Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ولَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكم إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ولَدٌ فَإنْ كانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أوْ دَيْنٍ ولَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكم ولَدٌ فَإنْ كانَ لَكم ولَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أوْ دَيْنٍ﴾ .
صفحة ٢٦٣
هَذِهِ فَرِيضَةُ المِيراثِ الَّذِي سَبَبُهُ العِصْمَةُ، وقَدْ أعْطاها اللَّهُ حَقَّها المَهْجُورَ عِنْدَ الجاهِلِيَّةِ إذْ كانُوا لا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَيْنِ: أمّا الرَّجُلُ فَلا يَرِثُ امْرَأتَهُ لِأنَّها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها أوْلادٌ مِنهُ، فَهو قَدْ صارَ بِمَوْتِها بِمَنزِلَةِ الأجْنَبِيِّ عَنْ قَرابَتِها مِن آباءٍ وإخْوَةٍ وأعْمامٍ، وإنْ كانَ لَها أوْلادٌ كانَ أوْلادُها أحَقَّ بِمِيراثِها إنْ كانُوا كِبارًا، فَإنْ كانُوا صِغارًا قَبَضَ أقْرِباؤُهم مالَهم وتَصَرَّفُوا فِيهِ، وأمّا المَرْأةُ فَلا تَرِثُ زَوْجَها بَلْ كانَتْ تُعَدُّ مَوْرُوثَةً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِيها ورَثَتُهُ كَما سَيَجِيءُ في قَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩] . فَنَوَّهَ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ بِصِلَةِ العِصْمَةِ، وهي الَّتِي وصَفَها بِالمِيثاقِ الغَلِيظِ في قَوْلِهِ ﴿وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١] .والجَمْعُ في أزْواجُكم وفي قَوْلِهِ ﴿مِمّا تَرَكْتُمْ﴾ كالجَمْعِ في الأوْلادِ والآباءِ، مُرادٌ بِهِ تَعَدُّدُ أفْرادِ الوارِثِينَ مِنَ الأُمَّةِ، وهاهُنا قَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ الرَّجُلَ إذا كانَتْ لَهُ زَوْجاتٌ أنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ في الرُّبْعِ أوْ في الثُّمْنِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ لَهُنَّ، لِأنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجاتِ بِيَدِ صاحِبِ المالِ فَكانَ تَعَدُّدُهُنَّ وسِيلَةً لِإدْخالِ المَضَرَّةِ عَلى الوَرَثَةِ الآخَرِينَ بِخِلافِ تَعَدُّدِ البَناتِ والأخَواتِ فَإنَّهُ لا خِيارَ فِيهِ لِرَبِّ المالِ. والمَعْنى: ولِكُلِّ واحِدٍ مِنكم نِصْفُ ما تَرَكَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ مِن أزْواجِهِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ﴾ .
وقَوْلُهُ ﴿ولَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ﴾ أيْ لِمَجْمُوعِهِنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكَ زَوْجُهُنَّ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ﴾ وهَذا حَذَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ إيجازُ الكَلامِ.
وأُعْقِبَتْ فَرِيضَةُ الأزْواجِ بِذِكْرِ ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أوْ دَيْنٍ﴾ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّهُنَّ مَمْنُوعاتٌ مِنَ الإيصاءِ ومِنَ التَّدايُنِ كَما كانَ الحالُ في زَمانِ الجاهِلِيَّةِ. وأمّا ذِكْرُ تِلْكَ الجُمْلَةِ عَقِبَ ذِكْرِ مِيراثِ النِّساءِ مِن رِجالِهِنَّ فَجَرْيًا عَلى الأُسْلُوبِ المُتَّبَعِ في هَذِهِ الآياتِ، وهو أنْ يُعَقَّبَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الفَرائِضِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لا يُسْتَحَقُّ إلّا بَعْدَ إخْراجِ الوَصِيَّةِ وقَضاءِ الدَّيْنِ.
* * *
﴿وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأةٌ ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ فَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهم شُرَكاءُ في الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ﴾ .صفحة ٢٦٤
بَعْدَ أنْ بَيَّنَ مِيراثَ ذِي الأوْلادِ أوِ الوالِدَيْنِ وفَصَّلَهُ في أحْوالِهِ حَتّى حالَةِ مِيراثِ الزَّوْجَيْنِ، انْتَقَلَ هُنا إلى مِيراثِ مَن لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولا والِدٌ، وهو المَوْرُوثُ كَلالَةً، ولِذَلِكَ قابَلَ بِها مِيراثَ الأبَوَيْنِ.والكَلالَةُ اسْمٌ لِلْكَلالِ وهو التَّعَبُ والإعْياءُ قالَ الأعْشى:
فَآلَيْتُ لا أرْثِي لَها مِن كَلالَةٍ ولا مِن حَفِيٍّ حَتّى أُلاقِي مُحَمَّدا
وهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ.ووَصَفَتِ العَرَبُ بِالكَلالَةِ القَرابَةَ غَيْرَ القُرْبى، كَأنَّهم جَعَلُوا وُصُولَهُ لِنَسَبِ قَرِيبِهِ عَنْ بُعْدٍ، فَأطْلَقُوا عَلَيْهِ الكَلالَةَ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ واسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ مَن لَمْ يُسَمُّوهُ:
فَإنَّ أبا المَرْءِ أحَمى لَهُ ∗∗∗ ومَوْلى الكَلالَةِ لا يُغْضَبُ
ثُمَّ أطْلَقُوهُ عَلى إرْثِ البَعِيدِ، وأحْسَبُ أنَّ ذَلِكَ مِن مُصْطَلَحِ القُرْآنِ إذْ لَمْ أرَهُ في كَلامِ العَرَبِ إلّا ما بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ. قالَ الفَرَزْدَقُ:ورِثْتُمْ قَناةَ المَجْدِ لا عَنْ كَلالَةٍ ∗∗∗ عَنِ ابْنَيْ مَنافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وهاشِمِ
ومِنهُ قَوْلُهم: ورِثَ المَجْدَ لا عَنْ كَلالَةٍ. وقَدْ عَدَّ الصَّحابَةُ مَعْنى الكَلالَةِ هُنا مِن مُشْكِلِ القُرْآنِ حَتّى قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: ثَلاثٌ لَأنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُنَّ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيا: الكَلالَةُ، والرِّبا، والخِلافَةُ. وقالَ أبُو بَكْرٍ أقُولُ فِيها بِرَأْيِي، فَإنْ كانَ صَوابًا فَمِنَ اللَّهِ وإنْ كانَ خَطَأً فَمِنِّي ومِنَ الشَّيْطانِ واللَّهُ مِنهُ بَرِيءٌ، الكَلالَةُ ما خَلا الوَلَدَ والوالِدَ. وهَذا قَوْلُ عُمَرَ، وعَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ والشَّعْبِيُّ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، وحُكِيَ الإجْماعُ عَلَيْهِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الكَلالَةُ مَن لا ولَدَ لَهُ، أيْ ولَوْ كانَ لَهُ والِدٌ ويُنْسَبُ ذَلِكَ لِأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ أيْضًا ثُمَّ رَجَعا عَنْهُ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِظاهِرِ الآيَةِ في آخِرِ السُّورَةِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ﴾ [النساء: ١٧٦] وسِياقُ الآيَةِ يُرَجِّحُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ لِأنَّ ذِكْرَها بَعْدَ مِيراثِ الأوْلادِ والأبَوَيْنِ مُؤْذِنٌ بِأنَّها حالَةٌ مُخالِفَةٌ لِلْحالَيْنِ.صفحة ٢٦٥
وانْتَصَبَ قَوْلُهُ ﴿كَلالَةً﴾ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿يُورَثُ﴾ الَّذِي هو كَلالَةٌ مِن وارِثِهِ أيْ قَرِيبٌ غَيْرُ الأقْرَبِ لِأنَّ الكَلالَةَ يَصِحُّ أنْ يُوصَفَ بِها كِلا القَرِيبَيْنِ.قَوْلُهُ ﴿أوِ امْرَأةٌ﴾ عُطِفَ عَلى رَجُلٌ الَّذِي هو اسْمُ كانَ فَيُشارِكُ المَعْطُوفُ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ في خَبَرِ كانَ إذْ لا يَكُونُ لَها اسْمٌ بِدُونِ خَبَرٍ في حالِ نُقْصانِها.
