Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألْبابِ﴾ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم فَآمَنّا رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ﴾ ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ .
صفحة ١٩٦
هَذا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِما تَتابَعَ مِن أغْراضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ المُقَدِّماتِ والمَقْصِدِ والمُتَخَلِّلاتِ بِالمُناسَباتِ، إلى غَرَضٍ جَدِيدٍ هو الِاعْتِبارُ بِخَلْقِ العَوالِمِ وأعْراضِها والتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِما فِيها مِن آياتٍ.ومِثْلُ هَذا الِانْتِقالِ يَكُونُ إيذانًا بِانْتِهاءِ الكَلامِ عَلى أغْراضِ السُّورَةِ، عَلى تَفَنُّنِها، فَقَدْ كانَ التَّنَقُّلُ فِيها مِنَ الغَرَضِ إلى مُشاكِلِهِ وقَدْ وقَعَ الِانْتِقالُ الآنَ إلى غَرَضٍ عامٍّ: وهو الِاعْتِبارُ بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وحالُ المُؤْمِنِينَ في الِاتِّعاظِ بِذَلِكَ، وهَذا النَّحْوُ في الِانْتِقالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ ونَحْوِهِ مِن أغْراضِهِ عَقِبَ إيفائِها حَقَّها إلى غَرَضٍ آخَرَ إيذانًا بِأنَّهُ أشْرَفَ عَلى الِانْتِهاءِ، وشَأْنُ القُرْآنِ أنْ يَخْتِمَ بِالمَوْعِظَةِ لِأنَّها أهَمُّ أغْراضِ الرِّسالَةِ، كَما وقَعَ في خِتامِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
وحَرْفُ إنَّ لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ.
والمُرادُ بِ ﴿خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ هُنا: إمّا آثارُ خَلْقِها، وهو النِّظامُ الَّذِي جُعِلَ فِيها، وإمّا أنْ يُرادَ بِالخَلْقِ المَخْلُوقاتُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ١١] . و﴿أُولُو الألْبابِ﴾ [آل عمران: ٧] أهْلُ العُقُولِ الكامِلَةِ لِأنَّ لُبَّ الشَّيْءِ خُلاصَتُهُ. وقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ بَيانَ ما في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الآياتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والفُلْكِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلَخْ.
و﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ إمّا مِنَ الذِّكْرِ اللِّسانِيِّ وإمّا مِنَ الذِّكْرِ القَلْبِيِّ وهو التَّفْكِيرُ، وأرادَ بِقَوْلِهِ ﴿قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ عُمُومَ الأحْوالِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ الظَّهْرَ والبَطْنَ، وقَوْلِهِمْ: اشْتَهَرَ كَذا عِنْدَ أهْلِ الشَّرْقِ والغَرْبِ، عَلى أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ هي مُتَعارَفُ أحْوالِ البَشَرِ في السَّلامَةِ، أيْ أحْوالِ الشُّغْلِ والرّاحَةِ وقَصْدِ النَّوْمِ. وقِيلَ: أرادَ أحْوالَ المُصَلِّينَ: مِن قادِرٍ، وعاجِزٍ وشَدِيدِ العَجْزِ. وسِياقُ الآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ هَذا المَعْنى.
وقَوْلُهُ ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ عَطْفٌ مُرادِفٌ إنْ كانَ المُرادُ بِالذِّكْرِ فِيما سَبَقَ التَّفْكِيرَ، وإعادَتَهُ لِأجْلِ اخْتِلافِ المُتَفَكَّرِ فِيهِ، أوْ هو عَطْفٌ مُغايِرٌ إذا كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ يَذْكُرُونَ ذِكْرَ اللِّسانِ. والتَّفْكِيرُ عِبادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في جامِعِ العُتْبِيَّةِ قالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْداءِ: ما كانَ
صفحة ١٩٧
شَأْنُ أبِي الدَّرْداءِ ؟ قالَتْ: كانَ أكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أتَرى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الأعْمالِ ؟ قالَ: نَعَمْ، هو اليَقِينُ.والخَلْقُ بِمَعْنى كَيْفِيَّةِ أثَرِ الخَلْقِ، أوِ المَخْلُوقاتِ الَّتِي في السَّماءِ والأرْضِ، فالإضافَةُ إمّا عَلى مَعْنى اللّامِ، وإمّا عَلى مَعْنى (في) .
وقَوْلُهُ ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ وما بَعْدَهُ جُمْلَةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ الحالِ عَلى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أيْ يَتَفَكَّرُونَ قائِلِينَ: رَبَّنا إلَخْ لِأنَّ هَذا الكَلامَ أُرِيدَ بِهِ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ ما بَعْدَهُ مِنَ الدُّعاءِ.
فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَواطَأ الجَمِيعُ مِن أُولِي الألْبابِ عَلى قَوْلِ هَذا التَّنْزِيهِ والدُّعاءِ عِنْدَ التَّفْكِيرِ مَعَ اخْتِلافِ تَفْكِيرِهِمْ وتَأثُّرِهِمْ ومَقاصِدِهِمْ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أنَّهم تَلَقَّوْهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكانُوا يُلازِمُونَهُ عِنْدَ التَّفَكُّرِ وعَقِبِهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهم إيّاهُ فَصارَ هَجِّيراهم مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] الآياتِ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ ابْنُ عَبّاسٍ في الصَّحِيحِ قالَ: بِتُّ عِنْدَ خالَتِي مَيْمُونَةَ «فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وجْهِهِ ثُمَّ قَرَأ العَشْرَ الآياتِ مِن سُورَةِ آلِ عِمْرانَ» إلى آخِرِ الحَدِيثِ.
ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ حِكايَةً لِتَفَكُّرِهِمْ في نُفُوسِهِمْ، فَهو كَلامُ النَّفْسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ المُتَفَكِّرِينَ لِاسْتِوائِهِمْ في صِحَّةِ التَّفَكُّرِ لِأنَّهُ تَنَقَّلَ مِن مَعْنًى إلى مُتَفَرِّعٍ عَنْهُ، وقَدِ اسْتَوى أُولُو الألْبابِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم هُنا في إدْراكِ هَذِهِ المَعانِي، فَأوَّلُ التَّفْكِيرِ أنْتَجَ لَهم أنَّ المَخْلُوقاتِ لَمْ تُخْلَقْ باطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وسُؤالِهِ أنْ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ، لِأنَّهم رَأوْا في المَخْلُوقاتِ طائِعًا وعاصِيًا، فَعَلِمُوا أنَّ وراءَ هَذا العالَمِ ثَوابًا وعِقابًا، فاسْتَعاذُوا أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ. وتَوَسَّلُوا إلى ذَلِكَ بِأنَّهم بَذَلُوا غايَةَ مَقْدُورِهِمْ في طَلَبِ النَّجاةِ إذِ اسْتَجابُوا لِمُنادِي الإيمانِ وهو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وسَألُوا غُفْرانَ الذُّنُوبِ، وتَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ، والمَوْتَ عَلى البِرِّ إلى آخِرِهِ. فَلا يَكادُ أحَدٌ مِن أُولِي الألْبابِ يَخْلُو مِن هَذِهِ التَّفَكُّراتِ ورُبَّما زادَ عَلَيْها، ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وشاعَتْ بَيْنَهُمُ، اهْتَدى لِهَذا التَّفْكِيرِ مَن لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِن قَبْلُ فَصارَ شائِعًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِمَعانِيهِ وألْفاظِهِ.
