﴿لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسِبَنَّهم بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ .

تَكْمِلَةٌ لِأحْوالِ أهْلِ الكِتابِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم بِبَيانِ حالَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أنْ بَيَّنَ اخْتِلالَ أمانَتِهِمْ في تَبْلِيغِ الدِّينِ، وهَذا ضَرْبٌ آخَرُ جاءَ بِهِ فَرِيقٌ آخَرُ مِن أهْلِ الكِتابِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهم بِالمَوْصُولِ لِلتَّوَصُّلِ إلى ذِكْرِ صِلَتِهِ العَجِيبَةِ مِن حالِ مَن يَفْعَلُ الشَّرَّ والخِسَّةَ ثُمَّ لا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِانْكِسارِ لِما فَعَلَ أوْ تَطَلُّبِ السِّتْرِ عَلى شَنْعَتِهِ، بَلْ يَرْتَقِي فَيَتَرَقَّبُ ثَناءَ النّاسِ عَلى سُوءِ صُنْعِهِ، ويَتَطَلَّبُ المَحْمَدَةَ عَلَيْهِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ الخِطابُ، والمَوْصُولُ هُنا بِمَعْنى المُعَرَّفِ بِلامِ العَهْدِ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ اليَهُودِ أوِ المُنافِقِينَ، فَمَعْنى ﴿يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا﴾ أنَّهم يَفْرَحُونَ بِما فَعَلُوا مِمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وهو نَبْذُ الكِتابِ والِاشْتِراءُ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وإنَّما فَرِحُوا بِما نالُوا بِفِعْلِهِمْ مِن نَفْعٍ في الدُّنْيا.

ومَعْنى ﴿يُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أنَّهم يُحِبُّونَ الثَّناءَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ وحُرّاسُها والعالِمُونَ بِتَأْوِيلِها، وذَلِكَ خِلافُ الواقِعِ. هَذا ظاهِرُ مَعْنى الآيَةِ. وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهم أتَوْا إضْلالَ أتْباعِهِمْ عَنِ الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وأحَبُّوا الحَمْدَ بِأنَّهم عُلَماءٌ بِكُتُبِ الدِّينِ.

وفِي البُخارِيِّ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّها نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، كانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الغَزْوِ بِالمَعاذِيرِ، فَيَقْبَلُ مِنهُمُ النَّبِيءُ ﷺ ﴿ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا﴾ بِأنَّ لَهم نِيَّةَ المُجاهِدِينَ، ولَيْسَ المَوْصُولُ بِمَعْنى لامِ الِاسْتِغْراقِ. وفي البُخارِيِّ: أنَّ مَرْوانَ بْنَ الحَكَمِ قالَ لِبَوّابِهِ اذْهَبْ يا رافِعُ إلى ابْنِ عَبّاسٍ

صفحة ١٩٤

فَقُلْ: لَئِنْ كانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِما أتى وأحَبَّ أنْ يُحْمَدَ بِما لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أجْمَعُونَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وما لَكَمَ ولِهَذِهِ ؟ إنَّما دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَهُودَ، فَسَألَهم عَنْ شَيْءٍ فَأخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأرَوْهُ أنَّهم قَدِ اسْتَحْمَدُوا إلَيْهِ بِما أخْبَرُوهُ وفَرِحُوا بِما أتَوْا مِن كِتْمانِهِمْ ثُمَّ قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [آل عمران: ١٨٧] حَتّى قَوْلِهِ ﴿لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا﴾ الآيَةَ.

