Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ .
اسْتِطْرادٌ جَرَّ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما﴾ [النساء: ١٦] . والتَّوْبَةُ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها مُسْتَوْفًى في قَوْلِهِ، في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران: ٩٠] .
و(إنَّما) لِلْحَصْرِ.
و(عَلى) هُنا حَرْفٌ لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ بِمَعْنى التَّعَهُّدِ والتَّحَقُّقِ كَقَوْلِكَ: عَلَيَّ لَكَ كَذا، فَهي تُفِيدُ تَحَقُّقَ التَّعَهُّدِ. والمَعْنى: التَّوْبَةُ تَحِقُّ عَلى اللَّهِ، وهَذا مَجازٌ في تَأْكِيدِ
صفحة ٢٧٨
الوَعْدِ بِقَبُولِها حَتّى جُعِلَتْ كالحَقِّ عَلى اللَّهِ، ولا شَيْءَ بِواجِبٍ عَلى اللَّهِ إلّا وُجُوبُ وعْدِهِ بِفَضْلِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إخْبارُهُ تَعالى عَنْ أشْياءَ أوْجَبَها عَلى نَفْسِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تِلْكَ الأشْياءِ سَمْعًا ولَيْسَ وُجُوبًا.وقَدْ تَسَلَّطَ الحَصْرُ عَلى الخَبَرِ، وهو (لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ) وذُكِرَ لَهُ قَيْدانِ وهُما (بِجَهالَةٍ) و(مِن قَرِيبٍ) والجَهالَةُ تُطْلَقُ عَلى سُوءِ المُعامَلَةِ وعَلى الإقْدامِ عَلى العَمَلِ دُونَ رَوِيَّةٍ، وهي ما قابَلَ الحِلْمَ، ولِذَلِكَ تُطْلَقُ الجَهالَةُ عَلى الظُّلْمِ. قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
ألا لا يَجْهَلَنَّ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا
وقالَ تَعالى، حِكايَةً عَنْ يُوسُفَ ﴿وإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣] . والمُرادُ هُنا ظُلْمُ النَّفْسِ، وذُكِرَ هَذا القَيْدُ هُنا لِمُجَرَّدِ تَشْوِيهِ عَمَلِ السُّوءِ، فالباءُ لِلْمُلابَسَةِ، إذْ لا يَكُونُ عَمَلُ السُّوءِ إلّا كَذَلِكَ. ولَيْسَ المُرادُ بِالجَهالَةِ ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَهْلِ، وهو انْتِفاءُ العِلْمِ بِما فَعَلَهُ، لِأنَّ ذَلِكَ لا يُسَمّى جَهالَةً. وإنَّما هو مِن مَعانِي لَفْظِ الجَهْلِ، ولَوْ عَمِلَ أحَدٌ مَعْصِيَةً وهو غَيْرُ عالِمٍ بِأنَّها مَعْصِيَةٌ لَمْ يَكُنْ آثِمًا ولا يَجِبُ عَلَيْهِ إلّا أنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ ويَتَجَنَّبَهُ.وقَوْلُهُ: ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ مِن فِيهِ لِلِابْتِداءِ و(قَرِيبٌ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أيْ مِن زَمَنٍ قَرِيبٍ مِن وقْتِ عَمَلِ السُّوءِ.
وتَأوَّلَ بَعْضُهم مَعْنى (مِن قَرِيبٍ) بِأنَّ القَرِيبَ هو ما قَبْلَ الِاحْتِضارِ، وجَعَلُوا قَوْلَهُ بَعْدَهُ ﴿حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ يُبَيِّنُ المُرادَ مِن مَعْنى (قَرِيبٍ) .
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ ومَن بَعْدَهم في إعْمالِ مَفْهُومِ القَيْدَيْنِ بِجَهالَةٍ - ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ حَتّى قِيلَ إنَّ حُكْمَ الآيَةِ مَنسُوخٌ بِآيَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، والأكْثَرُ عَلى أنَّ قَيْدَ بِجَهالَةٍ وصْفٌ كاشِفٌ لِعَمَلِ السُّوءِ؛ لِأنَّ المُرادَ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ الإيمانِ. فَقَدْ رَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: اجْتَمَعَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَرَأوْا أنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهو جَهالَةٌ عَمْدًا كانَ أوْ غَيْرَهُ.
صفحة ٢٧٩
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُما قَيْدانِ ذُكِرا لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ شَأْنَ المُسْلِمِ أنْ يَكُونَ عَمَلُهُ جارِيًا عَلى اعْتِبارِ مَفْهُومِ القَيْدَيْنِ ولَيْسَ مَفْهُوماهُما بِشَرْطَيْنِ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وأنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ إلى ﴿وهم كُفّارٌ﴾ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ إلَخْ، ولا واسِطَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ.وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ الكَلامِ في قَبُولِ التَّوْبَةِ؛ هَلْ هو قَطْعِيٌّ أوْ ظَنِّيٌّ فِيها لِتَفَرُّعِ أقْوالِهِمْ فِيها عَلى أقْوالِهِمْ في مَسْألَةِ وُجُوبِ الصَّلاحِ والأصْلَحِ لِلَّهِ تَعالى ووُجُوبِ العَدْلِ. فَأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقالُوا: التَّوْبَةُ الصّادِقَةُ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِدَلِيلِ العَقْلِ، وأحْسَبُ أنَّ ذَلِكَ يَنْحُونَ بِهِ إلى أنَّ التّائِبَ قَدْ أصْلَحَ حالَهُ، ورَغِبَ في اللِّحاقِ بِأهْلِ الخَيْرِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنهُ ذَلِكَ لَكانَ إبْقاءً لَهُ في الضَّلالِ والعَذابِ، وهو مُنَزَّهٌ عَنْهُ تَعالى عَلى أُصُولِهِمْ، وهَذا إنْ أرادُوهُ كانَ سَفْسَطَةً لِأنَّ النَّظَرَ هُنا في العَفْوِ عَنْ عِقابٍ اسْتَحَقَّهُ التّائِبُ مِن قَبْلِ تَوْبَتِهِ لا في ما سَيَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ.
أمّا عُلَماءُ السُّنَّةِ فافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، هي وإنْ كانَتْ ظَواهِرَ، غَيْرَ أنَّ كَثْرَتَها أفادَتِ القَطْعَ كَإفادَةِ المُتَواتِرِ القَطْعَ مَعَ أنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِن آحادِ المُخْبِرِينَ بِهِ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ، فاجْتِماعُها هو الَّذِي فادَ القَطْعَ، وفي تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالتَّواتُرِ نَظَرٌ، وإلى هَذا ذَهَبَ الأشْعَرِيُّ، والغَزالِيُّ، والرّازِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، ووَلَدُهُ أبُو بَكْرِ بْنُ عَطِيَّةَ، وذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّ القَبُولَ ظَنِّيٌّ لا قَطْعِيٌّ، وهو قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الباقِلّانِيِّ، وإمامِ الحَرَمَيْنِ، والمازِرِيِّ والتَّفْتَزانِيِّ، وشَرَفِ الدِّينِ الفِهْرِيِّ وابْنِ الفُرْسِ في أحْكامِ القُرْآنِ بِناءً عَلى أنَّ كَثْرَةَ الظَّواهِرِ لا تُفِيدُ اليَقِينَ. وهَذا الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمادُهُ نَظَرًا. غَيْرَ أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مِن مَسائِلِ أُصُولِ الدِّينِ فَلِماذا نَطْلُبُ في إثْباتِهِ الدَّلِيلَ القَطْعِيَّ.
والَّذِي أراهُ أنَّهم لَمّا ذَكَرُوا القَبُولَ ذَكَرُوهُ عَلى إجْمالِهِ، فَكانَ اخْتِلافُهُمُ اخْتِلافًا في حالَةٍ، فالقَبُولُ يُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ مَعْنى رِضا اللَّهِ عَنِ التّائِبِ، وإثْباتِهِ في زُمْرَةِ المُتَّقِينَ الصّالِحِينَ، وكَأنَّ هَذا هو الَّذِي نَظَرَ إلَيْهِ المُعْتَزِلَةُ لَمّا قالُوا بِأنَّ قَبُولَها قَطْعِيٌّ عَقْلًا. وفي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا نَظَرٌ واضِحٌ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ أنَّهم قالُوا: إنَّ التَّوْبَةَ
صفحة ٢٨٠
لا تَصِحُّ إلّا بَعْدَ الإقْلاعِ عَنْ سائِرِ الذُّنُوبِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنى صَلاحِهِ. ويُطْلَقُ القَبُولُ ويُرادُ ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ مِن غُفْرانِ الذُّنُوبِ الماضِيَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وهَذا أحْسَبُهم لا يَخْتَلِفُونَ في كَوْنِهِ سَمْعِيًّا لا عَقْلِيًّا، إذِ العَقْلُ لا يَقْتَضِي الصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الفارِطَةِ عِنْدَ الإقْلاعِ عَنْ إتْيانِ أمْثالِها في المُسْتَقْبَلِ، وهَذا هو المُخْتَلَفُ في كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أوْ ظَنِّيًّا، ويُطْلَقُ القَبُولُ عَلى مَعْنى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِن حَيْثُ إنَّها في ذاتِها عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ كُلُّ مُذْنِبٍ، أيْ بِمَعْنى أنَّها إبْطالُ الإصْرارِ عَلى الذُّنُوبِ الَّتِي كانَ مُصِرًّا عَلى إتْيانِها، فَإنَّ إبْطالَ الإصْرارِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأنَّهُ مِن ذُنُوبِ القَلْبِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ القَلْبِ مِنهُ، فالتّائِبُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ يُعْتَبَرُ مُمْتَثِّلًا لِأمْرٍ شَرْعِيٍّ، فالقَبُولُ بِهَذا المَعْنى قَطْعِيٌّ لِأنَّهُ صارَ بِمَعْنى الإجْزاءِ. ونَحْنُ نَقْطَعُ بِأنَّ مَن أتى عَمَلًا مَأْمُورًا بِهِ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ كانَ عَمَلًا مَقْبُولًا بِمَعْنى ارْتِفاعِ آثارِ النَّهْيِ عَنْهُ، ولَكِنْ بِمَعْنى الظَّنِّ في حُصُولِ الثَّوابِ عَلى ذَلِكَ. ولَعَلَّ هَذا المَعْنى هو الَّذِي نَظَرَ إلَيْهِ الغَزالِيُّ إذْ قالَ في كِتابِ التَّوْبَةِ إنَّكَ إذا فَهِمْتَ مَعْنى القَبُولِ لَمْ تَشُكَّ في أنَّ كُلَّ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ هي مَقْبُولَةٌ؛ إذِ القَلْبُ خُلِقَ سَلِيمًا في الأصْلِ، إذْ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وإنَّما تَفُوتُهُ السَّلامَةُ بِكَدِرَةٍ تُرْهِقُهُ مِن غَبَرَةِ الذُّنُوبِ، وأنَّ نُورَ النَّدَمِ يَمْحُو عَنِ القَلْبِ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَما يَمْحُو الماءُ والصّابُونُ عَنِ الثَّوْبِ الوَسَخَ. فَمَن تَوَهَّمَ أنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ ولا تُقْبَلُ كَمَن تَوَهَّمَ أنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ والظَّلامُ لا يَزُولُ، أوْ أنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ والوَسَخُ لا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التّائِبُ بِاللِّسانِ: تُبْتُ. ولا يُقْلِعُ. فَذَلِكَ كَقَوْلِ القَصّارِ بِلِسانِهِ: غَسَلْتُ الثَّوْبَ. وهو لَمْ يَغْسِلْهُ، فَذَلِكَ لا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ. وهَذا الكَلامُ تَقْرِيبٌ إقْناعِيٌّ. وفي كَلامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأنّا إنَّما نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثابِتَةٍ هَلْ حَدَثانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوها.والإشارَةُ في المُسْنَدِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ لِلتَّنْبِيهِ عَلى اسْتِحْضارِهِمْ بِاعْتِبارِ الأوْصافِ المُتَقَدِّمَةِ البالِغَةِ غايَةَ الخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعالى والمُبادَرَةِ إلى طَلَبِ مَرْضاتِهِ، لِيُعْرَفَ أنَّهم أحْرِياءُ بِمَدْلُولِ المُسْنَدِ الوارِدِ بَعْدَ الإشارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] والمَعْنى: هَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنهم، وهو تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ إلى آخِرِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ إلَخْ تَنْبِيهٌ عَلى نَفْيِ القَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وهي الَّتِي
صفحة ٢٨١
تَكُونُ عِنْدَ اليَأْسِ مِنَ الحَياةِ لِأنَّ المَقْصِدَ مِنَ العَزْمِ تَرَتُّبُ آثارِهِ عَلَيْهِ وصَلاحُ الحالِ في هَذِهِ الدّارِ بِالِاسْتِقامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإذا وقَعَ اليَأْسُ مِنَ الحَياةِ ذَهَبَتْ فائِدَةُ التَّوْبَةِ.وقَوْلُهُ: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ وعَطْفُ (الكُفّارِ) عَلى العُصاةِ في شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنهم لِأنَّ إيمانَ الكافِرِ تَوْبَةٌ مِن كُفْرِهِ، والإيمانَ أشْرَفُ أنْواعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أنَّ الكافِرَ إذا ماتَ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الكُفْرِ.
ولِلْعُلَماءِ في تَأْوِيلِهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما الأخْذُ بِظاهِرِهِ وهو أنْ لا يَحُولَ بَيْنَ الكافِرِ وبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الكُفْرِ بِالإيمانِ إلّا حُصُولُ المَوْتِ، وتَأوَّلُوا مَعْنى ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأنَّ المُرادَ بِها نَدَمُهُ يَوْمَ القِيامَةِ إذا ماتَ كافِرًا، ويُؤْخَذُ مِنهُ أنَّهُ إذا آمَنَ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ قُبِلَ إيمانُهُ، وهو الظّاهِرُ، فَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ: «أنَّ أبا طالِبٍ لَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ ﷺ وعِنْدَهُ أبُو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أبِي أُمَيَّةَ فَقالَ: أيْ عَمِّ قُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ اللَّهِ. فَقالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ: أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَكانَ آخِرُ ما قالَ أبُو طالِبٍ أنَّهُ عَلى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقالَ النَّبِيءُ: لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَنَزَلَتْ ﴿ما كانَ لِلنَّبِيءِ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهم أنَّهم أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة»: ١١٣] ويُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ (﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾) بِالمُغايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: (﴿حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾) الآيَةَ، وقَوْلِهِ: (﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾) وعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ المُؤْمِنِ العاصِي أنَّ الإيمانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، ونُطْقٌ لِسانِيٌّ، وقَدْ حَصَلَ مِنَ الكافِرِ التّائِبِ وهو حَيٌّ، فَدَخَلَ في جَماعَةِ المُسْلِمِينَ وتَقَوّى بِهِ جانِبُهم وفَشَتْ بِإيمانِهِ سُمْعَةُ الإسْلامِ بَيْنَ أهْلِ الكُفْرِ.
ثانِيهِما: أنَّ الكافِرَ، والعاصِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ سَواءٌ في عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمّا هُما عَلَيْهِ، إذا حَضَرَهُما المَوْتُ. وتَأوَّلُوا قَوْلَهُ: (﴿يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾) بِأنَّ مَعْناهُ يُشْرِفُونَ عَلى المَوْتِ عَلى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا. أيْ لَوْ أشْرَفُوا عَلى أنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. والدّاعِي إلى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الكَلامِ لِأنَّ (لا) عاطِفَةٌ عَلى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ المَنفِيَّةِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ
صفحة ٢٨٢
فَيَتُوبُونَ، ولا تُعْقَلُ تَوْبَةٌ بَعْدَ المَوْتِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ (يَمُوتُونَ) بِمَعْنى يُشْرِفُونَ كَقَوْلِهِ: والَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةً لِأزْواجِهِمْ. واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى في حَقِّ فِرْعَوْنَ حَتّى إذا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ: ﴿آمَنتُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠] ﴿الآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٩١] المُفِيدُ أنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ إيمانَهُ ساعَتَئِذٍ. وقَدْ يُجابُ عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ بِأنَّ شَأْنَ اللَّهِ في الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ العَذابُ أنَّهُ لا يَنْفَعُهُمُ الإيمانُ بَعْدَ نُزُولِ العَذابِ إلّا قَوْمَ يُونُسَ قالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨] فالغَرَقُ عَذابٌ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فِرْعَوْنَ وجُنْدَهُ.قالَ ابْنُ الفُرْسِ، في أحْكامِ القُرْآنِ: وإذا صَحَّتْ تَوْبَةُ العَبْدِ فَإنْ كانَتْ عَنِ الكُفْرِ قَطَعْنا بِقَبُولِها، وإنْ كانَتْ عَنْ سِواهُ مِنَ المَعاصِي؛ فَمِنَ العُلَماءِ مَن يَقْطَعُ بِقَبُولِها، ومِنهم مَن لَمْ يَقْطَعْ ويَظُنَّهُ ظَنًّا. اهـ.