﴿ودَّتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكم وما يُضِلُّونَ إلّا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ .

اسْتِئْنافٌ مُناسَبَتُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ﴾ [آل عمران: ٦٨] إلَخْ. والمُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ هُنا اليَهُودُ خاصَّةً، ولِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهم بِـ ﴿طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّهم أهْلُ الكِتابِ الَّذِينَ كانَتْ مَعَهُمُ المُحاجَّةُ في الآياتِ السّابِقَةِ.

والمُرادُ بِالطّائِفَةِ جَماعَةٌ مِنهم مِن قُرَيْظَةَ، والنَّضِيرِ، وقَيْنُقاعَ، دَعَوْا عَمّارَ بْنَ ياسِرٍ، ومُعاذَ بْنَ جَبَلٍ، وحُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ، إلى الرُّجُوعِ إلى الشِّرْكِ.

وجُمْلَةُ لَوْ يُضِلُّونَكم مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ”ودَّتْ“ عَلى طَرِيقَةِ الإجْمالِ والتَّفْصِيلِ. فَـ ”لَوْ“ شَرْطِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّمَنِّي مَجازًا لِأنَّ التَّمَنِّيَ مِن لَوازِمِ الشَّرْطِ الِامْتِناعِيِّ. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ ”ودَّتْ“ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يُضِلُّونَكم لَحَصَلَ مَوْدُودُهم، والتَّحْقِيقُ أنَّ التَّمَنِّيَ عارِضٌ مِن عَوارِضِ ”لَوِ“ الِامْتِناعِيَّةِ في بَعْضِ المَقاماتِ. ولَيْسَ هو مَعْنًى أصْلِيًّا مِن مَعانِي ”لَوْ“ . وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

صفحة ٢٧٩

وقَوْلُهُ لَوْ يُضِلُّونَكم أيْ ودُّوا إضْلالَكم وهو يَحْتَمِلُ أنَّهم ودُّوا أنْ يَجْعَلُوهم عَلى غَيْرِ هُدًى في نَظَرِ أهْلِ الكِتابِ: أيْ يُذَبْذِبُوهم، ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ الإضْلالُ في نَفْسِ الأمْرِ، وإنْ كانَ وِدُّ أهْلِ الكِتابِ أنْ يُهَوِّدُوهم. وعَلى الوَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعالى وما يُضِلُّونَ إلّا أنْفُسَهم أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: إنَّهم إذا أضَلُّوا النّاسَ فَقَدْ صارُوا هم أيْضًا ضالِّينَ؛ لِأنَّ الإضْلالَ ضَلالٌ، وأنْ يَكُونَ مَعْناهُ: إنَّهم كانُوا مِن قَبْلُ ضالِّينَ بِرِضاهم بِالبَقاءِ عَلى دِينٍ مَنسُوخٍ. وقَوْلُهُ وما يَشْعُرُونَ يُناسِبُ الِاحْتِمالَيْنِ لِأنَّ العِلْمَ بِالحالَتَيْنِ دَقِيقٌ.