صفحة ٢٢٣

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ .

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أصْلُ نَظْمِ الكَلامِ فِيها: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ أمَدًا بَعِيدًا يَوْمَ تَجِدُ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا. فَقُدِّمَ ظَرْفُها عَلى عامِلِهِ عَلى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ مَشْهُورَةِ الِاسْتِعْمالِ في أسْماءِ الزَّمانِ، إذا كانَتْ هي المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ، قَضاءً لِحَقِّ الإيجازِ بِنَسْجٍ بَدِيعٍ. ذَلِكَ أنَّهُ إذا كانَ اسْمُ الزَّمانِ هو الأهَمَّ في الغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ، وكانَ مَعَ ذَلِكَ ظَرْفًا لِشَيْءٍ مِن عَلائِقِهِ، جِيءَ بِهِ مَنصُوبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وجُعِلَ مَعْنى بَعْضِ ما يَحْصُلُ مِنهُ مَصُوغًا في صِيغَةِ فِعْلٍ عامِلٍ في ذَلِكَ الظَّرْفِ. أوْ أصْلُ الكَلامِ: يُحْضَرُ لِكُلِّ نَفْسٍ في يَوْمِ الإحْضارِ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، فَتَوَدُّ في ذَلِكَ اليَوْمِ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ أمَدًا بَعِيدًا، أيْ زَمانًا مُتَأخِّرًا وأنَّهُ لَمْ يُحْضَرْ ذَلِكَ اليَوْمَ. فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ”وبَيْنَهُ“ عَلى هَذا يَعُودُ إلى ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، فَحُوِّلَ التَّرْكِيبُ، وجُعِلَ ”تَوَدُّ“ هو النّاصِبَ لِـ ”يَوْمَ“ لِيُسْتَغْنى بِكَوْنِهِ ظَرْفًا عَنْ كَوْنِهِ فاعِلًا. أوْ يَكُونُ أصْلُ الكَلامِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ ومِن شَرٍّ مُحْضَرًا، تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ ذَلِكَ اليَوْمِ أمَدًا بَعِيدًا؛ لِيَكُونَ ضَمِيرُ ”بَيْنَهُ“ عائِدًا إلى ”يَوْمَ“ أيْ تَوَدُّ أنَّهُ تَأخَّرَ ولَمْ يَحْضُرْ كَقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: ١٠] وهَذا التَّحْوِيلُ مِن قَبِيلِ قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:

ويَوْمًا عَلى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَـلَّـلِ

فَإنَّ مَقْصِدَهُ ما حَصَلَ في اليَوْمِ، ولَكِنَّهُ جَعَلَ الِاهْتِمامَ بِنَفْسِ اليَوْمِ، لِأنَّهُ ظَرْفُهُ. ومِنهُ ما يَجِيءُ في القُرْآنِ غَيْرَ مَرَّةٍ، ويَكْثُرُ مِثْلُ هَذا في الجُمَلِ المَفْصُولِ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ بِدُونِ عَطْفٍ لِأنَّ الظَّرْفَ والمَجْرُورَ يُشْبِهانِ الرَّوابِطَ، فالجُمْلَةُ المَفْصُولَةُ إذا صُدِّرَتْ بِواحِدٍ مِنها أكْسَبَها ذَلِكَ نَوْعَ ارْتِباطٍ بِما قَبْلَها كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ﴾ [آل عمران: ٣٥] ونَحْوِهِما، وهَذا أحْسَنُ الوُجُوهِ في نَظْمِ هَذِهِ الآيَةِ وأوْمَأ إلَيْهِ في الكَشّافِ.

صفحة ٢٢٤

وقِيلَ مَنصُوبٌ بِـ ”اذْكُرْ“ . وقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ المَصِيرُ وفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الفَصْلِ، وقِيلَ بِقَوْلِهِ ويُحَذِّرُكم وهو بَعِيدٌ، لِأنَّ التَّحْذِيرَ حاصِلٌ مِن وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ، ولا يَحْسُنُ أنْ يُجْعَلَ عامِلَ الظَّرْفِ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لِعَدَمِ التِئامِ الكَلامِ حَقَّ الِالتِئامِ.

فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ قَوْلُهُ ”تَوَدُّ“ هو مَبْدَأُ الِاسْتِئْنافِ، وعَلى الوُجُوهِ الأُخْرى هو جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ .

وقَوْلُهُ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِلتَّحْذِيرِ الأوَّلِ لِزِيادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ لَبِيدٍ:

فَتَنازَعا سَبَطًا يَطِيرُ ظِلالُـهُ ∗∗∗ كَدُخانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها

مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنابِتٍ عَرْنَـجٍ ∗∗∗ كَدُخانِ نارٍ ساطِعٍ أسْنامُهَـا

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ تَحْذِيرًا مِن مُوالاةِ الكافِرِينَ، والثّانِي تَحْذِيرًا مِن أنْ يَجِدُوا يَوْمَ القِيامَةِ ما عَمِلُوا مِن سُوءٍ مُحْضَرًا.

والخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ ولِذَلِكَ سَمّى المَوْعِظَةَ تَحْذِيرًا: لِأنَّ المُحَذَّرَ لا يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِالوُقُوعِ في الخَطَرِ، فَإنَّ التَّحْذِيرَ تَبْعِيدٌ مِنَ الوُقُوعِ ولَيْسَ انْتِشالًا بَعْدَ الوُقُوعِ، وذَيَّلَهُ هُنا بِقَوْلِهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ، لِلتَّذْكِيرِ بِأنَّ هَذا التَّحْذِيرَ لِمَصْلَحَةِ المُحَذَّرِينَ.

والتَّعْرِيفُ في ”العِبادِ“ لِلِاسْتِغْراقِ: لِأنَّ رَأْفَةَ اللَّهِ شامِلَةٌ لِكُلِّ النّاسِ مُسْلِمِهِمْ وكافِرِهِمْ ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ﴾ [الشورى: ١٩] وما وعِيدُهم إلّا لِجَلْبِ صَلاحِهِمْ، وما تَنْفِيذُهُ بَعْدَ فَواتِ المَقْصُودِ مِنهُ إلّا لِصِدْقِ كَلِماتِهِ، وانْتِظامِ حِكْمَتِهِ سُبْحانَهُ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ ”ألْ“ عِوَضًا عَنِ المُضافِ إلَيْهِ أيْ بِعِبادِهِ فَيَكُونَ بِشارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.