والمَفازَةُ: مَكانُ الفَوْزِ. وهو المَكانُ الَّذِي مَن يَحِلُّهُ يَفُزْ بِالسَّلامَةِ مِنَ العَدُوِّ سُمِّيَتِ البَيْداءُ الواسِعَةُ مَفازَةً لِأنَّ المُنْقَطِعَ فِيها يَفُوزُ بِنَفْسِهِ مِن أعْدائِهِ وطَلَبَةِ الوَتَرِ عِنْدَهُ وكانُوا يَتَطَلَّبُونَ الإقامَةَ فِيها. قالَ النّابِغَةُ:

أوْ أضَعُ البَيْتَ في صَمّاءَ مُظْلِمَةٍ تُقَيِّدُ العِيرَ لا يَسْرِي بِها السّارِي

تُدافِعُ النّاسَ عَنّا حِينَ نَرْكَبُها ∗∗∗ مِنَ المَظالِمِ تُدْعى أُمُّ صَبّارِ

ولَمّا كانَتِ المَفازَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْفَوْزِ الحاصِلِ فِيها بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿مِنَ العَذابِ﴾ . وحَرْفُ (مِن) مَعْناهُ البَدَلِيَّةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ [الغاشية: ٧]، أوْ بِمَعْنى عَنْ بِتَضْمِينِ مَفازَةٍ مَعْنى مَنجاةٍ.

وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ عَلى الغَيْبَةِ، وقَرَأهُ الباقُونَ بِتاءِ الخِطابِ.

أمّا سِينُ تَحْسَبَنَّ فَقَرَأها بِالكَسْرِ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ. وقَرَأها بِالفَتْحِ الباقُونَ.

وقَدْ جاءَ تَرْكِيبُ الآيَةِ عَلى نَظْمٍ بَدِيعٍ إذْ حُذِفَ المَفْعُولُ الثّانِي لِفِعْلِ الحُسْبانِ الأوَّلِ لِدَلالَةِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ وهو مَفْعُولُ ﴿فَلا تَحْسِبَنَّهُمْ﴾، والتَّقْدِيرُ: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ إلَخْ أنْفُسَهم. وأُعِيدَ فِعْلُ الحُسْبانِ في قَوْلِهِ ﴿فَلا تَحْسِبَنَّهُمْ﴾ مُسْنَدًا إلى المُخاطَبِ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِراضِ بِالفاءِ وأُتِيَ بَعْدَهُ بِالمَفْعُولِ الثّانِي: وهو ﴿بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ﴾ فَتَنازَعَهُ كِلا الفِعْلَيْنِ. وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ ﴿لا تَحْسِبَنَّ

صفحة ١٩٥

الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ بِتاءِ الخِطابِ يَكُونُ خِطابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخاطَبٍ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿فَلا تَحْسِبَنَّهُمْ﴾ اعْتِراضًا بِالفاءِ أيْضًا والخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ مَعَ ما في حَذْفِ المَفْعُولِ الثّانِي لِفِعْلِ الحُسْبانِ الأوَّلِ، وهو مَحَلُّ الفائِدَةِ، مِن تَشْوِيقِ السّامِعِ إلى سَماعِ المَنهِيِّ عَنْ حُسْبانِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَلا تَحْسِبَنَّهُمْ﴾: بِفَتْحِ الباءِ المُوَحَّدَةِ عَلى أنَّ الفِعْلَ لِخِطابِ الواحِدِ؛ وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِضَمِّ الباءِ المُوَحَّدَةِ عَلى أنَّهُ لِخِطابِ الجَمْعِ، وحَيْثُ أنَّهُما قَرَآ أوَّلَهُ بِياءِ الغَيْبَةِ فَضَمُّ الباءِ يَجْعَلُ فاعِلَ يَحْسَبَنَّ ومَفْعُولَهُ مُتَّحِدَيْنِ أيْ لا يَحْسَبُونَ أنْفُسَهم، واتِّحادُ الفاعِلِ والمَفْعُولِ لِلْفِعْلِ الواحِدِ مِن خَصائِصِ أفْعالِ الظَّنِّ كَما هُنا وأُلْحِقَتْ بِها أفْعالٌ قَلِيلَةٌ، وهي: وجَدَ وعَدِمَ وفَقَدَ.

وأمّا سِينُ تَحْسَبَنَّهم فالقِراءاتُ مُماثِلَةٌ لِما في سِينِ يَحْسَبَنَّ.