكَلَّمَ السَّيِّدُ والعاقِبُ فَقالَ لَهُما رَسُولُ اللَّهِ أسْلِما، قالا قَدْ أسْلَمْنا قَبْلَكَ، قالَ كَذَبْتُما، يَمْنَعُكُما مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُما لِلَّهِ ولَدًا، وعِبادَتُكُما الصَّلِيبَ - ناسَبَ أنْ يُنَوِّهَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالإسْلامِ الَّذِي جاءَ بِهِ القُرْآنُ، ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ قَوْلَهُ: ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ جُمَلَ الكَلامِ البَلِيغِ لا يَخْلُو انْتِظامُها عَنِ المُناسَبَةِ، وإنْ كانَ بَعْضُها اسْتِئْنافًا، وإنَّما لا تُطْلَبُ المُناسَبَةُ في المُحادَثاتِ والِاقْتِضاباتِ.
وتَوْكِيدُ الكَلامِ بِـ ”إنَّ“ تَحْقِيقٌ لِما تَضَمَّنَهُ مِن حَصْرِ حَقِيقَةِ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ في الإسْلامِ: أيِ الدِّينِ الكامِلِ.
وقَرَأ الكِسائِيُّ أنَّ الدِّينَ - بِفَتْحِ هَمْزَةِ أنَّ - عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن ﴿أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، أيْ شَهِدَ اللَّهُ بِأنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ، والدِّينُ: حَقِيقَتُهُ في الأصْلِ الجَزاءُ، ثُمَّ صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُطْلَقُ عَلى: مَجْمُوعِ عَقائِدَ وأعْمالٍ يُلَقِّنُها رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ ويَعِدُ العامِلِينَ بِها بِالنَّعِيمِ، والمُعْرِضِينَ عَنْها بِالعِقابِ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى ما يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمّا يَضَعُهُ بَعْضُ زُعَماءِ النّاسِ مِن تِلْقاءِ عَقْلِهِ فَتَلْتَزِمُهُ طائِفَةٌ مِنَ النّاسِ. وسُمِّيَ الدِّينُ دِينًا لِأنَّهُ يَتَرَقَّبُ مِنهُ مُتَّبِعُهُ الجَزاءَ عاجِلًا
صفحة ١٨٩
أوْ آجِلًا، فَما مِن أهْلِ دِينٍ إلّا وهم يَتَرَقَّبُونَ جَزاءً مِن رَبِّ ذَلِكَ الدِّينِ، فالمُشْرِكُونَ يَطْمَعُونَ في إعانَةِ الآلِهَةِ ووَساطَتِهِمْ ورِضاهم عَنْهم، ويَقُولُونَ: هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، وقالَ أبُو سُفْيانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ. وقالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمّا قالَ لَهُ العَبّاسُ: أما آنَ لَكَ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ -: لَقَدْ عَلِمْتُ أنْ لَوْ كانَ مَعَهُ إلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أغْنى عَنِّي شَيْئًا. وأهْلُ الأدْيانِ الإلَهِيَّةِ يَتَرَقَّبُونَ الجَزاءَ الأوْفى في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَأوَّلُ دِينٍ إلَهِيٍّ كانَ حَقًّا وبِهِ كانَ اهْتِداءُ الإنْسانِ، ثُمَّ طَرَأتِ الأدْيانُ المَكْذُوبَةُ، وتَشَبَّهَتْ بِالأدْيانِ الصَّحِيحَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى - تَعْلِيمًا لِرَسُولِهِ -: ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] وقالَ: ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ﴾ [يوسف: ٧٦] .وقَدْ عَرَّفَ العُلَماءُ الدِّينَ الصَّحِيحَ بِأنَّهُ وضْعٌ إلَهِيٌّ سائِقٌ لِذَوِي العُقُولِ بِاخْتِيارِهِمُ المَحْمُودِ إلى الخَيْرِ باطِنًا وظاهِرًا.
والإسْلامُ عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ عَلى مَجْمُوعِ الدِّينِ الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ كَما أُطْلِقَ عَلى ذَلِكَ الإيمانُ أيْضًا، ولِذَلِكَ لُقِّبَ أتْباعُ هَذا الدِّينِ بِالمُسْلِمِينَ وبِالمُؤْمِنِينَ، وهو الإطْلاقُ المُرادُ هُنا، وهو تَسْمِيَةٌ بِمَصْدَرِ ”أسْلَمَ“ إذا أذْعَنَ ولَمْ يُعانِدْ إذْعانًا عَنِ اعْتِرافٍ بِحَقٍّ لا عَنْ عَجْزٍ، وهَذا اللَّقَبُ أوْلى بِالإطْلاقِ عَلى هَذا الدِّينِ مِن لَقَبِ الإيمانِ؛ لِأنَّ الإسْلامَ هو المَظْهَرُ البَيِّنُ لِمُتابَعَةِ الرَّسُولِ فِيما جاءَ بِهِ مِنَ الحَقِّ، واطِّراحِ كُلِّ حائِلٍ يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ، بِخِلافِ الإيمانِ فَإنَّهُ اعْتِقادٌ قَلْبِيٌّ، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ﴾ [الحج: ٧٨] وقالَ: ﴿فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [آل عمران: ٢٠] ولِأنَّ الإسْلامَ لا يَكُونُ إلّا عَنِ اعْتِقادٍ لِأنَّ الفِعْلَ أثَرُ الإدْراكِ، بِخِلافِ العَكْسِ فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِقادُ مَعَ المُكابَرَةِ.
ورُبَّما أُطْلِقَ الإسْلامُ عَلى خُصُوصِ الأعْمالِ؛ والإيمانُ عَلى الِاعْتِقادِ، وهو إطْلاقٌ مُناسِبٌ لِحالَتَيِ التَّفْكِيكِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ في الواقِعِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى، خِطابًا لِقَوْمٍ أسْلَمُوا مُتَرَدِّدِينَ: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]، أوِ التَّفْكِيكِ في تَصْوِيرِ الماهِيَّةِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِحَقائِقِ المَعانِي الشَّرْعِيَّةِ أوِ اللُّغَوِيَّةِ كَما وقَعَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ مِن ذِكْرِ مَعْنى الإيمانِ، والإسْلامِ، والإحْسانِ.
