صفحة ٢٥٤

﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ .

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِن أكْلِ مالِ اليَتامى، جَرَّتْهُ مُناسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أمْوالِ الأمْواتِ، لِأنَّ الوَرَثَةَ يَكْثُرُ أنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتامى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجالِ في مُدَّةِ أعْمارِهِمْ، فَقَلَّما يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ ورَثَةٍ صِغارٍ، وهو مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنايَةِ الشّارِعِ بِهَذا الغَرَضِ، فَذَلِكَ عادَ إلَيْهِ بِهَذِهِ المُناسَبَةِ.

وقَوْلُهُ ظُلْمًا حالٌ مِن يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الأكْلُ المَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ ﴿ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ٦]، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [النساء: ٢٩] .

ثُمَّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نارًا مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا﴾ مُرادًا بِها نارُ جَهَنَّمَ، كَما هو الغالِبُ في القُرْآنِ، وعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ ناصِبٌ نارًا المَذْكُورَ عَلى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ ما يُفْضِي بِهِمْ إلى النّارِ، فَأطْلَقَ النّارَ مَجازًا مُرْسَلًا بِعَلاقَةِ الأوَّلِ أوِ السَّبَبِيَّةِ أيْ ما يُفْضِي بِهِمْ إلى عَذابِ جَهَنَّمَ، فالمَعْنى أنَّهم حِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى قَدْ أكَلُوا ما يُفْضِي بِهِمْ إلى جَهَنَّمَ.

وعَلى هَذا فَعَطْفُ جُمْلَةِ ﴿وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ عَطْفُ مُرادِفٍ لِمَعْنى جُمْلَةِ ﴿يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا﴾ .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمُ النّارِ مُسْتَعارًا لِلْألَمِ بِمَعْنى أسْبابِ الألَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذابٍ دُنْيَوِيٍّ أوْ مُسْتَعارًا لِلتَّلَفِ لِأنَّ شَأْنَ النّارِ أنْ تَلْتَهِمَ ما تُصِيبُهُ، والمَعْنى إنَّما يَأْخُذُونَ أمْوالًا هي سَبَبٌ في مَصائِبَ تَعْتَرِيهِمْ في ذَواتِهِمْ وأمْوالِهِمْ كالنّارِ إذا تَدْنُو مِن أحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وتُتْلِفُ مَتاعَهُ، فَيَكُونُ هَذا تَهْدِيدًا بِمَصائِبَ في الدُّنْيا عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٦] ويَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ ﴿وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ جارِيًا عَلى ظاهِرِ العَطْفِ مِنَ اقْتِضاءِ المُغايَرَةِ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ، فالجُمْلَةُ الأُولى تَهْدِيدٌ بِعَذابٍ في الدُّنْيا، والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ وعِيدٌ بِعَذابِ الآخِرَةِ.

صفحة ٢٥٥

وذِكْرُ في بُطُونِهِمْ عَلى كِلا المَعْنَيَيْنِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وتَرْشِيحٍ لِاسْتِعارَةِ يَأْكُلُونَ لِمَعْنى يَأْخُذُونَ ويَسْتَحْوِذُونَ.

والسِّينُ في سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أيِ اسْتِقْبالٍ، أيْ أنَّها تَدْخُلُ عَلى المُضارِعِ فَتَمْحَضَهُ لِلِاسْتِقْبالِ، سَواءً كانَ اسْتِقْبالًا قَرِيبًا أوْ بَعِيدًا، وهي مُرادِفَةُ سَوْفَ، وقِيلَ: إنَّ سَوْفَ أوْسَعُ زَمانًا. وتُفِيدانِ في مَقامِ الوَعْدِ تَحْقِيقَ الوَعْدِ وكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ.

ويَصْلَوْنَ مُضارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إذا قاسى حَرَّ النّارِ بِشِدَّةٍ، كَما هُنا، يُقالُ: صَلِيَ بِالنّارِ، ويَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ ونُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلى نَزْعِ الخافِضِ، قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:

لا تَصْطَلِي النّارَ إلّا مُجْمِرًا أرِجًا قَدْ كَسَّرَتْ مِن يَلَنْجُوجٍ لَهُ وقَصا

وهُوَ الوارِدُ في اسْتِعْمالِ القُرْآنِ بِاطِّرادٍ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ: وسَيَصْلَوْنَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُضارِعُ صَلِيَ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ مُضارِعُ أصْلاهُ إذا أحْرَقَهُ ومَبْنِيًّا لِلنّائِبِ.

والسَّعِيرُ النّارُ المُسَعَّرَةُ أيِ المُلْتَهِبَةُ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ المُجَرَّدِ، وهو مِنَ المُضاعَفِ، كَما بُنِيَ السَّمِيعُ مِن أسْمَعَ، والحَكِيمُ مِن أحْكَمَ.