﴿إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ والرَّسُولُ يَدْعُوكم في أُخْراكم فَأثابَكم غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكم ولا ما أصابَكم واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ .

صفحة ١٣١

﴿إذْ تُصْعِدُونَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ﴿صَرَفَكم عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] أيْ دَفَعَكم عَنِ المُشْرِكِينَ حِينَ أنْتُمْ مُصْعِدُونَ.

والإصْعادُ: الذَّهابُ في الأرْضِ لِأنَّ الأرْضَ تُسَمّى صَعِيدًا، قالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ:

هَوايَ مَعَ الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ

والإصْعادُ أيْضًا السَّيْرُ في الوادِي، قالَ قَتادَةُ والرَّبِيعُ: أصْعِدُوا يَوْمَ أُحُدٍ في الوادِي. والمَعْنى: تَفِرُّونَ مُصْعِدِينَ، كَأنَّهُ قِيلَ: تَذْهَبُونَ في الأرْضِ أيْ فِرارًا، إذْ ظَرْفٌ لِلزَّمانِ الَّذِي عَقِبَ صَرْفَ اللَّهِ إيّاهم وكانَ مِن آثارِهِ.

﴿ولا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ﴾ أيْ في هَذِهِ الحالَةِ. واللَّيُّ مَجازٌ بِمَعْنى الرَّحْمَةِ والرِّفْقُ مِثْلُ العَطْفِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، فالمَعْنى ولا يَلْوِي أحَدٌ عَنْ أحَدٍ فَأُوجِزَ بِالحَذْفِ، والمُرادُ عَلى أحَدٍ مِنكم، يَعْنِي: فَرَرْتُمْ لا يَرْحَمُ أحَدٌ أحَدًا ولا يَرْفُقُ بِهِ، وهَذا تَمْثِيلٌ لِلْجِدِّ في الهُرُوبِ حَتّى إنَّ الواحِدَ لِيَدُوسَ الآخَرَ لَوْ تَعَرَّضَ في طَرِيقِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿والرَّسُولُ يَدْعُوكم في أُخْراكُمْ﴾ حالٌ، والأُخْرى آخِرُ الجَيْشِ أيْ مِن ورائِكم. ودُعاءُ الرَّسُولِ دُعاؤُهُ إيّاهم لِلثَّباتِ والرُّجُوعِ عَنِ الهَزِيمَةِ، وهَذا هو دُعاءُ الرَّسُولِ النّاسَ بِقَوْلِهِ «إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ مَن يَكُرُّ فَلَهُ الجَنَّةُ» . وقَوْلُهُ ﴿فَأثابَكم غَمًّا﴾ إنْ كانَ ضَمِيرُ فَأثابَكم ضَمِيرَ اسْمِ الجَلالَةِ، وهو الأظْهَرُ والمُوافِقُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْكم مِن بَعْدِ الغَمِّ﴾ [آل عمران: ١٥٤] فَهو عَطْفٌ عَلى صَرَفَكم أيْ تَرَتَّبَ عَلى الصَّرْفِ إثابَتُكم. وأصْلُ الإثابَةِ إعْطاءُ الثَّوابِ وهو شَيْءٌ يَكُونُ جَزاءً عَلى عَطاءٍ أوْ فِعْلٍ. والغَمُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ، فَيَكُونُ أثابَكم إمّا اسْتِعارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:

قَرَيْناكم فَعَجَّلْنا قِراكم ∗∗∗ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْداةً طَحُونًا

أيْ جازاكُمُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ الإصْعادِ المُقارِنِ لِلصَّرْفِ أنْ أثابَكم غَمًّا أيْ قَلَقًا لَكم في نُفُوسِكم، والمُرادُ أنْ عاقَبَكم بِغَمٍّ كَقَوْلِهِ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]

صفحة ١٣٢

وفِي هَذا الوَجْهِ بُعْدٌ: لِأنَّ المَقامَ مَقامُ مَلامٍ لا تَوْبِيخٍ، ومَقامُ مَعْذِرَةٍ لا تَنْدِيمٍ، وإمّا مُشاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأنَّهم لَمّا خَرَجُوا لِلْحَرْبِ خَرَجُوا طالِبِينَ الثَّوابَ، فَسَلَكُوا مَسالِكَ باءُوا مَعَها بِعِقابٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:

أخافُ زِيادًا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُ ∗∗∗ أداهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا

وقَوْلِ الآخَرِ: قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وقَمِيصًا ونُكْتَةُ هَذِهِ المُشاكَلَةِ أنْ يُتَوَصَّلَ بِها إلى الكَلامِ عَلى ما نَشَأ عَنْ هَذا الغَمِّ مِن عِبْرَةٍ، ومِن عِنايَةِ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِمْ بَعْدَهُ.