والتَّعْرِيفُ في الدِّينِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، إذْ لا يَسْتَقِيمُ مَعْنى العَهْدِ الخارِجِيِّ هُنا، وتَعْرِيفُ الإسْلامِ تَعْرِيفُ العَلَمِ بِالغَلَبَةِ: لِأنَّ الإسْلامَ صارَ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى الدِّينِ المُحَمَّدِيِّ.
صفحة ١٩٠
فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ صِيغَةُ حَصْرٍ، وهي تَقْتَضِي في اللِّسانِ حَصْرَ المُسْنَدِ إلَيْهِ، وهو الدِّينُ، في المُسْنَدِ، وهو الإسْلامُ، عَلى قاعِدَةِ الحَصْرِ بِتَعْرِيفِ جُزْأيِ الجُمْلَةِ، أيْ لا دِينَ إلّا الإسْلامُ، وقَدْ أكَّدَ هَذا الِانْحِصارَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.وقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ، وصْفٌ لِلدِّينِ، والعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاعْتِبارِ والِاعْتِناءِ ولَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ عِلْمٍ: فَأفادَ أنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ هو الإسْلامُ، فَيَكُونُ قَصْرًا لِلْمُسْنَدِ إلَيْهِ بِاعْتِبارِ قَيْدٍ فِيهِ، لا في جَمِيعِ اعْتِباراتِهِ: نَظِيرَ قَوْلِ الخَنْساءِ:
إذا قَبُحَ البُكاءُ عَلى قَـتِـيلٍ رَأيْتُ بُكاءَك الحَسَنَ الجَمِيلا
فَحَصَرَتِ الحَسَنَ في بُكائِهِ بِقاعِدَةِ أنَّ المَقْصُورَ هو الحَسَنُ لِأنَّهُ هو المُعَرَّفُ بِاللّامِ، وهَذا الحَصْرُ بِاعْتِبارِ التَّقْيِيدِ بِوَقْتِ قُبْحِ البُكاءِ عَلى القَتْلى وهو قَصْرُ حُسْنِ بُكائِها عَلى ذَلِكَ الوَقْتِ، لِيَكُونَ لِبُكائِها عَلى صَخْرٍ مَزِيَّةٌ زائِدَةٌ عَلى بُكاءِ القَتْلى المُتَعارَفِ، وإنْ أبى اعْتِبارَ القَصْرِ في البَيْتِ أصْلًا صاحِبُ المُطَوَّلِ.وإذْ قَدْ جاءَتْ أدْيانٌ صَحِيحَةٌ أمَرَ اللَّهُ بِها فالحَصْرُ مُؤَوَّلٌ: إمّا بِاعْتِبارِ أنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ عِنْدَ اللَّهِ، حِينَ الإخْبارِ، هو الإسْلامُ، لِأنَّ الخَبَرَ يُنْظَرُ فِيهِ إلى وقْتِ الإخْبارِ؛ إذِ الأخْبارُ كُلُّها حَقائِقُ في الحالِ، ولا شَكَّ أنَّ وقْتَ الإخْبارِ لَيْسَ فِيهِ دِينٌ صَحِيحٌ غَيْرَ الإسْلامِ؛ إذْ قَدْ عَرَضَ لِبَقِيَّةِ الأدْيانِ الإلَهِيَّةِ، مِن خَلْطِ الفاسِدِ بِالصَّحِيحِ، ما اخْتَلَّ لِأجْلِهِ مَجْمُوعُ الدِّينِ، وإمّا بِاعْتِبارِ الكَمالِ عِنْدَ اللَّهِ، فَيَكُونُ القَصْرُ بِاعْتِبارِ سائِرِ الأزْمانِ والعُصُورِ؛ إذْ لا أكْمَلَ مِن هَذا الدِّينِ، وما تَقَدَّمَهُ مِنَ الأدْيانِ لَمْ يَكُنْ بالِغًا غايَةَ المُرادِ مِنَ البَشَرِ في صَلاحِ شُئُونِهِمْ، بَلْ كانَ كُلُّ دِينٍ مَضى مُقْتَصِرًا عَلى مِقْدارِ الحاجَةِ مِن أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ في زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وهَذا المَعْنى أوْلى مَحْمَلَيِ الآيَةِ، لِأنَّ مُفادَهُ أعَمُّ، وتَعْبِيرَهُ عَنْ حاصِلِ صِفَةِ دِينِ الإسْلامِ - تُجاهَ بَقِيَّةِ الأدْيانِ الإلَهِيَّةِ - أتَمُّ.
ذَلِكَ أنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى مِن تَوْجِيهِ الشَّرائِعِ وإرْسالِ الرُّسُلِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ قَرْعِ الأسْماعِ بِعِباراتِ التَّشْرِيعِ أوِ التَّذَوُّقِ لِدَقائِقِ تَراكِيبِهِ، بَلْ مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِمّا شَرَعَ لِلنّاسِ هو عَمَلُهم بِتَعالِيمِ رُسُلِهِ وكُتُبِهِ، ولَمّا كانَ المُرادُ مِن ذَلِكَ هو العَمَلَ، جَعَلَ اللَّهُ الشَّرائِعَ مُناسِبَةً لِقابِلَيّاتِ المُخاطَبِينَ بِها، وجارِيَةً عَلى قَدْرِ قَبُولِ عُقُولِهِمْ ومَقْدِرَتِهِمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ العَمَلِ بِها بِدَوامٍ وانْتِظامٍ، فَلِذَلِكَ كانَ المَقْصُودُ مِنَ التَّدَيُّنِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ
صفحة ١٩١
دَأْبًا وعادَةً لِمُنْتَحِلِيهِ، وحَيْثُ النُّفُوسُ لا تَسْتَطِيعُ الِانْصِياعَ إلى ما لا يَتَّفِقُ مَعَ مُدْرَكاتِها، لا جَرَمَ تَعَيَّنَ مُراعاةُ حالِ المُخاطَبِينَ في سائِرِ الأدْيانِ، لِيُمْكِنَ لِلْأُمَمِ العَمَلُ بِتَعالِيمِ شَرائِعِها بِانْتِظامٍ ومُواظَبَةٍ.وقَدْ كانَتْ أحْوالُ الجَماعاتِ البَشَرِيَّةِ، في أوَّلِ عُهُودِ الحَضارَةِ، حالاتِ عُكُوفٍ عَلى عَوائِدَ وتَقالِيدَ بَسِيطَةٍ، ائْتَلَفَتْ رُوَيْدًا عَلى حَسَبِ دَواعِي الحاجاتِ، وما تِلْكَ الدَّواعِي الَّتِي تَسَبَّبَتْ في ائْتِلافِ تِلْكَ العَوائِدِ، إلّا دَواعٍ غَيْرُ مُنْتَشِرَةٍ؛ لِأنَّها تَنْحَصِرُ فِيما يَعُودُ عَلى الفَرْدِ بِحِفْظِ حَياتِهِ، ودَفْعِ الآلامِ عَنْهُ، ثُمَّ بِحِفْظِ حَياةِ مَن يَرى لَهُ مَزِيدَ اتِّصالٍ بِهِ، وتَحْسِينِ حالِهِ، فَبِذَلِكَ ائْتَلَفَ نِظامُ الفَرْدِ، ثُمَّ نِظامُ العائِلَةِ، ثُمَّ نِظامُ العَشِيرَةِ، وهاتِهِ النُّظُمُ المُتَقابِسَةُ هي نُظُمٌ مُتَساوِيَةُ الأشْكالِ؛ إذْ كُلُّها لا يَعْدُو حِفْظَ الحَياةِ، بِالغِذاءِ والدِّفاعِ عَنِ النَّفْسِ، ودَفْعِ الآلامِ بِالكِساءِ والمَسْكَنِ والزَّواجِ، والِانْتِصارِ لِلْعائِلَةِ ولِلْقَبِيلَةِ؛ لِأنَّ بِها الِاعْتِزازَ، ثُمَّ ما نَشَأ عَنْ ذَلِكَ مِن تَعاوُنِ الآحادِ عَلى ذَلِكَ، بِإعْدادِ المُعَدّاتِ: وهو التَّعاوُضُ والتَّعامُلُ، فَلَمْ تَكُنْ فِكْرَةُ النّاسِ تَعْدُو هَذِهِ الحالَةَ، وبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأحَدِ الجَماعاتِ شُعُورٌ بِما يَجْرِي لَدى جَماعَةٍ أُخْرى، فَضْلًا عَنِ التَّفْكِيرِ في اقْتِباسِ إحْداهُما مِمّا يَجْرِي لَدى غَيْرِها، وتِلْكَ حالَةُ قَناعَةِ العَيْشِ، وقُصُورِ الهِمَّةِ وانْعِدامِ الدَّواعِي. فَإذا حَصَلَتِ الأسْبابُ الآنِفَةُ عَدَّ النّاسُ أنْفُسَهم في مُنْتَهى السَّعادَةِ.
وكانَ التَّباعُدُ بَيْنَ الجَماعاتِ في المُواطِنِ مَعَ مَشَقَّةِ التَّواصُلِ، وما يَعْرِضُ في ذَلِكَ مِنَ الأخْطارِ والمَتاعِبِ، حائِلًا عَنْ أنْ يُصادِفَهم ما يُوجِبُ اقْتِباسَ الأُمَمِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ، وشُعُورَ بَعْضِها بِأخْلاقِ بَعْضٍ، فَصارَ الصّارِفُ عَنِ التَّعاوُنِ في الحَضارَةِ الفِكْرِيَّةِ مَجْمُوعَ حائِلَيْنِ: عَدَمِ الدّاعِي، وانْسِدادِ وسائِلِ الصُّدْفَةِ، اللَّهُمَّ إلّا ما يَعْرِضُ مِن وِفادَةِ وافِدٍ، أوِ اخْتِلاطٍ في نَجْعَةٍ أوْ مَوْسِمٍ، عَلى أنَّ ذَلِكَ إنْ حَصَلَ فَسُرْعانَ ما يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيانُ، فَيُصْبِحُ في خَبَرِ كانَ.
فَكَيْفَ يُرْجى مِن أقْوامٍ هَذِهِ حالُهم أنْ يَدْعُوَهُمُ الدّاعِي إلى صَلاحٍ في أوْسَعَ مِن دَوائِرِ مُدْرَكاتِهِمْ، ومُتَقارِبِ تَصَوُّرِ عُقُولِهِمْ، ألَيْسُوا إذا جاءَهم مُصْلِحٌ كَذَلِكَ لَبِسُوا لَهُ جِلْدَ النَّمِرِ، فَأحَسَّ مِن سُوءِ الطّاعَةِ حَرْقَ الجَمْرِ، لِذَلِكَ لَمْ تَتَعَلَّقْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى،
صفحة ١٩٢
فِي قَدِيمِ العُصُورِ، بِتَشْرِيعِ شَرِيعَةٍ جامِعَةٍ صالِحَةٍ لِجَمِيعِ البَشَرِ، بَلْ كانَتِ الشَّرائِعُ تَأْتِي إلى أقْوامٍ مُعَيَّنِينَ؛ وفي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، في صِفَةِ عَرْضِ الأُمَمِ لِلْحِسابِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ قالَ: «فَيَجِيءُ النَّبِيءُ ومَعَهُ الرَّهْطُ، والنَّبِيءُ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنَّبِيءُ ولَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ» وفي رِوايَةِ البُخارِيِّ «فَجَعَلَ النَّبِيءُ والنَّبِيئانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ» الحَدِيثَ. وبَقِيَ الحَقُّ في خِلالِ ذَلِكَ مَشاعًا بَيْنَ الأُمَمِ، فَفي كُلِّ أُمَّةٍ تَجِدُ سَدادًا وأفْنًا، وبَعْضُ الحَقِّ لَمْ يَزَلْ مَخْبُوءًا لَمْ يُسْفِرْ عَنْهُ البَيانُ.ثُمَّ أخَذَ البَشَرُ يَتَعارَفُونَ بِسَبَبِ الفُتُوحِ والهِجْرَةِ، وتَقاتَلَتِ الأُمَمُ المُتَقارِبَةُ المَنازِلِ، فَحَصَلَ لِلْأُمَمِ حَظٌّ مِنَ الحَضارَةِ، وتَقارَبَتِ العَوائِدُ، وتَوَسَّعَتْ مَعْلُوماتُهم، وحَضارَتُهم، فَكانَتْ مِنَ الشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ: شَرِيعَةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِن غَيْرِها شَرِيعَةُ حَمُورابِي في العِراقِ، وشَرِيعَةُ البَراهِمَةِ، وشَرِيعَةُ المِصْرِيِّينَ، الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ﴾ [يوسف: ٧٦] .
