﴿سارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ﴾ .

قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ (سارِعُوا) دُونَ واوِ عَطْفٍ.

تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ سارِعُوا. . مَنزِلَةَ البَيانِ، أوْ بَدَلَ الِاشْتِمالِ، لِجُمْلَةِ ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ﴾ [آل عمران: ١٣٢] لِأنَّ طاعَةَ اللَّهِ والرَّسُولِ مُسارَعَةٌ إلى المَغْفِرَةِ والجَنَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. ولِكَوْنِ الأمْرِ بِالمُسارَعَةِ إلى المَغْفِرَةِ والجَنَّةِ يَئُولُ إلى الأمْرِ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، جازَ عَطْفُ الجُمْلَةِ عَلى جُمْلَةِ الأمْرِ بِالطّاعَةِ، فَلِذَلِكَ قَرَأ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ وسارِعُوا بِالعَطْفِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ ما يُنْبِئُنا بِأنَّهُ يَجُوزُ الفَصْلُ في بَعْضِ الجُمَلِ بِاعْتِبارَيْنِ.

والسُّرْعَةُ المُشْتَقُّ مِنها سارِعُوا مَجازٌ في الحِرْصِ والمُنافَسَةِ والفَوْرِ إلى عَمَلِ الطّاعاتِ الَّتِي هي سَبَبُ المَغْفِرَةِ والجَنَّةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ السُّرْعَةُ حَقِيقَةً، وهي سُرْعَةُ الخُرُوجِ إلى الجِهادِ عِنْدَ التَّنْفِيرِ كَقَوْلِهِ في الحَدِيثِ «وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا» .

صفحة ٨٩

والمُسارَعَةُ عَلى التَّقادِيرِ كُلِّها تَتَعَلَّقُ بِأسْبابِ المَغْفِرَةِ، وأسْبابِ دُخُولِ الجَنَّةِ، فَتَعْلِيقُها بِذاتِ المَغْفِرَةِ والجَنَّةِ مِن تَعْلِيقِ الأحْكامِ بِالذَّواتِ عَلى إرادَةِ أحْوالِها عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ الفائِدَةِ في التَّعَلُّقِ بِالذّاتِ.

وجِيءَ بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ، مُجَرَّدَةً عَنِ مَعْنى حُصُولِ الفِعْلِ مِن جانِبَيْنِ، قَصْدَ المُبالِغَةِ في طَلَبِ الإسْراعِ، والعَرَبُ تَأْتِي بِما يَدُلُّ في الوَضْعِ عَلى تَكَرُّرِ الفِعْلِ وهم يُرِيدُونَ التَّأْكِيدَ والمُبالَغَةَ دُونَ التَّكْرِيرِ، ونَظِيرُهُ التَّثْنِيَةُ في قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك: ٤] .

وتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٍ ووَصْلُها بِقَوْلِهِ مِن رَبِّكم مَعَ تَأنِّي الإضافَةِ بِأنْ يُقالَ إلى مَغْفِرَةِ رَبِّكم، لِقَصْدِ الدَّلالَةِ عَلى التَّعْظِيمِ، ووَصْفِ الجَنَّةِ بِأنَّ عَرْضَها السَّماواتُ والأرْضُ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ في نَظِيرَتِها في آيَةِ سُورَةِ الحَدِيدِ. والعَرْضُ في كَلامِ العَرَبِ يُطْلَقُ عَلى ما يُقابِلُ الطُّولَ، ولَيْسَ هو المُرادُ هُنا، ويُطْلَقُ عَلى الِاتِّساعِ لِأنَّ الشَّيْءَ العَرِيضَ هو الواسِعُ في العُرْفِ بِخِلافِ الطَّوِيلِ غَيْرِ العَرِيضِ فَهو ضَيِّقٌ، وهَذا كَقَوْلِ العُدَيْلِ:

ودُونَ يَدِ الحَجّاجِ مِن أنْ تَنالَنِي بِساطٌ بِأيْدِي النّاعِجاتِ عَرِيضُ

وذِكْرُ السَّماواتِ والأرْضِ جارٍ عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في تَمْثِيلِ شِدَّةِ الِاتِّساعِ. ولَيْسَ المُرادُ حَقِيقَةَ عَرْضِ السَّماواتِ والأرْضِ لِيُوافِقَ قَوْلَ الجُمْهُورِ مِن عُلَمائِنا بِأنَّ الجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ، وأنَّها في السَّماءِ، وقِيلَ: هو عَرْضُها حَقِيقَةً، وهي مَخْلُوقَةٌ الآنَ لَكِنَّها أكْبَرُ مِنَ السَّماواتِ وهي فَوْقَ السَّماواتِ تَحْتَ العَرْشِ، وقَدْ رُوِيَ: «العَرْشُ سَقْفُ الجَنَّةِ» . وأمّا مَن قالَ: إنَّ الجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقِ الآنَ وسَتُخْلَقُ يَوْمَ القِيامَةِ، وهو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ وبَعْضِ أهْلِ السُّنَّةِ مِنهم مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البَلُّوطِيُّ الأنْدَلُسِيُّ الظّاهِرِيُّ، فَيَجُوزُ عِنْدَهم أنْ تَكُونَ كَعَرْضِ السَّماواتِ والأرْضِ بِأنْ تُخْلَقَ في سَعَةِ الفَضاءِ الَّذِي كانَ يَمْلَؤُهُ السَّماواتُ والأرْضُ أوْ في سَعَةِ فَضاءٍ أعْظَمَ مِن ذَلِكَ. وأدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ ظاهِرَةٌ في أنَّ الجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وفي حَدِيثِ رُؤْيا رَآها النَّبِيءُ ﷺ وهو الحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِي

صفحة ٩٠

فِيهِ قَوْلُهُ «إنَّ جِبْرِيلَ ومِيكالَ قالا لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعَ فَإذا فَوْقَهُ مِثْلُ السَّحابِ، قالا: هَذا مَنزِلُكَ، قالَ: فَقُلْتُ: دَعانِي أدْخُلْ مَنزِلِي، قالا: إنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أتَيْتَ مَنزِلَكَ» .