صفحة ١٩٨
ومَعْنى ﴿ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ أيْ خَلْقًا باطِلًا، أوْ ما خَلَقْتَ هَذا في حالِ أنَّهُ باطِلٌ، فَهي حالٌ لازِمَةُ الذِّكْرِ في النَّفْيِ وإنْ كانَتْ فَضْلَةً في الإثْباتِ، كَقَوْلِهِ ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨] فالمَقْصُودُ نَفْيُ عَقائِدِ مَن يُفْضِي اعْتِقادُهم إلى أنَّ هَذا الخَلْقَ باطِلٌ أوْ خُلِّيَ عَنِ الحِكْمَةِ، والعَرَبُ تَبْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ عَلى اعْتِبارِ سَبْقِ الإثْباتِ كَثِيرًا.وجِيءَ بِفاءِ التَّعْقِيبِ في حِكايَةِ قَوْلِهِمْ ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ لِأنَّهُ تَرَتَّبَ عَلى العِلْمِ بِأنَّ هَذا الخَلْقَ حَقٌّ، ومِن جُمْلَةِ الحَقِّ أنْ لا يَسْتَوِيَ الصّالِحُ والطّالِحُ، والمُطِيعُ والعاصِي، فَعَلِمُوا أنَّ لِكُلٍّ مُسْتَقَرًّا مُناسِبًا فَسَألُوا أنْ يَكُونُوا مِن أهْلِ الخَيْرِ المُجَنَّبِينَ عَذابَ النّارِ.
وقَوْلُهم ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ مَسُوقٌ مَساقُ التَّعْلِيلِ لِسُؤالِ الوِقايَةِ مِنَ النّارِ، كَما تُؤْذِنُ بِهِ إنَّ المُسْتَعْمَلَةُ لِإرادَةِ الِاهْتِمامِ إذْ لا مَقامَ لِلتَّأْكِيدِ هُنا. والخِزْيُ مَصْدَرُ خَزِيَ يَخْزى بِمَعْنى ذَلَّ وهانَ بِمَرْأًى مِنَ النّاسِ، وأخْزاهُ أذَلَّهُ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ، ووَجْهُ تَعْلِيلِ طَلَبِ الوِقايَةِ مِنَ النّارِ بِأنَّ دُخُولَها خِزْيٌ بَعْدَ الإشارَةِ إلى مُوجِبَةِ ذَلِكَ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِمْ ﴿عَذابَ النّارِ﴾ أنَّ النّارَ مَعَ ما فِيها مِنَ العَذابِ الألِيمِ فِيها قَهْرٌ لِلْمُعَذَّبِ وإهانَةٌ عَلَنِيَّةٌ، وذَلِكَ مَعْنًى مُسْتَقِرٌّ في نُفُوسِ النّاسِ، ومِنهُ قَوْلُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] وذَلِكَ لِظُهُورِ وجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، أيْ مَن يَدْخُلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ. والخِزْيُ لا تُطِيقُهُ الأنْفُسُ، فَلا حاجَةَ إلى تَأْوِيلٍ تَأوَّلُوهُ عَلى مَعْنى فَقَدْ أخْزَيْتَهُ خِزْيًا عَظِيمًا. ونَظَّرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ بِقَوْلِ رُعاةِ العَرَبِ ”مَن أدْرَكَ مَرْعى الصَّمّانِ فَقَدْ أدْرَكَ“ أيْ فَقَدْ أدْرَكَ مَرْعًى لِئَلّا يَكُونَ مَعْنى الجَزاءِ ضَرُورِيَّ الحُصُولِ مِنَ الشَّرْطِ فَلا تَظْهَرُ فائِدَةٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، لِأنَّهُ يُخَلِّي الكَلامَ عَنِ الفائِدَةِ حِينَئِذٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فازَ﴾ [آل عمران: ١٨٥] .
ولِأجْلِ هَذا أعْقَبُوهُ بِما في الطِّباعِ التَّفادِي بِهِ عَنِ الخِزْيِ والمَذَلَّةِ بِالهَرَعِ إلى أحْلافِهِمْ وأنْصارِهِمْ، فَعَلِمُوا أنْ لا نَصِيرَ في الآخِرَةِ لِلظّالِمِ فَزادُوا بِذَلِكَ
صفحة ١٩٩
تَأْكِيدًا لِلْحِرْصِ عَلى الِاسْتِعاذَةِ مِن عَذابِ النّارِ إذْ قالُوا ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ أيْ لِأهْلِ النّارِ أنْصارٌ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الخِزْيَ.وقَوْلُهُ تَعالى ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا﴾ أرادُوا بِهِ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا ﷺ . والمُنادِي، الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالكَلامِ. والنِّداءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالكَلامِ رَفْعًا قَوِيًّا لِأجْلِ الإسْماعِ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ النِّداءِ بِكَسْرِ النُّونِ وبِضَمِّها وهو الصَّوْتُ المُرْتَفِعُ. يُقالُ: هو أنْدى صَوْتًا أيْ أرْفَعُ، فَأصْلُ النِّداءِ الجَهْرُ بِالصَّوْتِ والصِّياحُ بِهِ، ومِنهُ سُمِّيَ دُعاءُ الشَّخْصِ شَخْصًا لِيُقْبِلَ إلَيْهِ نِداءً، لِأنَّ مِن شَأْنِهِ أنْ يَرْفَعَ الصَّوْتَ بِهِ؛ ولِذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ حُرُوفًا مَمْدُودَةً مِثْلَ: يا وآ وأيا وهَيا. ومِنهُ سُمِّي الأذانُ نِداءً، وأُطْلِقَ هُنا عَلى المُبالَغَةِ في الإسْماعِ والدَّعْوَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ رَفْعُ صَوْتٍ، ويُطْلَقُ النِّداءُ عَلى طَلَبِ الإقْبالِ بِالذّاتِ أوْ بِالفَهْمِ بِحُرُوفٍ مَعْلُومَةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ونادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤] ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ [الصافات: ١٠٥] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو المُرادَ هُنا لِأنَّ النَّبِيءَ يَدْعُو النّاسَ بِنَحْوِ: يا أيُّها النّاسُ ويا بَنِي فُلانٍ ويا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ونَحْوِ ذَلِكَ. وسَيَأْتِي تَفْسِيرُ مَعانِي النِّداءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ﴾ [الأعراف: ٤٣] في سُورَةِ الأعْرافِ. واللّامُ لامُ العِلَّةِ، أيْ لِأجْلِ الإيمانِ بِاللَّهِ.
و(أنْ) في ﴿أنْ آمِنُوا﴾ تَفْسِيرِيَّةٌ لِما في فِعْلِ يُنادِي مِن مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وجاءُوا بِفاءِ التَّعْقِيبِ في فَآمَنّا: لِلدَّلالَةِ عَلى المُبادَرَةِ والسَّبْقِ إلى الإيمانِ، وذَلِكَ دَلِيلُ سَلامَةِ فِطْرَتِهِمْ مِنَ الخَطَأِ والمُكابَرَةِ، وقَدْ تَوَسَّمُوا أنْ تَكُونَ مُبادَرَتُهم لِإجابَةِ دَعْوَةِ الإسْلامِ مَشْكُورَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهم ﴿فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ لِأنَّهم لَمّا بَذَلُوا كُلَّ ما في وُسْعِهِمْ مِنَ اتِّباعِ الدِّينِ كانُوا حَقِيقِينَ بِتَرَجِّي المَغْفِرَةِ.
والغَفْرُ والتَّكْفِيرُ مُتَقارِبانِ في المادَّةِ المُشْتَقَّيْنِ مِنها إلّا أنَّهُ شاعَ الغَفْرُ والغُفْرانُ في العَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ والتَّكْفِيرِ في تَعْوِيضِ الذَّنْبِ بِعِوَضٍ، فَكَأنَّ العِوَضَ كَفَّرَ الذَّنْبَ أيْ سَتَرَهُ، ومِنهُ سُمِّيَتْ كَفّارَةُ الإفْطارِ في رَمَضانَ. وكَفّارَةُ الحِنْثِ في اليَمِينِ إلّا أنَّهم أرادُوا بِالذُّنُوبِ ما كانَ قاصِرًا عَلى ذَواتِهِمْ، ولِذَلِكَ طَلَبُوا مَغْفِرَتَهُ،
صفحة ٢٠٠
وأرادُوا مِنَ السَّيِّئاتِ ما كانَ فِيهِ حَقُّ النّاسِ، فَلِذَلِكَ سَألُوا تَكْفِيرَها عَنْهم. وقِيلَ هو مُجَرَّدُ تَأْكِيدٍ، وهو حَسَنٌ، وقِيلَ أرادُوا مِنَ الذُّنُوبِ الكَبائِرَ ومِنَ السَّيِّئاتِ الصَّغائِرَ لِأنَّ اجْتِنابَ الكَبائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغائِرَ، بِناءً عَلى أنَّ الذَّنْبَ أدَلُّ عَلى الإثْمِ مِنَ السَّيِّئَةِ.وسَألُوا الوَفاةَ مَعَ الأبْرارِ، أيْ أنْ يَمُوتُوا عَلى حالَةِ البِرِّ، بِأنْ يُلازِمَهُمُ البِرُّ إلى المَماتِ وأنْ لا يَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ، فَإذا ماتُوا كَذَلِكَ ماتُوا مِن جُمْلَةِ الأبْرارِ. فالمَعِيَّةُ هُنا مَعِيَّةٌ اعْتِبارِيَّةٌ، وهي المُشارَكَةُ في الحالَةِ الكامِلَةِ، والمَعِيَّةُ مَعَ الأبْرارِ أبْلَغُ في الِاتِّصافِ بِالدَّلالَةِ، لِأنَّهُ بِرٌّ يُرْجى دَوامُهُ وتَزايُدُهُ لِكَوْنِ صاحِبِهِ ضِمْنُ جَمْعٍ يَزِيدُونَهُ إقْبالًا عَلى البِرِّ بِلِسانِ المَقالِ ولِسانِ الحالِ.
ولَمّا سَألُوا المَثُوبَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ تَرَقَّوْا في السُّؤالِ إلى طَلَبِ تَحْقِيقِ المَثُوبَةِ، فَقالُوا ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ .
وتَحْتَمِلُ كَلِمَةُ (عَلى) أنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الوَعْدِ، ومَعْناها التَّعْلِيلُ فَيَكُونُ الرُّسُلُ هُمُ المَوْعُودُ عَلَيْهِمْ، ومَعْنى الوَعْدِ عَلى الرُّسُلِ أنَّهُ وعْدٌ عَلى تَصْدِيقِهِمْ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضافٍ، وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ (عَلى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أيْ وعْدًا كائِنًا عَلى رُسُلِكَ أيْ، مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ، ومُتَعَلِّقُ الجارِّ في مِثْلِهِ كَوْنٌ غَيْرُ عامٍّ بَلْ هو كَوْنٌ خاصٌّ، ولا ضَيْرَ في ذَلِكَ إذا قامَتِ القَرِينَةُ، ومَعْنى (عَلى) حِينَئِذٍ الِاسْتِعْلاءُ المَجازِيُّ، أوْ تُجْعَلُ (عَلى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حالًا مِن ﴿ما وعَدْتَنا﴾ أيْضًا، بِتَقْدِيرِ كَوْنٍ عامٍّ لَكِنْ مَعَ تَقْدِيرِ مُضافٍ إلى رُسُلِكَ، أيْ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِكَ.
والمَوْعُودُ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ أوْ عَلى التَّصْدِيقِ بِهِمُ الأظْهَرُ أنَّهُ ثَوابُ الآخِرَةِ وثَوابُ الدُّنْيا: لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤٨] وقَوْلِهِ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ﴾ [النور: ٥٥] الآيَةَ وقَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] . والمُرادُ بِالرُّسُلِ في قَوْلِهِ ﴿عَلى رُسُلِكَ﴾ خُصُوصُ مُحَمَّدٍ ﷺ أُطْلِقَ عَلَيْهِ وصْفُ (رُسُلٍ) تَعْظِيمًا لَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا تَحْسِبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: ٤٧] . ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ﴾ [الفرقان: ٣٧] .
