﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَما آتَيْناكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ ﴿فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ .

عَطَفَ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ﴾ عَلى ﴿ولا يامُرُكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ﴾ [آل عمران: ٨٠] أيْ ما أمَرَكُمُ الأنْبِياءُ بِشَيْءٍ مِمّا تَقَوَّلْتُمْ عَلَيْهِمْ وقَدْ أمَرُوكم بِغَيْرِ ذَلِكَ فَأضَعْتُمُوهُ حِينَ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَهم لِيُبَلِّغُوهُ إلَيْكم، فالمَعْطُوفُ هو ظَرْفُ إذْ وما تَعَلَّقَ بِهِ.

صفحة ٢٩٨

ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ إذْ بِقَوْلِهِ أأقْرَرْتُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، ويَصِحُّ أنْ تُجْعَلَ إذْ بِمَعْنى زَمانٍ غَيْرِ ظَرْفٍ والتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ إذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ، فالمَقْصُودُ الحِكايَةُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمانِ وما مَعَهُ فَيَكُونُ قالَ أأقْرَرْتُمْ مَعْطُوفًا بِحَذْفِ العاطِفِ. كَما هو الشَّأْنُ في جُمَلِ المُحاوَرَةِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ قالُوا أقْرَرْنا.

ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿قالَ أأقْرَرْتُمْ﴾ وما بَعْدَها بَيانًا لِجُمْلَةِ ﴿أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ﴾ بِاعْتِبارِ ما يَقْتَضِيهِ فِعْلُ ﴿أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ﴾: مِن أنَّ النَّبِيِّينَ أعْطَوْا مِيثاقًا لِلَّهِ فَقالَ: أأقْرَرْتُمْ قالُوا: أقْرَرْنا إلَخْ. ويَكُونَ قَوْلُهُ ﴿لَما آتَيْناكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ هو صِيغَةُ المِيثاقِ.

وهَذا المِيثاقُ أخَذَهُ اللَّهُ عَلى جَمِيعِ الأنْبِياءِ، يُؤْذُونَهم فِيهِ بِأنَّ رَسُولًا يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم، ويَأْمُرُهم بِالإيمانِ بِهِ وبِنَصْرِهِ، والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ إعْلامُ أُمَمَهِمْ بِذَلِكَ لِيَكُونَ المِيثاقُ مَحْفُوظًا لَدى سائِرِ الأجْيالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ إلَخْ إذْ لا يَجُوزُ عَلى الأنْبِياءِ التَّوَلِّي والفِسْقُ ولَكِنَّ المَقْصُودَ أُمَمُهم كَقَوْلِهِ ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] . وبِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿قالَ فاشْهَدُوا﴾ أيْ عَلى أُمَمِكم. وإلى هَذا يَرْجِعُ ما ورَدَ في القُرْآنِ مِن دَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، وقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لِيَ الرَّبُّ: أُقِيمُ لَهم نَبِيًّا مِن وسَطِ إخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وأجْعَلُ كَلامِي في فَمِهِ فَيُكَلِّمُهم بِكُلِّ ما أُوصِيهِ بِهِ. وإخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ هم بَنُو إسْماعِيلَ، ولَوْ كانَ المُرادُ نَبِيئًا إسْرائِيلِيًّا لَقالَ أُقِيمُ لَهم نَبِيئًا مِنهم عَلى ما في تَرْجَمَةِ التَّوْراةِ مِن غُمُوضٍ ولَعَلَّ النَّصَّ الأصْلِيَّ أصْلَحُ مِن هَذا المُتَرْجَمِ.

والبِشاراتُ في كُتُبِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ وفي الإنْجِيلِ كَثِيرَةٌ فَفي مَتّى قَوْلُ المَسِيحِ وتَقُومُ أنْبِياءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ كَثِيرِينَ ولَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ أيْ يَبْقى أخِيرًا إلى المُنْتَهى فَهَذا يَخْلُصُ ويَكْرِزُ بِبِشارَةِ المَلَكُوتِ هَذِهِ في كُلِّ المَسْكُونَةِ شَهادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ ثُمَّ يَأْتِي المُنْتَهى، وفي إنْجِيلِ يُوحَنّا قَوْلُ المَسِيحِ ”وأنا أطْلُبُ مِنَ الأبِ فَيُعْطِيكم مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكم إلى الأبَدِ وأمّا المُعَزِّي الرُّوحُ القُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الرَّبُّ بِاسْمِي فَهو يُعَلِّمُكم كُلَّ شَيْءٍ ويُذَكِّرُكم بِكُلِّ ما قُلْتُهُ لَكم ومَتى جاءَ المُعَزّى رُوحُ الحَقِّ الَّذِي مِن عِنْدِ الأبِ يَنْبَثِقُ فَهو يَشْهَدُ“ لِي إلى غَيْرِ ذَلِكَ.

صفحة ٢٩٩

وفِي أخْذِ العَهْدِ عَلى الأنْبِياءِ زِيادَةُ تَنْوِيهٍ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وهَذا المَعْنى هو ظاهِرُ الآيَةِ، وبِهِ فَسَّرَ مُحَقِّقُو المُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ مِنهم عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وطاوُسٌ، والسُّدِّيُّ.