قَوْلُهُ ﴿ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ﴾ يَتَعَيَّنُ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ في مَعْنى الكَلالَةِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِما الأخَ والأُخْتَ لِلْأُمِّ خاصَّةً لِأنَّهُ إذا كانَ المَيِّتُ لا ولَدَ لَهُ ولا والِدَ وقُلْنا لَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ وجَعَلْنا لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسَ نَعْلَمُ بِحُكْمِ ما يُشْبِهُ دَلالَةَ الِاقْتِضاءِ أنَّهُما الأخُ والأُخْتُ لِلْأُمِّ لِأنَّهُما لَمّا كانَتْ نِهايَةُ حَظِّهِما الثُّلُثَ فَقَدْ بَقِيَ الثُّلُثانِ فَلَوْ كانَ الأخُ والأُخْتُ هُما الشَّقِيقَيْنِ أوِ اللَّذَيْنِ لِلْأبِ لاقْتَضى أنَّهُما أخَذا أقَلَّ المالِ وتُرِكَ الباقِي لِغَيْرِهِما وهَلْ يَكُونُ غَيْرُهُما أقْرَبَ مِنهُما ؟ فَتَعَيَّنَ أنَّ الأخَ والأُخْتَ مُرادٌ بِهِما اللَّذانِ لِلْأُمِّ خاصَّةً لِيَكُونَ الثُّلُثانِ لِلْإخْوَةِ الأشِقّاءِ أوِ الأعْمامِ أوْ بَنِي الأعْمامِ. وقَدْ أثْبَتَ اللَّهُ بِهَذا فَرْضًا لِلْإخْوَةِ لِلْأُمِّ إبْطالًا لِما كانَ عَلَيْهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِن إلْغاءِ جانِبِ الأُمُومَةِ أصْلًا، لِأنَّهُ جانِبُ نِساءٍ ولَمْ يُحْتَجْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى مَصِيرِ بَقِيَّةِ المالِ لِما قَدَّمْنا بَيانَهُ آنِفًا مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى أحالَ أمْرَ العِصابَةِ عَلى ما هو مُتَعارَفٌ بَيْنَ مَن نَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ.
عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ في تَفْسِيرِ الكَلالَةِ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالأخِ والأُخْتِ اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ؛ إذْ قَدْ يُفْرَضُ لِلْإخْوَةِ الأشِقّاءِ نَصِيبٌ هو الثُّلُثانِ لِعاصِبٍ أقْوى وهو الأبُ في بَعْضِ صُوَرِ الكَلالَةِ غَيْرَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ وافَقَ الجُمْهُورَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالأخِ والأُخْتِ اللَّذانِ لِلْأُمِّ وكانَ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أنَّ اللَّهَ أطْلَقَ الكَلالَةَ وقَدْ لا يَكُونُ فِيها أبٌ فَلَوْ كانَ المُرادُ بِالأخِ والأُخْتِ الشَّقِيقَيْنِ أوِ اللَّذَيْنِ لِلْأبِ لَأعْطَيْناهُما الثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الأبِ وبَقِيَ مُعْظَمُ المالِ لِمَن هو دُونُ الإخْوَةِ في التَّعَصُّبِ. فَهَذا فِيما أرى هو الَّذِي حَدا سائِرَ الصَّحابَةِ والفُقَهاءِ إلى حَمْلِ الأخِ والأُخْتِ عَلى اللَّذَيْنِ لِلْأُمِّ. وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الكَلالَةَ في آخِرِ السُّورَةِ بِصُورَةٍ أُخْرى سَنَتَعَرَّضُ لَها.
* * *
صفحة ٢٦٦
﴿غَيْرَ مُضارٍّ وصِيَّةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾﴿غَيْرَ مُضارٍّ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ يُوصى الأخِيرِ، ولَمّا كانَ فِعْلُ يُوصى تَكْرِيرًا، كانَ حالًا مِن ضَمائِرِ نَظائِرِهِ.
مُضارٍّ الأظْهَرُ أنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرّاءِ الأُولى المُدْغَمَةِ أيْ غَيْرَ مُضارٍّ ورَثَتَهُ بِإكْثارِ الوَصايا، وهو نَهْيٌ عَنْ أنْ يَقْصِدَ مِن وصِيَّتِهِ الإضْرارَ بِالوَرَثَةِ. والإضْرارُ مِنهُ ما حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وهو أنْ يَتَجاوَزَ المُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مالِهِ وقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ ﷺ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ «الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ» . ومِنهُ ما يَحْصُلُ بِقَصْدِ المُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الإضْرارَ بِالوارِثِ ولا يَقْصِدُ القُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿غَيْرَ مُضارٍّ﴾ . ولَمّا كانَتْ نِيَّةُ المُوصِي وقَصْدُهُ الإضْرارَ لا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهو مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإنْ ظَهَرَ ما يَدُلُّ عَلى قَصْدِهِ الإضْرارَ دَلالَةً واضِحَةً، فالوَجْهُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الوَصِيَّةُ باطِلَةً لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿غَيْرَ مُضارٍّ﴾ نَهْيٌ عَنِ الإضْرارِ، والنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسادَ المَنهِيِّ عَنْهُ.
يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ هَذا القَيْدُ لِلْمُطْلَقِ في الآيِ الثَّلاثِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ﴾ إلَخْ، لِأنَّ هَذِهِ المُطْلَقاتِ مُتَّحِدَةُ الحُكْمِ والسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ المُطْلَقُ مِنها عَلى المُقَيَّدِ كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ.