صفحة ٢٠١
فَإنْ قُلْتَ: إذا كانُوا عالِمِينَ بِأنَّ اللَّهَ وعَدَهم ذَلِكَ وبِأنَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ فَما فائِدَةُ سُؤالِهِمْ ذَلِكَ في دُعائِهِمْ ؟ قُلْتُ: لَهُ وُجُوهٌ: أحَدُهُما: أنَّهم سَألُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أمارَةً عَلى حُصُولِ قَبُولِ الأعْمالِ الَّتِي وعَدَ اللَّهُ عَلَيْها بِما سَألُوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ أنْفُسَهم آتِينَ بِما يُبَلِّغُهم تِلْكَ المَرْتَبَةَ ويَخْشَوْنَ لَعَلَّهم قَدْ خَلَطُوا أعْمالَهُمُ الصّالِحَةَ بِما يُبْطِلُها، ولَعَلَّ هَذا هو السَّبَبُ في مَجِيءِ الواوِ في قَوْلِهِمْ ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا﴾ دُونَ الفاءِ إذْ جَعَلُوهُ دَعْوَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَتَحَقَّقَ ويَتَحَقَّقَ سَبَبُها، ولَمْ يَجْعَلُوها نَتِيجَةَ فِعْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُصُولِهِ، ويَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ بَعْدُ ﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهم أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] مَعَ أنَّهم لَمْ يَطْلُبُوا هُنا عَدَمَ إضاعَةِ أعْمالِهِمْ.الثّانِي: قالَ في الكَشّافِ: أرادُوا طَلَبَ التَّوْفِيقِ إلى أسْبابِ ما وعَدَهُمُ اللَّهُ عَلى رُسُلِهِ. فالكَلامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ مِنَ التَّوْفِيقِ لِلْأعْمالِ المَوْعُودِ عَلَيْها.
الثّالِثُ: قالَ فِيهِ ما حاصِلُهُ: أنْ يَكُونَ هَذا مِن بابِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ حَتّى لا يَظْهَرُوا بِمَظْهَرِ المُسْتَحِقِّ لِتَحْصِيلِ المَوْعُودِ بِهِ تَذَلُّلًا، أيْ كَسُؤالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ المَغْفِرَةَ وقَدْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهم.
الرّابِعُ: أجابَ القَرافِيُّ في الفَرْقِ ٢٧٣ بِأنَّهم سَألُوهُ ذَلِكَ لِأنَّ حُصُولَهُ مَشْرُوطٌ بِالوَفاةِ عَلى الإيمانِ، وقَدْ يُؤَيَّدُ هَذا بِأنَّهم قَدَّمُوا قَبْلَهُ قَوْلَهم ﴿وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ﴾ لَكِنَّ هَذا الجَوابَ يَقْتَضِي قَصْرَ المَوْعُودِ بِهِ عَلى ثَوابِ الآخِرَةِ، وأعادُوا سُؤالَ النَّجاةِ مِن خِزْيِ يَوْمِ القِيامَةِ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ.
الخامِسُ: أنَّ المَوْعُودَ الَّذِي سَألُوهُ هو النَّصْرَ عَلى العَدُوِّ خاصَّةً، فالدُّعاءُ بِقَوْلِهِمْ ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ مَقْصُودٌ مِنهُ تَعْجِيلُ ذَلِكَ لَهم، يَعْنِي أنَّ الوَعْدَ كانَ لِمَجْمُوعِ الأُمَّةِ، فَكُلُّ واحِدٍ إذا دَعا بِهَذا فَإنَّما يَعْنِي أنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَرى مِصْداقَ وعْدِ اللَّهِ تَعالى خَشْيَةَ أنْ يَفُوتَهم. وهَذا كَقَوْلِ خَبّابِ ابْنِ الأرَتِّ: هاجَرْنا مَعَ النَّبِيءِ نَلْتَمِسُ وجْهَ اللَّهِ تَعالى فَوَقَعَ أجْرُنا عَلى اللَّهِ فَمِنّا مَن أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهو يَهْدِبُها، ومِنّا مَن ماتَ لَمْ يَأْكُلْ مِن أجْرِهِ شَيْئًا، مِنهم مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ ما نُكَفِّنُهُ إلّا بُرْدَةً إلَخْ.
صفحة ٢٠٢
وقَدِ ابْتَدَءُوا دُعاءَهم وخَلَّلُوهُ بِنِدائِهِ تَعالى: خَمْسَ مَرّاتٍ إظْهارًا لِلْحاجَةِ إلى إقْبالِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَن حَزَبَهُ أمْرٌ فَقالَ: يا رَبِّ خَمْسَ مَرّاتٍ أنْجاهُ اللَّهُ مِمّا يَخافُ وأعْطاهُ ما أرادَ، واقْرَءُوا ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ .