﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .

انْتِقالٌ مِن تَمْهِيداتِ سَبَبِ السُّورَةِ إلى واسِطَةِ التَّمْهِيدِ والمَقْصِدِ، كَطَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ، فَهَذا تَخَلُّصٌ لِمُحاجَّةِ وفْدِ نَجْرانَ وقَدْ ذَكَرْناهُ في أوَّلِ السُّورَةِ، فابْتُدِئَ هُنا بِذِكْرِ آدَمَ ونُوحٍ وهُما أبَوا البَشَرِ أوْ أحَدُهُما وذِكْرِ إبْراهِيمَ وهو أبُو المَقْصُودِينَ بِالتَّفْضِيلِ وبِالخِطابِ. فَأمّا آدَمُ فَهو أبُو البَشَرِ بِاتِّفاقِ الأُمَمِ كُلِّها إلّا شُذُوذًا مِن أصْحابِ النَّزَعاتِ الإلْحادِيَّةِ الَّذِينَ ظَهَرُوا في أُورُوبّا واخْتَرَعُوا نَظَرِيَّةَ تَسَلْسُلِ أنْواعِ الحَيَوانِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ وهي نَظَرِيَّةٌ فاشِلَةٌ.

وآدَمُ اسْمُ أبِي البَشَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أهْلِ الأدْيانِ، وهو عَلَمٌ عَلَيْهِ وضَعَهُ لِنَفْسِهِ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى كَما وضَعَ مَبْدَأ اللُّغَةِ. ولا شَكَّ أنَّ مِن أوَّلِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ هو وزَوْجُهُ أنْ يُعَبِّرَ أحَدُهُما لِلْآخَرِ، وظاهِرُ القُرْآنِ أنَّ اللَّهَ أسْماهُ بِهَذا الِاسْمِ مِن قَبْلِ خُرُوجِهِ مِن جَنَّةِ عَدْنٍ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الأُدْمَةِ، وهي اللَّوْنُ المَخْصُوصُ لِأنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِالأُدْمَةِ خاصٌّ بِكَلامِ العَرَبِ فَلَعَلَّ العَرَبَ وضَعُوا اسْمَ ذَلِكَ اللَّوْنِ أخْذًا مِن وصْفِ لَوْنِ آدَمَ أبِي البَشَرِ.

صفحة ٢٣٠

وقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِن كِتابِ العَهْدِ عِنْدَ اليَهُودِ ما يَقْتَضِي: أنَّ آدَمَ وُجِدَ عَلى الأرْضِ في وقْتٍ يُوافِقُ سَنَةَ ٣٩٤٢ اثْنَتَيْنِ وأرْبَعِينَ وتِسْعِمِائَةٍ وثَلاثَةِ آلافٍ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى وأنَّهُ عاشَ تِسْعَمِائَةٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، فَتَكُونُ وفاتُهُ في سَنَةِ ٣٠١٢ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وثَلاثَةِ آلافٍ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى هَذا ما تَقَبَّلَهُ المُؤَرِّخُونَ المُتَّبِعُونَ لِضَبْطِ السِّنِينَ. والمَظْنُونُ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ النّاظِرِينَ في شَواهِدِ حَضارَةِ البَشَرِيَّةِ أنَّ هَذا الضَّبْطَ لا يُعْتَمَدُ، وأنَّ وُجُودَ آدَمَ مُتَقادِمٌ في أزْمِنَةٍ مُتَرامِيَةِ البُعْدِ هي أكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِمّا حَدَّدَهُ سِفْرُ التَّكْوِينِ.

وأمّا نُوحٌ فَتَقُولُ التَّوْراةُ: إنَّهُ ابْنُ لامَكَ وسُمِّيَ عِنْدَ العَرَبِ لَمَكَ بْنَ مُتُوشالِخَ بْنِ أخْنُوخَ (وهو إدْرِيسُ عِنْدَ العَرَبِ) ابْنِ يارِدَ - بِتَحْتِيَّةٍ في أوَّلِهِ - بْنِ مَهْلَئِيلَ - بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَهاءٍ ساكِنَةٍ فَلامٍ مَفْتُوحَةٍ - بْنِ قَيْنانَ بْنِ أنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ. وعَلى تَقْدِيرِها وتَقْدِيرِ سِنِيِّ أعْمارِهِمْ يَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وثَمانِينَ وثَمانِمِائَةٍ وألْفَيْنِ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى وتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثِينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى والقَوْلُ فِيهِ كَما تَقَدَّمَ في ضَبْطِ تارِيخِ وُجُودِ آدَمَ.