قَدْ أخَذَ الفُقَهاءُ مِن هَذِهِ الآيَةِ حُكْمَ مَسْألَةِ قَصْدِ المُعْطِي مِن عَطِيَّتِهِ الإضْرارَ بِوارِثِهِ في الوَصِيَّةِ وغَيْرِها مِنَ العَطايا، والمَسْألَةُ مَفْرُوضَةٌ في الوَصِيَّةِ خاصَّةً. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مالِكٍ وابْنِ القاسِمِ أنَّ قَصْدَ المُضارَّةِ في الثُّلُثِ لا تُرَدُّ بِهِ الوَصِيَّةُ لِأنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهو عَلى الإباحَةِ في التَّصَرُّفِ فِيهِ. ونازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ في التَّفْسِيرِ بِأنَّ ما في الوَصايا الثّانِي مِنَ المُدَوَّنَةِ، صَرِيحٌ في أنَّ قَصْدَ الإضْرارِ يُوجِبُ رَدَّ الوَصِيَّةِ. وبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. ومَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ القاسِمِ أنَّ الوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الإضْرارِ إذا تَبَيَّنَ القَصْدُ. غَيْرَ أنَّ ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ لا يَرى تَأْثِيرَ الإضْرارِ. وفي شَرْحِ ابْنِ ناجِي عَلى تَهْذِيبِ المُدَوَّنَةِ أنَّ قَصْدَ الإضْرارِ بِالوَصِيَّةِ في أقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لا يُوهِنُ الوَصِيَّةَ عَلى الصَّحِيحِ. وبِهِ الفَتْوى.
قَوْلُهُ وصِيَّةً مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جاءَ بَدَلًا مِن فِعْلِهِ، والتَّقْدِيرُ:
صفحة ٢٦٧
يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وصِيَّةً مِنهُ. فَهو خَتْمٌ لِلْأحْكامِ بِمِثْلِ ما بُدِئَتْ بِقَوْلِهِ ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: ١١] وهَذا مِن رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ.قَوْلُهُ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ، وذِكْرُ وصْفِ العِلْمِ والحِلْمِ هُنا لِمُناسَبَةِ أنَّ الأحْكامَ المُتَقَدِّمَةَ إبْطالٌ لِكَثِيرٍ مِن أحْكامِ الجاهِلِيَّةِ، وقَدْ كانُوا شَرَّعُوا مَوارِيثَهم تَشْرِيعًا مَثارُهُ الجَهْلُ والقَساوَةُ. فَإنَّ حِرْمانَ البِنْتِ والأخِ لِلْأُمِّ مِنَ الإرْثِ جَهْلٌ بِأنَّ صِلَةَ النِّسْبَةِ مِن جانِبِ الأُمِّ مُماثِلَةٌ لِصِلَةِ نِسْبَةِ جانِبِ الأبِ. فَهَذا ونَحْوُهُ جَهْلٌ، وحِرْمانُهُمُ الصِّغارَ مِنَ المِيراثِ قَساوَةٌ مِنهم.
وقَدْ بَيَّنَتِ الآياتُ في هَذِهِ السُّورَةِ المِيراثَ وأنْصِباءَهُ بَيْنَ أهْلِ أُصُولِ النَّسَبِ وفُرُوعِهِ وأطْرافِهِ وعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وسَكَتَتْ عَمّا عَدا ذَلِكَ مِنَ العُصْبَةِ وذَوِي الأرْحامِ ومَوالِي العَتاقَةِ ومَوالِي الحِلْفِ، وقَدْ أشارَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٥] في سُورَةِ الأنْفالِ وقَوْلُهُ ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦] في سُورَةِ الأحْزابِ، إلى ما أخَذَ مِنهُ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ تَوْرِيثَ ذَوِي الأرْحامِ. وأشارَ قَوْلُهُ الآتِي قَرِيبًا ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ [النساء: ٣٣] إلى ما يُؤْخَذُ مِنهُ التَّوْرِيثُ بِالوَلاءِ عَلى الإجْمالِ كَما سَنُبَيِّنُهُ، وبَيَّنَ النَّبِيءُ ﷺ تَوْرِيثَ العَصَبَةِ بِما رَواهُ أهْلُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «ألْحِقُوا الفَرائِضَ بِأهْلِها فَما بَقِيَ فَهو لِأوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وما رَواهُ الخَمْسَةُ غَيْرَ النَّسائِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «أنا أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ فَمَن ماتَ وتَرَكَ مالًا فَمالُهُ لِمَوالِي العَصَبَةِ ومَن تَرَكَ كَلًّا أوْ ضَياعًا فَأنا ولِيُّهُ» وسَنُفَصِّلُ القَوْلَ في ذَلِكَ في مَواضِعِهِ المَذْكُورَةِ.