Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ .
اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، وهو جارٍ مَجْرى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إيتاءِ أمْوالِ اليَتامى، ومَجْرى المُقَدِّمَةِ لِأحْكامِ المَوارِيثِ الَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] .
ومُناسَبَةُ تَعْقِيبِ الآيِ السّابِقَةِ بِها: أنَّهم كانُوا قَدِ اعْتادُوا إيثارَ الأقْوِياءِ والأشِدّاءِ بِالأمْوالِ، وحِرْمانَ الضُّعَفاءِ، وإبْقاءَهم عالَةً عَلى أشِدّائِهِمْ حَتّى يَكُونُوا في مَقادَتِهِمْ، فَكانَ الأوْلِياءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحاجِيرِهِمْ أمْوالَهم، وكانَ أكْبَرُ العائِلَةِ يَحْرِمُ إخْوَتَهُ مِنَ المِيراثِ مَعَهُ فَكانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلى الحِرْمانِ، ويَقْنَعُونَ العائِلَةَ بِالعَيْشِ في ظِلالِ أقارِبِهِمْ، لِأنَّهم إنْ نازَعُوهم أطْرَدُوهم وحَرَمُوهم، فَصارُوا عالَةً عَلى النّاسِ.
وأخَصُّ النّاسِ بِذَلِكَ النِّساءُ فَإنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِن أنْفُسِهِنَّ، ويَخْشَيْنَ عارَ الضَّيْعَةِ،
صفحة ٢٤٨
ويَتَّقِينَ انْحِرافَ الأزْواجِ، فَيَتَّخِذْنَ رِضا أوْلِيائِهِنَّ عُدَّةً لَهُنَّ مِن حَوادِثِ الدَّهْرِ، فَلَمّا أمَرَهُمُ اللَّهُ أنْ يُؤْتُوا اليَتامى أمْوالَهم، أمَرَ عَقِبَهُ بِأمْرِهِمْ بِأنْ يَجْعَلُوا لِلرِّجالِ والنِّساءِ نَصِيبًا مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ.فَإيتاءُ مالِ اليَتِيمِ تَحْقِيقٌ لِإيصالِ نَصِيبِهِ مِمّا تَرَكَ لَهُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ، وتَوْرِيثُ القَرابَةِ إثْباتٌ لِنَصِيبِهِمْ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ، وذُكِرَ النِّساءُ هُناكَ تَمْهِيدًا لِشَرْعِ المِيراثِ، وقَدْ تَأيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبى واليَتامى﴾ [النساء: ٨] فَإنَّ ذَلِكَ يُناسِبُ المِيراثَ، ولا يُناسِبُ إيتاءَ أمْوالِ اليَتامى.
ولا جَرَمَ أنَّ مِن أهَمِّ شَرائِعِ الإسْلامِ المِيراثَ، فَقَدْ كانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ أمْوالَهم بِالوَصِيَّةِ لِعُظَماءِ القَبائِلِ ومَن تَلْحَقُهم بِالِانْتِسابِ إلَيْهِمْ حُسْنُ الأُحْدُوثَةِ، وتَجْمَعُهم بِهِمْ صِلاتُ الحِلْفِ أوِ الِاعْتِزازِ والوِدِّ، وكانُوا إذا لَمْ يُوصُوا أوْ تَرَكُوا بَعْضَ مالِهِمْ بِلا وصِيَّةٍ يُصْرَفُ لِأبْناءِ المَيِّتِ الذُّكُورِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُكُورٌ فَقَدْ حُكِيَ أنَّهم يَصْرِفُونَهُ إلى عُصْبَةٍ مِن أُخْوَةٍ وأبْناءِ عَمٍّ، ولا تُعْطى بَناتُهُ شَيْئًا، أمّا الزَّوْجاتُ فَكُنَّ مَوْرُوثاتٍ لا وارِثاتٍ.
وكانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ بِالبُنُوَّةِ إلّا إذا كانَ الأبْناءُ ذُكُورًا، فَلا مِيراثَ لِلنِّساءِ لِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ إنَّما يَرِثُ أمْوالَنا مَن طاعَنَ بِالرُّمْحِ، وضَرَبَ بِالسَّيْفِ. فَإنْ لَمْ تَكُنِ الأبْناءُ الذُّكُورُ ورِثَ أقْرَبُ العُصْبَةِ: الأبُ ثُمَّ الأخُ ثُمَّ العَمُّ وهَكَذا، وكانُوا يُوَرِّثُونَ بِالتَّبَنِّي وهو أنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ ابْنَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَ المُتَبَنِّي والمُتَبَنّى جَمِيعُ أحْكامِ الأُبُوَّةِ.
ويُوَرِّثُونَ أيْضًا بِالحِلْفِ وهو أنْ يَرْغَبَ رَجُلانِ في الخُلَّةِ بَيْنَهُما فَيَتَعاقَدا عَلى أنَّ دَمَهُما واحِدٌ ويَتَوارَثا، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ لَمْ يَقَعْ في مَكَّةَ تَغْيِيرٌ لِأحْكامِ المِيراثِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ ما يُخالِفُ أحْكامَ سُكّانِها، ثُمَّ لَمّا هاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وبَقِيَ مُعْظَمُ أقارِبِ المُهاجِرِينَ المُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ صارَ التَّوْرِيثُ بِالهِجْرَةِ، فالمُهاجِرُ يَرِثُ المُهاجِرَ، وبِالحِلْفِ، وبِالمُعاقَدَةِ، وبِالأُخُوَّةِ الَّتِي آخاها الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، ونَزَلَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولِكُلٍّ صفحة ٢٤٩
وقَدْ كانَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ أوَّلَ إعْطاءٍ لِحَقِّ الإرْثِ لِلنِّساءِ في العَرَبِ.