والباءُ في قَوْلِهِ بِغَمٍّ لِلْمُصاحَبَةِ أيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، وهو جُمْلَةُ الغُمُومِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِن خَيْبَةِ الأمَلِ في النَّصْرِ بَعْدَ ظُهُورِ بَوارِقِهِ، ومِنَ الِانْهِزامِ، ومِن قَتْلِ مَن قُتِلَ، وجَرْحِ مَن جُرِحَ، ويَجُوزُ كَوْنُ الباءِ لِلْعِوَضِ، أيْ: جازاكُمُ اللَّهُ غَمًّا في نُفُوسِكم عِوَضًا عَنِ الغَمِّ الَّذِي نَسَبْتُمْ فِيهِ لِلرَّسُولِ وإنْ كانَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ فَأثابَكم عائِدًا إلى الرَّسُولِ في قَوْلِهِ والرَّسُولُ يَدْعُوكم، وفِيهِ بُعْدٌ، فالإثابَةُ مَجازٌ في مُقابَلَةِ فِعْلِ الجَمِيلِ بِمِثْلِهِ أيْ جازاكم بِغَمٍّ. والباءُ في قَوْلِهِ بِغَمٍّ باءُ العِوَضِ. والغَمُّ الأوَّلُ غَمُّ نَفْسِ الرَّسُولِ، والغَمُّ الثّانِي غَمُّ المُسْلِمِينَ، والمَعْنى أنَّ الرَّسُولَ اغْتَمَّ وحَزِنَ لِما أصابَكم، كَما اغْتَمَمْتُمْ لِما شاعَ مِن قَتْلِهِ فَكانَ غَمُّهُ لِأجْلِكم جَزاءً عَلى غَمِّكم لِأجْلِهِ.

وقَوْلُهُ ﴿لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ﴾ تَعْلِيلٌ أوَّلُ لِـ (أثابَكم) أيْ ألْهاكم بِذَلِكَ الغَمِّ لِئَلّا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكم مِنَ الغَنِيمَةِ، وما أصابَكم مِنَ القَتْلِ والجِراحِ، فَهو أنْساهم بِمُصِيبَةٍ صَغِيرَةٍ مُصِيبَةً كَبِيرَةً، وقِيلَ: لا زائِدَةٌ والمَعْنى: لِتَحْزَنُوا، فَيَكُونُ زِيادَةً في التَّوْبِيخِ والتَّنْدِيمِ إنْ كانَ قَوْلُهُ أثابَكم تَهَكُّمًا، أوِ المَعْنى فَأثابَكُمُ

صفحة ١٣٣

الرَّسُولُ غَمًّا عَلى ما فاتَكم: أيْ سَكَتَ عَنْ تَثْرِيبِكم، ولَمْ يَظْهَرْ لَكم إلّا الِاغْتِمامُ لِأجْلِكم، لِكَيْلا يُذَكِّرَكم بِالتَّثْرِيبِ حُزْنًا عَلى ما فاتَكم، فَأعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ جَبْرًا لِخَواطِرِكم. وقِيلَ: المَعْنى أصابَكم بِالغَمِّ الَّذِي نَشَأ عَنِ الهَزِيمَةِ لِتَعْتادُوا نُزُولَ المَصائِبِ، فَيَذْهَبُ عَنْكُمُ الهَلَعُ والجَزَعُ عِنْدَ النَّوائِبِ.

وفِي الجَمْعِ بَيْنَ ما فاتَكم وما أصابَكم طِباقٌ يُؤْذِنُ بِطِباقٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ، لِأنَّ ما فاتَ هو مِنَ النّافِعِ وما أصابَ هو مِنَ الضّارِّ.