ثُمَّ أعْقَبَتْها شَرِيعَةٌ إلَهِيَّةٌ كُبْرى وهي شَرِيعَةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ الَّتِي اخْتَلَطَ أهْلُها بِأُمَمٍ كَثِيرَةٍ في مَسِيرِهِمْ في التِّيهِ وما بَعْدَهُ، وجاوَرَتْها أوْ أعْقَبَتْها شَرائِعُ مِثْلَ شَرِيعَةِ (زَرادِشْتَ) في الفُرْسِ، وشَرِيعَةِ (كُنْفُشْيُوسَ) في الصِّينِ، وشَرِيعَةِ سُولُونَ في اليُونانِ.
وفِي هَذِهِ العُصُورِ كُلِّها لَمْ تَكُنْ إحْدى الشَّرائِعِ عامَّةَ الدَّعْوَةِ، وهَذِهِ أكْبَرُ الشَّرائِعِ وهي المُوسَوِيَّةُ لَمْ تَدْعُ غَيْرَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَدْعُ الأُمَمَ الأُخْرى الَّتِي مَرَّتْ عَلَيْها وامْتَزَجَتْ بِها وصاهَرَتْها، وكَذَلِكَ جاءَتِ المَسِيحِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلى دَعْوَةِ بَنِي إسْرائِيلَ حَتّى دَعا النّاسَ إلَيْها القِدِّيسُ بُولُسُ بَعْدَ المَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلاثِينَ سَنَةً.
إلى أنْ كانَ في القَرْنِ الرّابِعِ بَعْدَ المَسِيحِ حُصُولُ تَقابُسٍ وتَمازُجٍ بَيْنَ أصْنافِ البَشَرِ في الأخْلاقِ والعَوائِدِ، بِسَبَبَيْنِ: اضْطِرارِيٍّ، واخْتِيارِيٍّ. أمّا الِاضْطِرارِيُّ فَذَلِكَ أنَّهُ قَدْ تَرامَتِ الأُمَمُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، واتَّجَهَ أهْلُ الشَّرْقِ إلى الغَرْبِ، وأهْلُ الغَرْبِ إلى الشَّرْقِ، بِالفُتُوحِ العَظِيمَةِ الواقِعَةِ بَيْنَ الفُرْسِ والرُّومِ، وهُما يَوْمَئِذٍ قُطْبا العالَمِ، بِما يَتْبَعُ كُلَّ واحِدَةٍ مِن أُمَمٍ تَنْتَمِي إلى سُلْطانِها، فَكانَتِ الحَرْبُ سِجالًا بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، وتَوالَتْ أزْمانًا طَوِيلَةً.
صفحة ١٩٣
وأمّا الِاخْتِيارِيُّ فَهو ما أبْقاهُ ذَلِكَ التَّمازُجُ مِن مُشاهَدَةِ أخْلاقٍ وعَوائِدَ حَسُنَتْ في أعْيُنِ رائِيها، فاقْتَبَسُوها، وأشْياءَ قَبُحَتْ في أعْيُنِهِمْ، فَحَذِرُوها، وفي كِلْتا الحالَتَيْنِ نَشَأتْ يَقَظَةٌ جَدِيدَةٌ، وتَأسَّسَتْ مَدَنِيّاتٌ مُتَفَنِّنَةٌ، وتَهَيَّأتِ الأفْكارُ إلى قَبُولِ التَّغْيِيراتِ القَوِيَّةِ، فَتَهَيَّأتْ جَمِيعُ الأُمَمِ إلى قَبُولِ التَّعالِيمِ الغَرِيبَةِ عَنْ عَوائِدِها وأحْوالِها، وتَساوَتِ الأُمَمُ وتَقارَبَتْ في هَذا المِقْدارِ، وإنْ تَفاوَتَتْ في الحَضارَةِ والعُلُومِ تَفاوُتًا رُبَّما كانَ مِنهُ ما زادَ بَعْضَها تَهَيُّؤًا لِقَبُولِ التَّعالِيمِ الصَّحِيحَةِ، وقَهْقَرَ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ بِما داخَلَها مِنَ الإعْجابِ بِمَبْلَغِ عِلْمِها، أوِ العُكُوفِ والإلْفِ عَلى حَضارَتِها.فَبَلَغَ الأجَلُ المُرادُ والمُعَيَّنُ لِمَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الحَقِّ الخاتِمَةِ العامَّةِ.
فَأظْهَرَ اللَّهُ دِينَ الإسْلامِ في وقْتٍ مُناسِبٍ لِظُهُورِهِ، واخْتارَ أنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ بَيْن ظَهْرانَيْ أُمَّةٍ لَمْ تَسْبِقْ لَها سابِقَةُ سُلْطانٍ، ولا كانَتْ ذاتَ سِيادَةٍ يَوْمَئِذٍ عَلى شَيْءٍ مِن جِهاتِ الأرْضِ، ولَكِنَّها أُمَّةٌ سَلَّمَها اللَّهُ مِن مُعْظَمِ رُعُوناتِ الجَماعاتِ البَشَرِيَّةِ، لِتَكُونَ أقْرَبَ إلى قَبُولِ الحَقِّ، وأظْهَرَ هَذا الدِّينَ بِواسِطَةِ رَجُلٍ مِنها، لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ العِلْمِ، ولا مِن أهْلِ الدَّوْلَةِ، ولا مِن ذُرِّيَّةِ مُلُوكٍ، ولا اكْتَسَبَ خِبْرَةً سابِقَةً بِهِجْرَةٍ أوْ مُخالَطَةٍ، لِيَكُونَ ظُهُورُ هَذا الحَقِّ الصَّرِيحِ، والعِلْمِ الصَّحِيحِ مِن مِثْلِهِ آيَةً عَلى أنَّ ذَلِكَ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ نَفَحَ بِهِ عِبادَهُ.