وفِي زَمَنِ نُوحٍ وقَعَ الطُّوفانُ عَلى جَمِيعِ الأرْضِ ونَجّاهُ اللَّهُ وأوْلادَهُ وأزْواجَهم في الفُلْكِ، فَيَكُونُ أبًا ثانِيًا لِلْبَشَرِ. ومِنَ النّاسِ مَن يَدَّعِي أنَّ الطُّوفانَ لَمْ يَعُمَّ الأرْضَ وعَلى هَذا الرَّأْيِ ذَهَبَ مُؤَرِّخُو الصِّينِ، وزَعَمُوا أنَّ الطُّوفانَ لَمْ يَشْمَلْ قُطْرَهم، فَلا يَكُونُ نُوحٌ عِنْدَهم أبًا ثانِيًا لِلْبَشَرِ. وعَلى رَأْيِ الجُمْهُورِ فالبَشَرُ كُلُّهم يَرْجِعُونَ إلى أبْناءِ نُوحٍ الثَّلاثَةِ سامٍ، وحامٍ، ويافِثَ، وهو أوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى النّاسِ حَسَبِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وعُمِّرَ نُوحٌ تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً عَلى ما في التَّوْراةِ، فَهو ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا، وفي التَّوْراةِ: أنَّ الطُّوفانَ حَدَثَ وعُمْرُ نُوحٍ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وأنَّ نُوحًا صارَ بَعْدَ الطُّوفانِ فَلّاحًا وغَرَسَ الكَرْمَ واتَّخَذَ الخَمْرَ. وذَكَرَ الألُوسِيُّ صِفَتَهُ بِدُونِ سَنَدٍ فَقالَ: كانَ نُوحٌ دَقِيقَ الوَجْهِ، في رَأْسِهِ طُولٌ، عَظِيمَ العَيْنَيْنِ، غَلِيظَ العَضُدَيْنِ، كَثِيرَ لَحْمِ الفَخِذَيْنِ، ضَخْمَ السُّرَّةِ، طَوِيلَ القامَةِ، جَسِيمًا، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ. قِيلَ: إنَّ مَدْفَنَهُ بِالعِراقِ في نَواحِي الكُوفَةِ، وقِيلَ في ذَيْلِ جَبَلِ لُبْنانَ، وقِيلَ بِمَدِينَةِ الكَرْكِ. وسَيَأْتِي ذِكْرُ الطُّوفانِ في سُورَةِ الأعْرافِ، وفي سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، وذِكْرُ شَرِيعَتِهِ في سُورَةِ الشُّورى، وفي سُورَةِ نُوحٍ.

صفحة ٢٣١

والآلُ: الرَّهْطُ، وآلُ إبْراهِيمَ: أبْناؤُهُ وحَفِيدُهُ وأسْباطُهُ، والمَقْصُودُ تَفْضِيلُ فَرِيقٍ مِنهم. وشَمَلَ آلُ إبْراهِيمَ الأنْبِياءَ مِن عَقِبِهِ كَمُوسى، ومَن قَبْلَهُ، ومَن بَعْدَهُ، وكَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإسْماعِيلَ، وحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوانَ، وخالِدِ بْنِ سِنانٍ.

وأمّا آلُ عِمْرانَ: فَهم مَرْيَمُ، وعِيسى، فَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ بْنِ ماتانَ كَذا سَمّاهُ المُفَسِّرُونَ، وكانَ مِن أحْبارِ اليَهُودِ، وصالِحِيهِمْ، وأصْلُهُ بِالعِبْرانِيَّةِ عِمْرامُ بِمِيمٍ في آخِرِهِ، فَهو أبُو مَرْيَمَ، قالَ المُفَسِّرُونَ: هو مِن نَسْلِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ، وهو خَطَأٌ، والحَقُّ أنَّهُ مِن نَسْلِ هارُونَ أخِي مُوسى كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا. وفي كُتُبِ النَّصارى: أنَّ اسْمَهُ يُوهاقِيمُ، فَلَعَلَّهُ كانَ لَهُ اسْمانِ ومِثْلُهُ كَثِيرٌ. ولَيْسَ المُرادُ هُنا عِمْرانَ والِدَ مُوسى وهارُونَ؛ إذِ المَقْصُودُ هُنا التَّمْهِيدُ لِذِكْرِ مَرْيَمَ وابْنِها عِيسى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ.

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى احْتِمالِ مَعْنى الآلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ولَكِنَّ الآلَ هُنا مُتَعَيِّنٌ لِلْحَمْلِ عَلى رَهْطِ الرَّجُلِ وقَرابَتِهِ.

ومَعْنى اصْطِفاءِ هَؤُلاءِ عَلى العالَمِينَ اصْطِفاءُ المَجْمُوعِ عَلى غَيْرِهِمْ، أوِ اصْطِفاءُ كُلِّ فاضِلٍ مِنهم عَلى أهْلِ زَمانِهِ.

وقَوْلُهُ: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ﴾ حالٌ مِن آلِ إبْراهِيمَ وآلِ عِمْرانَ. والذَّرِّيَّةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَدْ أُجْمِلَ البَعْضُ هُنا؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بَيانُ شِدَّةِ الِاتِّصالِ بَيْنَ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ، فَـ ”مِن“ لِلِاتِّصالِ لا لِلتَّبْعِيضِ؛ أيْ بَيْنَ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ اتِّصالُ القَرابَةِ، فَكُلُّ بَعْضٍ فِيها هو مُتَّصِلٌ بِالبَعْضِ الآخَرِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ٢٨] .

والغَرَضُ مِن ذِكْرِ هَؤُلاءِ تَذْكِيرُ اليَهُودِ والنَّصارى بِشِدَّةِ انْتِسابِ أنْبِيائِهِمْ إلى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَما كانَ يَنْبَغِي أنْ يَجْعَلُوا مُوجِبَ القَرابَةِ مُوجِبَ عَداوَةٍ وتَفْرِيقٍ. ومِن هُنا ظَهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ سَمِيعٌ بِأقْوالِ بَعْضِكم في بَعْضِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ: كَقَوْلِ اليَهُودِ في عِيسى وأُمِّهِ، وتَكْذِيبِهِمْ وتَكْذِيبِ اليَهُودِ والنَّصارى لِمُحَمَّدٍ ﷺ .