ومِنَ العُلَماءِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أنْ يَكُونَ أخْذُ العَهْدِ عَلى الأنْبِياءِ حَقِيقَةً نَظَرًا إلى قَوْلِهِ ﴿فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ تَوَهَّمُوهُ مُتَعَيِّنًا لِأنْ يَكُونَ المُرادُ بِمَن تَوَلّى مِنَ النَّبِيِّينَ المُخاطَبِينَ، وسَتَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَأوَّلُوا الآيَةَ بِأنَّ المُرادَ مِن أخْذِ العَهْدِ عَلى أُمَمِهِمْ، وسَلَكُوا مَسالِكَ مُخْتَلِفَةً مِنَ التَّأْوِيلِ فَمِنهم مَن جَعَلَ إضافَةَ المِيثاقِ لِلنَّبِيِّينَ إضافَةً تُشْبِهُ إضافَةَ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ أيْ أخَذَ اللَّهُ عَلى الأُمَمِ مِيثاقَ أنْبِيائِهِمْ مِنهم، ومِنهم مَن قَدَّرَ حَذْفَ المُضافِ أيْ أُمَمِ النَّبِيِّينَ أوْ أوْلادِ النَّبِيِّينَ وإلَيْهِ مالَ قَوْلُ مُجاهِدٍ والرَّبِيعِ، واحْتَجُّوا بِقِراءَةِ أُبَيٍّ، وابْنِ مَسْعُودٍ، هَذِهِ الآيَةَ: وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَما آتَيْناكم مِن كِتابٍ، ولَمْ يَقْرَأْ: مِيثاقَ النَّبِيئِينَ، وزادَمُجاهِدٌ فَقالَ: إنَّ قِراءَةَ أُبَيٍّ هي القُرْآنُ، وإنَّ لَفْظَ النَّبِيئِينَ غَلَطٌ مِنَ الكُتّابِ، ورَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ بِإجْماعِ الصَّحابَةِ والأُمَّةِ عَلى مُصْحَفِ عُثْمانَ.

وقَوْلُهُ ﴿لَما آتَيْناكُمْ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ لَما بِفَتْحِ اللّامِ وتَخْفِيفِ المِيمِ فاللّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، ولِأنَّ أخْذَ المِيثاقِ في مَعْنى اليَمِينِ وما مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وآتَيْناكم صِلَتُهُ وحَذْفُ العائِدِ المَنصُوبِ جَرى عَلى الغالِبِ في مِثْلِهِ ومِن كِتابٍ بَيانٌ لِلْمَوْصُولِ وصِلَتِهِ، وعُطِفَ ثُمَّ جاءَكم عَلى آتَيْناكم أيِ الَّذِي آتَيْناكُمُوهُ وجاءَكم بَعْدَهُ رَسُولٌ. ولَتُؤْمِنُنَّ اللّامُ فِيهِ لامُ جَوابِ القَسَمِ والجَوابُ سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِ المُبْتَدَأِ كَما هو المَعْرُوفُ وضَمِيرُ بِهِ عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ وحُذِفَ ما يَعُودُ عَلى ما آتَيْناكم لِظُهُورِهِ.

وقَرَأهُ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ لامِ لَما فَتَكُونُ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ أيْ شُكْرًا عَلى ما آتَيْتُكم وعَلى أنْ بَعَثْتُ إلَيْكم رَسُولًا مُصَدِّقًا لِما كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ ولا يَضُرُّ عَمَلُ ما بَعْدَ لامِ القَسَمِ فِيما قَبْلَها فَأخَذَ المِيثاقَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا ثُمَّ عَلَّلَ جَوابَ القَسَمِ بِأنَّهُ مِن شُكْرِ نِعْمَةِ الإيتاءِ والتَّصْدِيقِ، ولا يَصِحُّ مِن جِهَةِ المَعْنى تَعْلِيقُ لَما آتَيْناكم بِفِعْلِ القَسَمِ المَحْذُوفِ، لِأنَّ الشُّكْرَ عِلَّةٌ لِلْجَوابِ، لا لَأخْذِ العَهْدِ.

ولامُ لَتُؤْمِنُنَّ لامُ جَوابِ القَسَمِ، عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، ومُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ عَلى الوَجْهِ الثّانِي.

صفحة ٣٠٠

وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: آتَيْناكم بِنُونِ العَظَمَةِ وقَرَأهُ الباقُونَ آتَيْتُكم بِتاءِ المُتَكَلِّمِ.

وجُمْلَةُ قالَ أأقْرَرْتُمْ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ.

والإقْرارُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى التَّحْقِيقِ بِالوَفاءِ مِمّا أُخِذَ مِنَ المِيثاقِ.

والإصْرُ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، العَهْدُ المُؤَكَّدُ المُوَثَّقُ واشْتِقاقُهُ مِنَ الإصارِ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وهو ما يُعْقَدُ ويُسَدُّ بِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا﴾ [البقرة: ٢٨٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وقَوْلُهُ فاشْهَدُوا إنْ كانَ شَهادَةً عَلى أنْفُسِهِمْ فَهي بِمَعْنى التَّوَثُّقِ والتَّحْقِيقِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] وإنْ كانَتْ شَهادَةً عَلى أُمَمِهِمْ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ المِيثاقِ فالمَعْنى فاشْهَدُوا عَلى أُمَمِكم بِذَلِكَ، واللَّهُ شاهِدٌ عَلى الجَمِيعِ كَما شَهِدَ النَّبِيئُونَ عَلى الأُمَمِ.

وقَوْلُهُ فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ أيْ مَن تَوَلّى مِمَّنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِمْ، وهُمُ الأُمَمُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنكم كَما قالَ في الآيَةِ الَّتِي خُوطِبَ فِيها بَنُو إسْرائِيلَ في سُورَةِ المائِدَةِ ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ١٢] .

ووَجْهُ الحَصْرِ في قَوْلِهِ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ أنَّهُ لِلْمُبالَغَةِ لِأنَّ فِسْقَهم في هَذِهِ الحالَةِ أشَدُّ فِسْقٍ فَجَعَلَ غَيْرَهُ مِنَ الفِسْقِ كالعَدَمِ.