ثُمَّ جَعَلَ أُسُسَ هَذا الدِّينِ مُتَباعِدَةً عَنْ ذَمِيمِ العَوائِدِ في الأُمَمِ، حَتّى الأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ بَيْنَها، ومُوافِقَةً لِلْحَقِّ ولَوْ كانَ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ أعْداؤُها، وكانَتْ أُصُولُهُ مَبْنِيَّةً عَلى الفِطْرَةِ بِمَعْنى ألّا تَكُونَ ناظِرَةً إلّا إلى ما فِيهِ الصَّلاحُ في حُكْمِ العَقْلِ السَّلِيمِ، غَيْرَ مَأْسُورٍ لِلْعَوائِدِ ولا لِلْمَذاهِبِ، قالَ تَعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠] قالَ الشَّيْخُ أبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينا: (الفِطْرَةُ أنْ يَتَوَهَّمَ الإنْسانُ نَفْسَهُ حَصَلَ في الدُّنْيا دَفْعَةً وهو عاقِلٌ، لَمْ يَسْمَعْ رَأْيًا، ولَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا، ولَمْ يُعاشِرْ أُمَّةً، لَكِنَّهُ شاهَدَ المَحْسُوساتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلى ذِهْنِهِ الأشْياءَ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإنْ أمْكَنَهُ الشَّكُّ في شَيْءٍ فالفِطْرَةُ لا تَشْهَدُ بِهِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فِيهِ فالفِطْرَةُ تُوجِبُهُ، ولَيْسَ كُلُّ ما تُوجِبُهُ الفِطْرَةُ بِصادِقٍ، بَلِ الصّادِقُ مِنهُ ما تَشْهَدُ بِهِ فِطْرَةُ القُوَّةِ الَّتِي تُسَمّى عَقْلًا، قَبْلَ أنْ يَعْتَرِضَهُ الوَهْمُ) .
صفحة ١٩٤
ويَدْخُلُ في الفِطْرَةِ الآدابُ العَتِيقَةُ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْها كافَّةُ عُقَلاءِ البَشَرِ، وارْتاضَتْ نُفُوسُهم بِها، إذا كانَتْ تُفِيدُهم كَمالًا، ولا تُفْضِي إلى فَسادٍ، وذَلِكَ أُصُولُ قَواعِدِ حِفْظِ النَّسَبِ والعِرْضِ خاصَّةً. فَبِهَذا الأصْلِ: أصْلِ الفِطْرَةِ، كانَ الإسْلامُ دِينًا صالِحًا لِجَمِيعِ الأُمَمِ في جَمِيعِ الأعْصُرِ.ثُمَّ ظَهَرَ هَذا الأصْلُ في تِسْعَةِ مَظاهِرَ خادِمَةٍ لَهُ ومُهَيِّئَةٍ جَمِيعَ النّاسِ لِقَبُولِهِ.
المَظْهَرُ الأوَّلُ: إصْلاحُ العَقِيدَةِ بِحَمْلِ الذِّهْنِ عَلى اعْتِقادٍ لا يَشُوبُهُ تَرَدُّدٌ ولا تَمْوِيهٌ ولا أوْهامٌ ولا خُرافاتٌ، ثُمَّ بِكَوْنِ عَقِيدَتِهِ مَبْنِيَّةً عَلى الخُضُوعِ لِواحِدٍ عَظِيمٍ، وعَلى الِاعْتِرافِ بِاتِّصافِ هَذا الواحِدِ بِصِفاتِ الكَمالِ التّامَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الخُضُوعَ إلَيْهِ اخْتِيارًا، ثُمَّ لِتَصِيرَ تِلْكَ الكَمالاتُ مَطْمَحَ أنْظارِ المُعْتَقِدِ في التَّخَلُّقِ بِها، ثُمَّ بِحَمْلِ جَمِيعِ النّاسِ عَلى تَطْهِيرِ عَقائِدِهِمْ حَتّى يَتَّحِدَ مَبْدَأُ التَّخَلُّقِ فِيهِمْ ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٦٤] .
وكانَ إصْلاحُ الِاعْتِقادِ أهَمَّ ما ابْتَدَأ بِهِ الإسْلامُ، وأكْثَرَ ما تَعَرَّضَ لَهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ إصْلاحَ الفِكْرَةِ هو مَبْدَأُ كُلِّ إصْلاحٍ؛ ولِأنَّهُ لا يُرْجى صَلاحٌ لِقَوْمٍ تَلَطَّخَتْ عُقُولُهم بِالعَقائِدِ الضّالَّةِ، وخَسِئَتْ نُفُوسُهم بِآثارِ تِلْكَ العَقائِدِ المُثِيرَةِ، خَوْفًا مِن لا شَيْءٍ، وطَمَعًا في غَيْرِ شَيْءٍ. وإذا صَلُحَ الِاعْتِقادُ أمْكَنَ صَلاحُ الباقِي؛ لِأنَّ المَرْءَ إنْسانٌ بِرُوحِهِ لا بِجِسْمِهِ.
ثُمَّ نَشَأ عَنْ هَذا الِاعْتِقادِ الإسْلامِيِّ: عِزَّةُ النَّفْسِ، وأصالَةُ الرَّأْيِ، وحُرِّيَّةُ العَقْلِ، ومُساواةُ النّاسِ فِيما عَدا الفَضائِلَ.
وقَدْ أكْثَرَ الإسْلامُ شَرْحَ العَقائِدِ إكْثارًا لا يُشْبِهُهُ فِيهِ دِينٌ آخَرُ، بَلْ إنَّكَ تَنْظُرُ إلى كَثِيرٍ مِنَ الأدْيانِ الصَّحِيحَةِ، فَلا تَرى فِيها مِن شَرْحِ صِفاتِ الخالِقِ إلّا قَلِيلًا.
المَظْهَرُ الثّانِي: جَمْعُهُ بَيْنَ إصْلاحِ النُّفُوسِ بِالتَّزْكِيَةِ، وبَيْنَ إصْلاحِ نِظامِ الحَياةِ بِالتَّشْرِيعِ، في حِينِ كانَ مُعْظَمُ الأدْيانِ لا يَتَطَرَّقُ إلى نِظامِ الحَياةِ بِشَيْءٍ، وبَعْضُها وإنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ إلّا أنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ، بَلْ كانَ مُعْظَمُ اهْتِمامِها مُنْصَرِفًا إلى المَواعِظِ والعِباداتِ،
صفحة ١٩٥
وقَدْ قَرَنَ القُرْآنُ المَصْلَحَتَيْنِ في غَيْرِ ما آيَةٍ قالَ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] .والمَظْهَرُ الثّالِثُ: اخْتِصاصُهُ بِإقامَةِ الحُجَّةِ، ومُجادَلَةِ المُخاطَبِينَ بِصُنُوفِ المُجادَلاتِ، وتَعْلِيلِ أحْكامِهِ، بِالتَّرْغِيبِ وبِالتَّرْهِيبِ، وذَلِكَ رَعْيٌ لِمَراتِبِ نُفُوسِ المُخاطَبِينَ، فَمِنهُمُ العالِمُ الحَكِيمُ الَّذِي لا يَقْتَنِعُ إلّا بِالحُجَّةِ والدَّلِيلِ، ومِنهُمُ المُكابِرُ الَّذِي لا يَرْعَوِي إلّا بِالجَدَلِ والخَطابَةِ، ومِنهُمُ المُتَرَهِّبُ الَّذِي اعْتادَ الرَّغْبَةَ فِيما عِنْدَ اللَّهِ، ومِنهُمُ المُكابِرُ المُعانِدُ، الَّذِي لا يُقْلِعُهُ عَنْ شَغَبِهِ إلّا القَوارِعُ والزَّواجِرُ.
المَظْهَرُ الرّابِعُ: أنَّهُ جاءَ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ لِسائِرِ البَشَرِ، وهَذا شَيْءٍ لَمْ يَسْبِقْ في دِينٍ قَبْلَهُ قَطُّ، وفي القُرْآنِ: ﴿قُلْ يا أيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨] وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي» فَذَكَرَ: «وكانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النّاسِ عامَّةً» وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الرُّسُلَ كُلَّهم فَذَكَرَ أنَّهُ أرْسَلَهم إلى أقْوامِهِمْ.
والِاخْتِلافُ في كَوْنِ نُوحٍ رَسُولًا إلى جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ - إنَّما هو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ بَعْدَ الطُّوفانِ انْحَصَرَ أهْلُ الأرْضِ في أتْباعِ نُوحٍ، عِنْدَ القائِلِينَ بِعُمُومِ الطُّوفانِ سائِرَ الأرْضِ، ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ [هود: ٢٥] وأيًّا ما كانَ احْتِمالُ كَوْنِ سُكّانِ الأرْضِ في عَصْرِ نُوحٍ هم مَن ضَمَّهم وطَنُ نُوحٍ؛ فَإنَّ عُمُومَ دَعْوَتِهِ حاصِلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
المَظْهَرُ الرّابِعُ: الدَّوامُ ولَمْ يَدَّعِ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أنَّ شَرِيعَتَهُ دائِمَةٌ، بَلْ ما مِن رَسُولٍ ولا كِتابٍ، إلّا تَجِدُ فِيهِ بِشارَةً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِهِ.
المَظْهَرُ الخامِسُ: الإقْلالُ مِنَ التَّفْرِيعِ في الأحْكامِ بَلْ تَأْتِي بِأُصُولِها ويُتْرَكُ التَّفْرِيعُ لِاسْتِنْباطِ المُجْتَهِدِينَ وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أبُو إسْحاقَ الشّاطِبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] لِتَكُونَ الأحْكامُ صالِحَةً لِكُلِّ زَمانٍ.
المَظْهَرُ السّادِسُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن وصايا الأدْيانِ إمْكانُ العَمَلِ بِها، وفي أُصُولِ الأخْلاقِ أنَّ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ هي الَّتِي تَأْتِي إلى النُّفُوسِ بِالحَيْلُولَةِ بَيْنَها وبَيْنَ خَواطِرِ الشُّرُورِ؛ لِأنَّ
صفحة ١٩٦
الشُّرُورَ، إذا تَسَرَّبَتْ إلى النُّفُوسِ، تَعَذَّرَ أوْ عَسُرَ اقْتِلاعُها مِنها، وكانَتِ الشَّرائِعُ تَحْمِلُ النّاسَ عَلى مُتابَعَةِ وصاياها بِالمُباشَرَةِ، فَجاءَ الإسْلامُ يَحْمِلُ النّاسَ عَلى الخَيْرِ بِطَرِيقَتَيْنِ: طَرِيقَةٍ مُباشِرَةٍ، وطَرِيقَةِ سَدِّ الذَّرائِعِ المُوَصِّلَةِ إلى الفَسادِ، وغالِبُ أحْكامِ الإسْلامِ مِن هَذا القَبِيلِ، وأحْسَبُها أنَّها مِن جُمْلَةِ ما أُرِيدَ بِالمُشْتَبِهاتِ في حَدِيثِ «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ» .المَظْهَرُ السّابِعُ: الرَّأفَةُ بِالنّاسِ حَتّى في حَمْلِهِمْ عَلى مَصالِحِهِمْ بِالِاقْتِصارِ في التَّشْرِيعِ عَلى مَوْضِعِ المَصْلَحَةِ، مَعَ تَطَلُّبِ إبْرازِ ذَلِكَ التَّشْرِيعِ في صُورَةٍ لَيِّنَةٍ، وفي القُرْآنِ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وفي الحَدِيثِ «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ - ولَنْ يُشادَّ هَذا الدِّينَ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ»، وكانَتِ الشَّرائِعُ السّابِقَةُ تَحْمِلُ عَلى المُتابَعَةِ بِالشِّدَّةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صالِحَةً لِلْبَقاءِ؛ لِأنَّها رُوعِيَ فِيها حالُ قَساوَةِ أُمَمٍ في عُصُورٍ خاصَّةٍ، ولَمْ تَكُنْ بِالَّتِي يُناسِبُها ما قُدِّرَ مَصِيرُ البَشَرِ إلَيْهِ مِن رِقَّةِ الطِّباعِ وارْتِقاءِ الأفْهامِ.
المَظْهَرُ الثّامِنُ: امْتِزاجُ الشَّرِيعَةِ بِالسُّلْطانِ في الإسْلامِ، وذَلِكَ مِن خَصائِصِهِ؛ إذْ لا مَعْنى لِلتَّشْرِيعِ إلّا تَأْسِيسُ قانُونٍ لِلْأُمَّةِ، وما قِيمَةُ قانُونٍ لا تَحْمِيهِ القُوَّةُ والحُكُومَةُ. وبِامْتِزاجِ الحُكُومَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ أمْكَنَ تَعْمِيمُ الشَّرِيعَةِ، واتِّحادُ الأُمَّةِ في العَمَلِ والنِّظامِ.
المَظْهَرُ التّاسِعُ: صَراحَةُ أُصُولِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ في القُرْآنِ ما تُسْتَقْرى مِنهُ قَواطِعُ الشَّرِيعَةِ، حَتّى تَكُونَ الشَّرِيعَةُ مَعْصُومَةً مِنَ التَّأْوِيلاتِ الباطِلَةِ، والتَّحْرِيفاتِ الَّتِي طَرَأتْ عَلى أهْلِ الكُتُبِ السّابِقَةِ، ويَزْدادُ هَذا بَيانًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [آل عمران: ٢٠] .
