﴿وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ﴾ ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمُ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ .

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ﴾ [آل عمران: ٣٥] . انْتِقالٌ مِن ذِكْرِ أُمِّ مَرْيَمَ إلى ذِكْرِ مَرْيَمَ.

(ومَرْيَمُ) عَلَمٌ عِبْرانِيٌّ، وهو في العِبْرانِيَّةِ بِكَسْرِ المِيمِ، وهو اسْمٌ قَدِيمٌ سُمِّيَتْ بِهِ أُخْتُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ولَيْسَ في كُتُبِ النَّصارى ذِكْرٌ لِاسْمِ أبِي مَرْيَمَ أُمِّ عِيسى ولا لِمَوْلِدِها ولَكِنَّها تَبْتَدِئُ فَجْأةً بِأنَّ عَذْراءَ في بَلَدِ النّاصِرَةِ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ النَّجّارِ، قَدْ حَمَلَتْ مِن غَيْرِ زَوْجٍ.

صفحة ٢٤٤

والعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ مَرْيَمَ عَلى المَرْأةِ المُتَرَجِّلَةِ الَّتِي تُكْثِرُ مُجالَسَةَ الرِّجالِ كَما قالَ رُؤْبَةُ:

قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ

.

والزِّيرُ: بِكَسْرِ الزّايِ الَّذِي يُكْثِرُ زِيارَةَ النِّساءِ. وقالَ في الكَشّافِ: مَرْيَمُ في لُغَتِهِمْ أيْ لُغَةِ العِبْرانِيِّينَ بِمَعْنى العابِدَةِ.

وتَكَرَّرَ فِعْلُ (اصْطَفاكِ) لِأنَّ الِاصْطِفاءَ الأوَّلَ ذاتِيٌّ، وهو جَعْلُها مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، والثّانِي بِمَعْنى التَّفْضِيلِ عَلى الغَيْرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الأوَّلُ إلى مُتَعَلِّقٍ، وعُدِّيَ الثّانِي. ونِساءُ العالَمِينَ نِساءُ زَمانِها، أوْ نِساءُ سائِرِ الأزْمِنَةِ. وتَكْلِيمُ المَلائِكَةِ والِاصْطِفاءُ يَدُلّانِ عَلى نُبُوءَتِها والنُّبُوءَةُ تَكُونُ لِلنِّساءِ دُونَ الرِّسالَةِ.

وإعادَةُ النِّداءِ في قَوْلِ المَلائِكَةِ ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ لِقَصْدِ الإعْجابِ بِحالِها، لِأنَّ النِّداءَ الأوَّلَ كَفى في تَحْصِيلِ المَقْصُودِ مِن إقْبالِها لِسَماعِ كَلامِ المَلائِكَةِ، فَكانَ النِّداءُ الثّانِي مُسْتَعْمَلًا في مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنهُ إلى لازِمِهِ وهو التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الحالَةِ والإعْجابُ بِها، ونَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:

تَقُولُ وقَدْ مالَ الغَبِيطُ بِـنَـا مَـعًـا ∗∗∗ عَقَرْتَ بِعِيرِي يا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ

فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ في التَّنْبِيهِ المُنْتَقَلِ مِنهُ إلى التَّوْبِيخِ.

والقُنُوتُ مُلازَمَةُ العِبادَةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وقَدَّمَ السُّجُودَ، لِأنَّهُ أدْخَلُ في الشُّكْرِ والمَقامُ هُنا مَقامُ شُكْرٍ.

وقَوْلُهُ مَعَ الرّاكِعِينَ إذْنٌ لَها بِالصَّلاةِ مَعَ الجَماعَةِ، وهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَها مِن بَيْنِ نِساءِ إسْرائِيلَ إظْهارٌ لِمَعْنى ارْتِفاعِها عَنْ بَقِيَّةِ النِّساءِ، ولِذَلِكَ جِيءَ في الرّاكِعِينَ بِعَلامَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ.

وهَذا الخِطابُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخِطابِ الَّذِي بَعْدَهُ وهو ﴿يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] لِقَصْدِ تَأْنِيسِها بِالخَبَرِ المُوالِي لِأنَّهُ لَمّا كانَ حاصِلُهُ يَجْلِبُ لَها حُزْنًا وسُوءَ قالَةٍ بَيْنَ النّاسِ، مَهَّدَ لَهُ بِما يَجْلِبُ إلَيْها مَسَرَّةً، ويُوقِنُها بِأنَّها بِمَحَلِّ عِنايَةِ اللَّهِ، فَلا جَرَمَ أنْ تَعْلَمَ بِأنَّ اللَّهَ جاعِلٌ لَها مَخْرَجًا وأنَّهُ لا يُخْزِيها.

صفحة ٢٤٥

وقَوْلُهُ: ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ إيماءٌ إلى خُلُوِّ كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، وإلّا لَقالَ: وما كُنْتَ تَتْلُو كُتُبَهم مِثْلَ ﴿وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ﴾ [العنكبوت: ٤٨] أيْ إنَّكَ تُخْبِرُهم عَنْ أحْوالِهِمْ كَأنَّكَ كُنْتَ لَدَيْهِمْ.

وقَوْلُهُ: ﴿إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ﴾ وهي الأقْلامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِها التَّوْراةَ كانُوا يَقْتَرِعُونَ بِها في المُشْكِلاتِ: بِأنْ يَكْتُبُوا عَلَيْها أسْماءَ المُقْتَرِعِينَ أوْ أسْماءَ الأشْياءِ المُقْتَرَعِ عَلَيْها، والنّاسُ يَصِيرُونَ إلى القُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدامِ ما يُرَجِّحُ الحَقَّ، فَكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالأزْلامِ وجَعَلَ اليَهُودُ الِاقْتِراعَ بِالأقْلامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِها التَّوْراةَ في المِدْراسِ رَجاءَ أنْ تَكُونَ بَرَكَتُها مُرْشِدَةً إلى ما هو الخَيْرُ. ولَيْسَ هَذا مِن شِعارِ الإسْلامِ ولَيْسَ لِإعْمالِ القُرْعَةِ في الإسْلامِ إلّا مَواضِعُ تَمْيِيزِ الحُقُوقِ المُتَساوِيَةِ مِن كُلِّ الجِهاتِ وتَفْصِيلُهُ في الفِقْهِ. وأشارَتِ الآيَةُ إلى أنَّهم تَنازَعُوا في كَفالَةِ مَرْيَمَ حِينَ ولَدَتْها أُمُّها حِنَّةُ، إذْ كانَتْ يَتِيمَةً كَما تَقَدَّمَ فَحَصَلَ مِن هَذا الِامْتِنانِ إعْلامٌ بِأنَّ كَفالَةَ زَكَرِيّاءَ مَرْيَمَ كانَتْ بَعْدَ الِاسْتِقْسامِ وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى تَنافُسِهِمْ في كَفالَتِها.