ولِكَوْنِ هَذِهِ الآيَةِ كالمُقَدِّمَةِ جاءَتْ بِإجْمالِ الحَقِّ والنَّصِيبِ في المِيراثِ وتَلاهُ تَفْصِيلُهُ، لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ، وحِكْمَةُ هَذا الإجْمالِ حِكْمَةُ وُرُودِ الأحْكامِ المُرادِ نَسْخُها إلى أثْقَلَ لِتَسْكُنَ النُّفُوسُ إلَيْها بِالتَّدْرِيجِ.
رَوى الواحِدِيُّ، في أسْبابِ النُّزُولِ، والطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وأحَدُهُما يَزِيدُ عَلى الآخَرِ ما حاصِلُهُ: «إنَّ أوْسَ بْنَ ثابِتٍ الأنْصارِيَّ تُوُفِّيَ وتَرَكَ امْرَأةً يُقالُ لَها أُمُّ كُحَّةٍ فَجاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ إنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وهاتانِ بِنْتاهُ وقَدِ اسْتَوْفى عَمُّهُما مالَهُما فَما تَرى يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَواللَّهِ ما تُنْكَحانِ أبَدًا إلّا ولَهُما مالٌ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْضِي اللَّهُ في ذَلِكَ. فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ وفِيها ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] . قالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ادْعُ لِي المَرْأةَ وصاحِبَها فَقالَ لِعَمِّهِما أعْطِهِما الثُّلُثَيْنِ وأعْطِ أُمَّهُما الثُّمُنَ وما بَقِيَ فَلَكَ» . ويُرْوى: أنَّ ابْنَيْ عَمِّهِ سُوَيْدٌ وعُرْفُطَةُ، ورُوِيَ أنَّهُما قَتادَةُ وعُرْفُجَةُ، ورُوِيَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمّا دَعا العَمَّ أوِ ابْنَيِ العَمِّ قالَ، أوْ قالا لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لا نُعْطِي مَن لا يَرْكَبُ فَرَسًا ولا يَحْمِلُ كَلًّا ولا يَنْكى عَدُوًّا. فَقالَ: انْصَرِفْ أوِ انْصَرِفا، حَتّى أنْظُرَ ما يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِنَّ. فَنَزَلَتْ آيَةُ ”﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾“ الآيَةِ» . ورُوِيَ أنَّهُ «لَمّا نَزَلَتْ هاتِهِ الآيَةُ أرْسَلَ النَّبِيءُ ﷺ إلى ولِيِّ البِنْتَيْنِ فَقالَ: لا تُفَرِّقُ مِن مالِ أبِيهِما شَيْئًا فَإنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُنَّ نَصِيبًا» .
صفحة ٢٥٠
والنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.وقَوْلُهُ ﴿مِمّا قَلَّ مِنهُ أوْ كَثُرَ﴾ بَيانٌ لِ ”ما تَرَكَ“ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ ما تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ وتَنْصِيصٌ عَلى أنَّ الحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ المالِ، حَتّى لا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهم بِشَيْءٍ، وقَدْ كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ يُعْطِي أبْناءَهُ مِن مالِهِ عَلى قَدْرِ مَيْلِهِ كَما أوْصى نِزارُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَدْنانَ لِأبْنائِهِ: مُضَرَ، ورَبِيعَةَ، وإيادٍ، وأنْمارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الحَمْراءَ كُلَّها، وجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الفَرَسَ، وجَعَلَ لِإيادٍ الخادِمَ، وجَعَلَ لِأنْمارٍ الحِمارَ، ووَكَلَهم في إلْحاقِ بَقِيَّةِ مالِهِ بِهاتِهِ الأصْنافِ الأرْبَعَةِ إلى الأفْعى الجُرْهُمَيِّ في نَجْرانَ، فانْصَرَفُوا إلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهم، وهو الَّذِي أرْسَلَ المَثَلَ: ”إنَّ العَصا مِنَ العُصَيَّةِ“ .
وقَوْلُهُ ”نَصِيبًا مَفْرُوضًا“ حالٌ مِن ”نَصِيبٌ“ في قَوْلِهِ لِلرِّجالِ ”نَصِيبٌ“ ”ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ“ وحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الجِنْسُ جاءَ الحالُ مِنهُ مُفْرَدًا ولَمْ يُراعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ: نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلى اعْتِبارِ كَوْنِ المَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، ولا قِيلَ: أنْصابٌ مَفْرُوضَةٌ، عَلى اعْتِبارِ كَوْنِ المَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجالِ ولِلنِّساءِ، بَلْ ورُوعِيَ الجِنْسُ فَجِيءَ بِالحالِ مُفْرَدًا و”مَفْرُوضًا“ وصْفٌ. ومَعْنى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أنَّهُ مُعَيَّنُ المِقْدارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، كَما قالَ تَعالى في الآيَةِ الآتِيَةِ ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١] . وهَذا أوْضَحُ دَلِيلٍ عَلى أنَّ المَقْصُودَ بِهَذِهِ الآيَةِ تَشْرِيعُ المَوارِيثِ.