* * *
﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهم ومَن يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ عَطَفَ ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ لِلْإخْبارِ عَنْ حالِ أهْلِ الكِتابِ مِن سُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِدِينِ الإسْلامِ، ومِن سُوءِ فَهْمِهِمْ في دِينِهِمْ.صفحة ١٩٧
وجِيءَ في هَذا الإخْبارِ بِطَرِيقَةٍ مُؤْذِنَةٍ بِوُرُودِ سُؤالٍ؛ إذْ قَدْ جِيءَ بِصِيغَةِ الحَصْرِ لِبَيانِ سَبَبِ اخْتِلافِهِمْ، وكَأنَّ اخْتِلافَهم أمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسّامِعِ. وهَذا أُسْلُوبٌ عَجِيبٌ في الإخْبارِ عَنْ حالِهِمْ إخْبارًا يَتَضَمَّنُ بَيانَ سَبَبِهِ، وإبْطالَ ما يَتَراءى مِنَ الأسْبابِ غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ إظْهارِ المُقابَلَةِ بَيْنَ حالِ الدِّينِ الَّذِي هم عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الِاخْتِلافِ، وبَيْنَ سَلامَةِ الإسْلامِ مِن ذَلِكَ.وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ قَدْ آذَنَ بِأنَّ غَيْرَهُ مِنَ الأدْيانِ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الكَمالِ والصَّلاحِيَةِ لِلْعُمُومِ والدَّوامِ، قَبْلَ التَّغْيِيرِ، بَلْهَ ما طَرَأ عَلَيْها مِنَ التَّغْيِيرِ وسُوءِ التَّأْوِيلِ، إلى يَوْمِ مَجِيءِ الإسْلامِ، لِيَعْلَمَ السّامِعُونَ أنَّ ما عَلَيْهِ أهْلُ الكِتابِ لَمْ يَصِلْ إلى أكْمَلِ مُرادِ اللَّهِ مِنَ الخَلْقِ عَلى أنَّهُ وقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ والِاخْتِلافُ، وأنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلافِ هو البَغْيُ بَعْدَما جاءَهُمُ العِلْمُ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ سَبَبَ بُطْلانِ ما هم عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ هو اخْتِلافُهم وتَغْيِيرُهم، ومِن جُمْلَةِ ما بَدَّلُوهُ الآياتُ الدّالَّةُ عَلى بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الإسْلامَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ ما وقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ، كَما تَقَدَّمَ في المَظْهَرِ التّاسِعِ، ومِن ثَمَّ ذَمَّ عُلَماؤُنا التَّأْوِيلاتِ البَعِيدَةَ، والَّتِي لَمْ يَدْعُ إلَيْها داعٍ صَرِيحٌ.
وقَدْ جاءَتِ الآيَةُ عَلى نَظْمٍ عَجِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلى مَعانٍ: مِنها التَّحْذِيرُ مِنَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ، أيْ في أُصُولِهِ، ووُجُوبُ تَطَلُّبِ المَعانِي الَّتِي لا تُناقِضُ مَقْصِدَ الدِّينِ، عِبْرَةً بِما طَرَأ عَلى أهْلِ الكِتابِ مِنَ الِاخْتِلافِ.
ومِنها التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ اخْتِلافَ أهْلِ الكِتابِ حَصَلَ مَعَ قِيامِ أسْبابِ العِلْمِ بِالحَقِّ، فَهو تَعْرِيضٌ بِأنَّهم أساءُوا فَهْمَ الدِّينِ.
ومِنها الإشارَةُ إلى أنَّ الِاخْتِلافَ الحاصِلَ في أهْلِ الكِتابِ نَوْعانِ: أحَدُهُما اخْتِلافُ كُلِّ أُمَّةٍ مَعَ الأُخْرى في صِحَّةِ دِينِها كَما قالَ تَعالى: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلى شَيْءٍ وهم يَتْلُونَ الكِتابَ﴾ [البقرة: ١١٣]، وثانِيهِما اخْتِلافُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنهُما فِيما بَيْنَها وافْتِراقُها فِرَقًا مُتَبايِنَةَ المَنازِعِ. كَما جاءَ في الحَدِيثِ «اخْتَلَفَتِ اليَهُودُ عَلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً» يُحَذِّرُ المُسْلِمِينَ مِمّا صَنَعُوا.
ومِنها أنَّ اخْتِلافَهم ناشِئٌ عَنْ بَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ.
صفحة ١٩٨
ومِنها أنَّهم أجْمَعُوا عَلى مُخالَفَةِ الإسْلامِ والإعْراضِ عَنْهُ بَغْيًا مِنهم وحَسَدًا، مَعَ ظُهُورِ أحَقِّيَّتِهِ عِنْدَ عُلَمائِهِمْ وأحْبارِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم وإنَّ فَرِيقًا مِنهم لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦] ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: ١٤٧] وقالَ تَعالى: ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾ [البقرة: ١٠٩] أيْ أعْرَضُوا عَنِ الإسْلامِ، وصَمَّمُوا عَلى البَقاءِ عَلى دِينِهِمْ، ووَدُّوا لَوْ يَرُدُّونَكم إلى الشِّرْكِ أوْ إلى مُتابَعَةِ دِينِهِمْ، حَسَدًا عَلى ما جاءَكم مِنَ الهُدى بَعْدَ أنْ تَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ.ولِأجْلِ أنْ يَسْمَحَ نَظْمُ الآيَةِ بِهَذِهِ المَعانِي، حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الِاخْتِلافِ في قَوْلِهِ: ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ لِيَشْمَلَ كُلَّ اخْتِلافٍ مِنهم: مِن مُخالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا في الدِّينِ الواحِدِ، ومُخالَفَةِ أهْلِ كُلِّ دِينٍ لِأهْلِ الدِّينِ الآخَرِ، ومُخالَفَةِ جَمِيعِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ في صِحَّةِ الدِّينِ.
وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ العِلْمِ في قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ لِذَلِكَ.
وجُعِلَ ”بَغْيًا“ عَقِبَ قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ لِيَتَنازَعهُ كُلٌّ مِن فِعْلِ ”اخْتَلَفَ“ ومِن لَفْظِ ”العِلْمُ“ .
وأُخِّرَ ”بَيْنَهم“ عَنْ جَمِيعِ ما يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ: لِيَتَنازَعهُ كُلٌّ مِن فِعْلِ ”اخْتَلَفَ“ وفِعْلِ ”جاءَهم“ ولَفْظِ ”العِلْمُ“ ولَفْظِ ”بَغْيًا“ .
