Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٦١
﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَأهْلَكَتْهُ وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ .اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهُمْ﴾ [آل عمران: ١١٦] . إلَخْ يُثِيرُ سُؤالَ سائِلٍ عَنْ إنْفاقِهِمُ الأمْوالَ في الخَيْرِ مِن إغاثَةِ المَلْهُوفِ وإعْطاءِ الدِّياتِ في الصُّلْحِ عَنِ القَتْلى.
ضَرَبَ لِأعْمالِهِمُ المُتَعَلِّقَةِ بِالأمْوالِ مَثَلًا، فَشَبَّهَ هَيْئَةَ إنْفاقِهِمُ المُعْجِبِ ظاهِرُها، المُخَيِّبِ آخِرُها، حِينَ يُحْبِطُها الكُفْرُ، بِهَيْئَةِ زَرْعٍ أصابَتْهُ رِيحٌ بارِدَةٌ فَأهْلَكَتْهُ، تَشْبِيهُ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ. ولَمّا كانَ التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيًّا لَمْ يَتَوَخَّ فِيهِ مُوالاةَ ما شَبَّهَ بِهِ إنْفاقَهم لِأداةِ التَّمْثِيلِ، فَقِيلَ: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾، ولَمْ يَقُلْ كَمَثَلِ حَرْثِ قَوْمٍ.
والكَلامُ عَلى الرِّيحِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والصِّرُّ: البَرْدُ الشَّدِيدُ المُمِيتُ لِكُلِّ زَرْعٍ أوْ ورَقٍ يَهُبُّ عَلَيْهِ فَيَتْرُكُهُ كالمُحْتَرِقِ، ولَمْ يُعْرَفْ في كَلامِ العَرَبِ إطْلاقُ الصِّرِّ عَلى الرِّيحِ الشَّدِيدِ البَرْدِ وإنَّما الصِّرُّ اسْمُ البَرْدِ. وأمّا الصَّرْصَرُ فَهو الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ وقَدْ تَكُونُ بارِدَةً. ومَعْنى الآيَةِ غَنِيٌّ عَنِ التَّأْوِيلِ، وجَوَّزَ في الكَشّافِ أنْ يَكُونَ الصِّرُّ هُنا اسْمًا لِلرِّيحِ البارِدَةِ وجَعَلَهُ مُرادِفَ الصَّرْصَرِ. وقَدْ أقَرَّهُ الكاتِبُونَ عَلَيْهِ ولَمْ يَذْكُرْ هَذا الإطْلاقَ في الأساسِ ولا ذَكَرَهُ الرّاغِبُ.
وفِي قَوْلِهِ ﴿فِيها صِرٌّ﴾ إفادَةُ شِدَّةِ بِرْدِ هَذِهِ الرِّيحِ، حَتّى كَأنَّ جِنْسَ الصِّرِّ مَظْرُوفٌ فِيها، وهي تَحْمِلُهُ إلى الحَرْثِ.
والحَرْثُ هُنا مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ: أيْ مَحْرُوثُ قَوْمٍ أيْ أرْضًا مَحْرُوثَةً والمُرادُ أصابَتْ زَرْعَ حَرْثٍ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعانِي الحَرْثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والأنْعامِ والحَرْثِ﴾ [آل عمران: ١٤] في أوَّلِ السُّورَةِ.
صفحة ٦٢
وقَوْلُهُ ﴿ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ إدْماجٌ في خِلالِ التَّمْثِيلِ يُكْسِبُ التَّمْثِيلَ تَفْظِيعًا وتَشْوِيهًا ولَيْسَ جُزْءًا مِنَ الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها. وقَدْ يَذْكُرُ البُلَغاءُ مَعَ المُشَبَّهِ بِهِ صِفاتٍ لا يَقْصِدُونَ مِنها غَيْرَ التَّحْسِينِ أوِ التَّقْبِيحِ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَةٍ صافٍ بِأبْطَحَ أضْحى وهو مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّياحُ القَذى عَنْهُ وأفْرَطَهُ ∗∗∗ مِن صَوْبِ سارِيَةٍ بَيْضٌ يَعالِيلُ
فَأجْرى عَلى الماءِ الَّذِي هو جُزْءُ المُشَبَّهِ بِهِ صِفاتٍ لا أثَرَ لَها في التَّشْبِيهِ.والسّامِعُونَ عالِمُونَ بِأنَّ عِقابَ الأقْوامِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم غايَةٌ في الشِّدَّةِ، فَذَكَرَ وصْفَهم بِظُلْمِ أنْفُسِهِمْ لِتَذْكِيرِ السّامِعِينَ بِذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المَوْعِظَةِ، وجِيءَ بِقَوْلِهِ ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ﴾ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلى ما قَبْلَهُ لِأنَّهُ كالبَيانِ لِقَوْلِهِ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهُمْ﴾ [آل عمران: ١١٦] .
وقَوْلُهُ ﴿وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ الضَّمائِرُ فِيهِ عائِدَةٌ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا. والمَعْنى أنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهم حِينَ لَمْ يَتَقَبَّلْ نَفَقاتِهِمْ بَلْ هم تَسَبَّبُوا في ذَلِكَ، إذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لِأنَّ الإيمانَ جَعَلَهُ اللَّهُ شَرْطًا في قَبُولِ الأعْمالِ، فَلَمّا أعْلَمَهم بِذَلِكَ وأنْذَرَهم لَمْ يَكُنْ عِقابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهم، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعْدَهُ مِن نَفْيِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ.