﴿ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهم ولا يُحِبُّونَكُمْ﴾ .

اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، قُصِدَ مِنهُ المُقابَلَةُ بَيْنَ خُلُقِ الفَرِيقَيْنِ، فالمُؤْمِنُونَ يُحِبُّونَ أهْلَ الكِتابِ، وأهْلُ الكِتابِ يُبْغِضُونَهم، وكُلُّ إناءٍ بِما فِيهِ يَرْشَحُ، والشَّأْنُ أنَّ المَحَبَّةَ تَجْلِبُ المَحَبَّةَ إلّا إذا اخْتَلَفَتِ المَقاصِدُ والأخْلاقُ.

وتَرْكِيبُ ﴿ها أنْتُمْ أُولاءِ﴾ ونَظائِرِهِ مِثْلُ ها أنا تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] . ولَمّا كانَ التَّعْجِيبُ في الآيَةِ مِن مَجْمُوعِ الحالَيْنِ قَبْلَ ﴿ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ فالعَجَبُ مِن مَحَبَّةِ المُؤْمِنِينَ إيّاهم في حالِ بُغْضِهِمُ المُؤْمِنِينَ، ولا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ جُمْلَةٌ في هَذا التَّرْكِيبِ إلّا والقَصْدُ التَّعَجُّبُ مِن مَضْمُونِ تِلْكَ الجُمْلَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿ولا يُحِبُّونَكُمْ﴾ جُمْلَةُ حالٍ مِنَ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ في قَوْلِهِ تُحِبُّونَهم لِأنَّ مَحَلَّ التَّعَجُّبِ هو مَجْمُوعُ الحالَيْنِ.

ولَيْسَ في هَذا التَّعْجِيبِ شَيْءٌ مِنَ التَّغْلِيطِ، ولَكِنَّهُ مُجَرَّدُ إيقاظٍ، ولِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿وتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ كُلِّهِ﴾ فَإنَّهُ كالعُذْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ في اسْتِبْطانِهِمْ

صفحة ٦٦

أهْلَ الكِتابِ بَعْدَ إيمانِ المُؤْمِنِينَ، لِأنَّ المُؤْمِنِينَ لَمّا آمَنُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ وكُتُبِهِمْ كانُوا يَنْسُبُونَ أهْلَ الكِتابِ إلى هُدًى ذَهَبَ زَمانُهُ، وأدْخَلُوا فِيهِ التَّحْرِيفَ بِخِلافِ أهْلِ الكِتابِ إذْ يَرْمُقُونَ المُسْلِمِينَ بِعَيْنِ الِازْدِراءِ والضَّلالَةِ واتِّباعِ ما لَيْسَ بِحَقٍّ. وهَذانَ النَّظَرانِ، مِنّا ومِنهم، هُما أصْلُ تَسامُحِ المُسْلِمِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ، وتَصَلُّبِ أهْلِ الكِتابَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِمْ.

* * *

﴿وتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ كُلِّهِ وإذا لَقُوكم قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ .

جُمْلَةُ وتُؤْمِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلى تُحِبُّونَهم كَما أنَّ جُمْلَةَ ﴿وإذا لَقُوكُمْ﴾، مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿ولا يُحِبُّونَكُمْ﴾ وكُلُّها أحْوالٌ مُوَزَّعَةٌ عَلى ضَمائِرِ الخِطابِ وضَمائِرِ الغَيْبَةِ.

والتَّعْرِيفُ في الكِتابِ لِلْجِنْسِ وأُكِّدَ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ مُراعاةً لِلَفْظِهِ، وأرادَ بِهَذا جَماعَةً مِن مُنافِقِي اليَهُودِ أشْهَرُهم زَيْدُ بْنُ الصِّتِيتِ القَيْنُقاعِيُّ.

والعَضُّ: شَدُّ الشَّيْءِ بِالأسْنانِ. وعَضُّ الأنامِلِ كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الغَيْظِ والتَّحَسُّرِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عَضَّ أنامِلَ مَحْسُوسًا، ولَكِنْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ لازَمِهِ في المُتَعارَفِ، فَإنَّ الإنْسانَ إذا اضْطَرَبَ باطِنُهُ مِنَ الِانْفِعالِ صَدَرَتْ عَنْهُ أفْعالٌ تُناسِبُ ذَلِكَ الإنْفِعالَ، فَقَدْ تَكُونُ مُعِينَةً عَلى دَفْعِ انْفِعالِهِ كَقَتْلِ عَدُوِّهِ، وفي ضِدِّهِ تَقْبِيلُ مَن يُحِبُّهُ، وقَدْ تَكُونُ قاصِرَةً عَلَيْهِ يَشْفِي بِها بَعْضَ انْفِعالِهِ، كَتَخَبُّطِ الصَّبِيِّ في الأرْضِ إذا غَضِبَ، وضَرْبِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ مِنَ الغَضَبِ، وعَضِّهِ أصابِعَهُ مِنَ الغَيْظِ، وقَرْعِهِ سِنَّهُ مِنَ النَّدَمِ، وضَرْبِ الكَفِّ بِالكَفِّ مِنَ التَّحَسُّرِ، ومِن ذَلِكَ التَّأوُّهُ والصِّياحُ ونَحْوُها، وهي ضُرُوبٌ مِن عَلاماتِ الجَزَعِ، وبَعْضُها جِبِلِّيٌّ كالصِّياحِ، وبَعْضُها عادِيٌّ يُتَعارَفُهُ النّاسُ ويَكْثُرُ بَيْنَهم، فَيَصِيرُونَ يَفْعَلُونَهُ بِدُونِ تَأمُّلٍ، وقالَ الحارِثُ بْنُ ظالِمٍ المُرِّيُّ:

صفحة ٦٧

فَأقْبَلَ أقْوامٌ لِئامٌ أذِلَّةٌ يَعَضُّونَ مِن غَيْظٍ رُءُوسَ الأباهِمِ

وقَوْلُهُ عَلَيْكم عَلى فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ ضَمِيرُ المُسْلِمِينَ، وهو مِن تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِالذّاتِ بِتَقْدِيرِ حالَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أيْ عَلى التِئامِكم وزَوالِ البَغْضاءِ، كَما فَعَلَ شاسُ بْنُ قَيْسٍ اليَهُودِيُّ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إيمانِكم كافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] ونَظِيرُ هَذا التَّعْلِيقِ قَوْلُ الشّاعِرِ:

لِتَقْرَعِنَّ عَلى السِّنِّ مِن نَدَمٍ ∗∗∗ إذا تَذَكَّرْتِ يَوْمًا بَعْضَ أخْلاقِي

و﴿مِنَ الغَيْظِ﴾، مِن لِلتَّعْلِيلِ. والغَيْظُ: غَضَبٌ شَدِيدٌ يُلازِمُهُ إرادَةُ الِانْتِقامِ.

وقَوْلُهُ ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ كَلامٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مُخاطَبُونَ مُعَيَّنُونَ لِأنَّهُ دُعاءٌ عَلى الَّذِينَ يَعَضُّونَ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ، وهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذا خَلَوْا، فَلا يُتَصَوَّرُ مُشافَهَتُهم بِالدُّعاءِ عَلى التَّعْيِينِ ولَكِنَّهُ كَلامٌ قُصِدَ إسْماعُهُ لِكُلِّ مَن يَعْلَمُ مِن نَفْسِهِ الِاتِّصافَ بِالغَيْظِ عَلى المُسْلِمِينَ، وهو قَرِيبٌ مِنَ الخِطابِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مُخاطَبٍ، نَحْوَ ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ﴾ [السجدة: ١٢] .

والدُّعاءُ عَلَيْهِمْ بِالمَوْتِ بِالغَيْظِ صَرِيحُهُ طَلَبُ مَوْتِهِمْ بِسَبَبِ غَيْظِهِمْ، وهو كِنايَةٌ عَنْ مُلازَمَةِ الغَيْظِ لَهم طُولَ حَياتِهِمْ إنْ طالَتْ أوْ قَصُرَتْ، وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ دَوامِ سَبَبِ غَيْظِهِمْ، وهو حُسْنُ حالِ المُسْلِمِينَ، وانْتِظامُ أمْرِهِمْ، وازْدِيادُ خَيْرِهِمْ، وفي هَذا الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِ ألَمِ الغَيْظِ لَهم، وبِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ بِهِ، وكُلٌّ مِنَ المَعْنَيَيْنِ المُكَنِّي بِهِما مُرادٌ هُنا، والتَّكَنِّي بِالغَيْظِ وبِالحَسَدِ عَنْ كَمالِ المُغِيظِ مِنهُ المَحْسُودِ مَشْهُورٌ، والعَرَبُ تَقُولُ: فُلانٌ مُحَسَّدٌ، أيْ هو في حالَةِ نِعْمَةٍ وكَمالٍ.

* * *

﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ .

تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ وما بَيْنَها كالِاعْتِراضِ أيْ أنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وهو مُطْلِعُكَ عَلى دَخائِلِهِمْ.