وبِذَلِكَ تَعْلَمُ أنَّ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أوْسَعُ مَعانِيَ مِن مَعانِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ: ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٤] في سُورَةِ البَيِّنَةِ كَما ذَكَرْناهُ في ذَيْنِكَ المَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلافِ المَقامَيْنِ.
فاخْتِلافُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَشْمَلُ اخْتِلافَهم فِيما بَيْنَهم: أيِ اخْتِلافَ أهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ في أُمُورِ دِينِهِمْ، وهَذا هو الَّذِي تُشْعِرُ بِهِ صِيغَةُ ”اخْتَلَفَ“ كاخْتِلافِ اليَهُودِ بَعْدَ مُوسى غَيْرَ مَرَّةٍ، واخْتِلافِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمانَ إلى مَمْلَكَتَيْنِ: مَمْلَكَةِ إسْرائِيلَ، ومَمْلَكَةِ يَهُوذا، وكَيْفَ صارَ لِكُلِّ مَمْلَكَةٍ مِنَ المَمْلَكَتَيْنِ تَدَيُّنٌ يُخالِفُ تَدَيُّنَ الأُخْرى، وكَذَلِكَ
صفحة ١٩٩
اخْتِلافُ النَّصارى في شَأْنِ المَسِيحِ، وفي رُسُومِ الدِّينِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ”بَيْنَهم“ حالًا لِـ ”بَغْيًا“: أيْ بَغْيًا مُتَفَشِّيًا بَيْنَهم، بِأنْ بَغى كُلُّ فَرِيقٍ عَلى الآخَرِ.ويَشْمَلُ أيْضًا الِاخْتِلافَ بَيْنَهم في أمْرِ الإسْلامِ؛ إذْ قالَ قائِلٌ مِنهم: هو حَقٌّ، وقالَ فَرِيقٌ: هو مُرْسَلٌ إلى الأُمِّيِّينَ، وكَفَرَ فَرِيقٌ، ونافَقَ فَرِيقٌ. وهَذا الوَجْهُ أوْفى مُناسَبَةً بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾، ويَكُونُ قَوْلُهُ ”بَيْنَهم“ عَلى هَذا وصْفًا لِـ ”بَغْيًا“: أيْ بَغْيًا واقِعًا بَيْنَهم.
ومَجِيءُ العِلْمِ هو الوَحْيُ الَّذِي جاءَتْ بِهِ رُسُلُهم وأنْبِياؤُهم؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”جاءَ“ مُؤْذِنَةٌ بِعِلْمٍ مُتَلَقًّى مِنَ اللَّهِ تَعالى، يَعْنِي أنَّ العِلْمَ الَّذِي جاءَهم كانَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَصُدَّهم عَنِ الِاخْتِلافِ في المُرادِ، إلّا أنَّهم أساءُوا فَكانُوا عَلى خِلافِ مُرادِ اللَّهِ مِن إرْسالِ الهُدى.
وانْتَصَبَ ”بَغْيًا“ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ، وعامِلُ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ: هو الفِعْلُ الَّذِي تَفَرَّغَ لِلْعَمَلِ فِيما بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْناءِ، فالِاسْتِثْناءُ كانَ مِن أزْمانٍ وعِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ. والتَّقْدِيرُ: ما اخْتَلَفُوا إلّا في زَمَنِ بَعْدَما جاءَهُمُ العِلْمُ وما كانَ إلّا بَغْيًا بَيْنَهم. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ ”بَغْيًا“ مَنصُوبًا عَلى الحالِ مِنَ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾، وهو إنْ كانَ العامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَنفِيًّا في اللَّفْظِ إلّا أنَّ الِاسْتِثْناءَ المُفَرَّغَ جَعَلَهُ في قُوَّةِ المُثْبَتِ، فَجاءَ الحالُ مِنهُ عَقِبَ ذَلِكَ، أيْ حالَ كَوْنِ المُخْتَلِفِينَ باغِينَ، فالمَصْدَرُ مُؤَوَّلٌ بِالمُشْتَقِّ. ويَجُوزُ أنْ تَجْعَلَهُ مَفْعُولًا لِأجْلِهِ مِنِ ”اخْتَلَفَ“ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ صارَ مُثْبَتًا كَما قَرَّرْنا.
وقَدْ لَمَّحَتِ الآيَةُ إلى أنَّ هَذا الِاخْتِلافَ والبَغْيَ كُفْرٌ؛ لِأنَّهُ أفْضى بِهِمْ إلى نَقْضِ قَواعِدِ أدْيانِهِمْ، وإلى نُكْرانِ دِينِ الإسْلامِ، ولِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ﴾ إلَخْ.
وقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ؛ لِأنَّ سَرِيعَ الحِسابِ إنَّما يَبْتَدِئُ بِحِسابِ مَن يَكْفُرُ بِآياتِهِ، والحِسابِ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الجَزاءِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ حِسابُهم إلّا عَلى رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣] .
وفِي ذِكْرِ هَذِهِ الأحْوالِ الذَّمِيمَةِ مِن أحْوالِ أهْلِ الكِتابِ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ أنْ يَقَعُوا في مِثْلِ ما وقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، والمُسْلِمُونَ وإنِ اخْتَلَفُوا في أشْياءَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَكُنِ اخْتِلافُهم إلّا
صفحة ٢٠٠
اخْتِلافًا عِلْمِيًّا فَرْعِيًّا، ولَمْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلافًا يَنْقُضُ أُصُولَ دِينِهِمْ بَلْ غايَةُ الكُلِّ الوُصُولُ إلى الحَقِّ مِنَ الدِّينِ، وخِدْمَةُ مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ. فَبَنُو إسْرائِيلَ عَبَدُوا العِجْلَ والرَّسُولُ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، وعَبَدُوا آلِهَةَ الأُمَمِ غَيْرَ مَرَّةٍ، والنَّصارى عَبَدُوا مَرْيَمَ والمَسِيحَ، ونَقَضُوا أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وادَّعَوْا حُلُولَ الخالِقِ في المَخْلُوقِ. فَأمّا المُسْلِمُونَ لَمّا قالَ أحَدُ أهْلِ التَّصَوُّفِ مِنهم كَلامًا يُوهِمُ الحُلُولَ حَكَمَ عُلَماؤُهم بِقَتْلِهِ.