﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ .

اسْتِئْنافٌ نَشَأ عَنْ قَوْلِهِ ﴿وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠]، لِأنَّ الإخْبارَ عَنْ أكْثَرِهِمْ بِأنَّهم غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُعاداتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ مِن شَأْنِهِ أنْ يُوقِعَ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ خَشْيَةً مِن بَأْسِهِمْ، وهَذا يَخْتَصُّ بِاليَهُودِ، فَإنَّهم كانُوا مُنْتَشِرِينَ حِيالَ المَدِينَةِ في خَيْبَرَ، والنَّضِيرِ، وقَيْنُقاعَ، وقُرَيْظَةَ، وكانُوا أهْلَ مَكْرٍ، وقُوَّةٍ، ومالٍ، وعُدَّةٍ، وعَدَدٍ، والمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ في قِلَّةٍ فَطَمْأنَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ بِأنَّهم لا يَخْشَوْنَ بَأْسَ أهْلِ الكِتابِ، ولا يَخْشَوْنَ ضُرَّهم، لَكِنْ أذاهم.

أمّا النَّصارى فَلا مُلابَسَةَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ حَتّى يَخْشَوْهم. والأذى هو الألَمُ الخَفِيفُ وهو لا يَبْلُغُ حَدَّ الضُّرِّ الَّذِي هو الألَمُ، وقَدْ قِيلَ: هو الضُّرُّ بِالقَوْلِ فَيَكُونُ كَقَوْلِ إسْحاقِ بْنِ خَلَفٍ:

أخْشى فَظاظَةَ عَمٍّ أوْ جَفاءَ أخٍ وكُنْتُ أُبْقِي عَلَيْها مِن أذى الكَلِمِ

ومَعْنى ﴿يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ﴾ يَفِرُّونَ مُنْهَزِمِينَ.

وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ احْتِراسٌ أيْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ تَوْلِيَةَ مُنْهَزِمِينَ لا تَوْلِيَةَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيِّزِينَ إلى فِئَةٍ، أوْ مُتَأمِّلِينَ في الأمْرِ. وفي العُدُولِ عَنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ الجَوابِ إلى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وجَزائِهِ مَعًا، إشارَةٌ إلى أنَّ هَذا دَيْدَنُهم وهَجِيراهم، لَوْ قاتَلُوكم، وكَذَلِكَ في قِتالِهِمْ غَيْرَكم.

صفحة ٥٥

وثُمَّ لِتَرْتِيبِ الأخْبارِ دالَّةٌ عَلى تَراخِي الرُّتْبَةِ. ومَعْنى تَراخِي الرُّتْبَةِ كَوْنُ رُتْبَةِ مَعْطُوفِها أعْظَمَ مِن رُتْبَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ في الغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ. وهو غَيْرُ التَّراخِي المَجازِيِّ، لِأنَّ التَّراخِي المَجازِيَّ أنْ يُشَبَّهَ ما لَيْسَ بِمُتَأخِّرٍ عَنِ المَعْطُوفِ بِالمُتَأخِّرِ عَنْهُ.

وهَذا كُلُّهُ وعِيدٌ لَهم بِأنَّهم سَيُقاتِلُونَ المُسْلِمِينَ، وأنَّهم يَنْهَزِمُونَ، وإغْراءٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقِتالِهِمْ.