صفحة ٢٢

﴿يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ .

أعْقَبَ الِاعْتِذارَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٦] بِالتَّذْكِيرِ بِأنَّ اللَّهَ لا يَزالُ مُراعِيًا رِفْقَهُ بِهَذِهِ الأُمَّةِ وإرادَتِهِ بِها اليُسْرَ دُونَ العُسْرِ، إشارَةً إلى أنَّ هَذا الدِّينَ بَيَّنَ حِفْظَ المَصالِحِ ودَرْءَ المَفاسِدِ، في أيْسَرِ كَيْفِيَّةٍ وأرْفَقِها، فَرُبَّما ألْغَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْضَ المَفاسِدِ إذا كانَ في الحَمْلِ عَلى تَرْكِها مَشَقَّةٌ أوْ تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ، كَما ألْغَتْ مَفاسِدَ نِكاحِ الإماءِ نَظَرًا لِلْمَشَقَّةِ عَلى غَيْرِ ذِي الطَّوْلِ. والآياتُ الدّالَّةُ عَلى هَذا المَعْنى بَلَغَتْ مَبْلَغَ القَطْعِ كَقَوْلِهِ وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ. وقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وقَوْلِهِ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ هَذا الدِّينَ يُسْرٌ ولَنْ يُشادَّ هَذا الدِّينَ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ»، وكَذَلِكَ كانَ يَأْمُرُ أصْحابَهُ الَّذِينَ يُرْسِلُهم إلى بَثِّ الدِّينِ؛ فَقالَ لِمُعاذٍ وأبِي مُوسى: «يَسِّرا ولا تُعَسِّرا» وقالَ «إنَّما بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ لا مُنَفِّرِينَ» . وقالَ لِمُعاذٍ لَمّا شَكا بَعْضُ المُصَلِّينَ خَلْفَهُ مِن تَطْوِيلِهِ «أفَتّانٌ أنْتَ» . فَكانَ التَّيْسِيرُ مِن أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ، وعَنْهُ تَفَرَّعَتِ الرُّخَصُ بِنَوْعَيْها.

وقَوْلُهُ: ﴿وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ تَذْيِيلٌ وتَوْجِيهٌ لِلتَّخْفِيفِ، وإظْهارٌ لِمَزِيَّةِ هَذا الدِّينِ وأنَّهُ ألْيَقُ الأدْيانِ بِالنّاسِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، ولِذَلِكَ فَما مَضى مِنَ الأدْيانِ كانَ مُراعًى فِيهِ حالٌ دُونَ حالٍ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] الآيَةَ في سُورَةِ الأنْفالِ. وقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّعْفَ هُنا بِأنَّهُ الضَّعْفُ مِن جِهَةِ النِّساءِ. قالَ طاوُسٌ لَيْسَ يَكُونُ الإنْسانُ في شَيْءٍ أضْعَفَ مِنهُ في أمْرِ النِّساءِ. ولَيْسَ مُرادُهُ حَصْرَ مَعْنى الآيَةِ فِيهِ، ولَكِنَّهُ مِمّا رُوعِيَ في الآيَةِ لا مَحالَةَ، لِأنَّ مِنَ الأحْكامِ المُتَقَدِّمَةِ ما هو تَرْخِيصٌ في النِّكاحِ.