Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ١٢٩
﴿وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ .يَتَعَيَّنُ عَلى المُخْتارِ مِمّا رُوِيَ في تَعْيِينِ الفَرِيقِ الَّذِينَ ذُكِرُوا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧] مِن أنَّهم فَرِيقٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُهاجِرِينَ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ ﴿وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ﴾ عائِدًا إلى المُنافِقِينَ؛ لِأنَّهم مَعْلُومُونَ مِنَ المَقامِ، ولِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ في قَوْلِهِ ﴿وإنَّ مِنكم لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] وتَكُونُ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَطْفَ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ، فَإنَّ ما حُكِيَ في هَذِهِ الآيَةِ لا يَلِيقُ إلّا بِالمُنافِقِينَ.
ويَكُونُ الغَرَضُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلى القِتالِ إلى وصْفِ الَّذِينَ لا يَسْتَجِيبُونَ إلى القِتالِ لِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِما يُبَلِّغُهُمُ النَّبِيءُ ﷺ مِن وعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ المُؤْمِنِينَ.
وأمّا عَلى رِوايَةِ السُّدِّيِّ فَيُحْتَمَلُ أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسْلامِ حَدِيثًا مِن قَبائِلِ العَرَبِ كانُوا عَلى شَفا الشَّكِّ فَإذا حَلَّ بِهِمْ سُوءٌ أوْ بُؤْسٌ تَطَيَّرُوا بِالإسْلامِ فَقالُوا: هَذِهِ الحالَةُ السُّوأى مِن شُؤْمِ الإسْلامِ.
وقَدْ قِيلَ: إنَّ بَعْضَ الأعْرابِ كانَ إذا أسْلَمَ وهاجَرَ إلى المَدِينَةِ فَنَمَتْ أنْعامُهُ ورَفُهَتْ حالُهُ حَمِدَ الإسْلامَ، وإذا أصابَهُ مَرَضٌ أوْ مَوَتانٌ في أنْعامِهِ تَطَيَّرَ بِالإسْلامِ فارْتَدَّ عَنْهُ، ومِنهُ حَدِيثُ الأعْرابِيِّ الَّذِي أصابَتْهُ الحُمّى في المَدِينَةِ فاسْتَقالَ مِنَ النَّبِيءِ بَيْعَتَهُ وقالَ النَّبِيءُ ﷺ في شَأْنِهِ «المَدِينَةُ كالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَها ويَنْصَعُ طِيبُها» .
والقَوْلُ المُرادُ في قَوْلِهِ ﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ هو قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَجْتَرِئُونَ عَلى أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَنًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهم يُظْهِرُونَ الإيمانَ بِهِ.
أوْ هو قَوْلٌ يَقُولُونَهُ بَيْنَ إخْوانِهِمْ مِنَ المُنافِقِينَ،
صفحة ١٣٠
يَقُولُونَ: هَذِهِ مِن عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الإتْيانُ بِكافِ الخِطابِ مِن قَبِيلِ حِكايَةِ كَلامِهِمْ بِحاصِلِ مَعْناهُ عَلى حَسَبِ مَقامِ الحاكِي والمَحْكِيِّ لَهُ، وهو وجْهٌ مَطْرُوقٌ في حِكايَةِ كَلامِ الغائِبِ عَنِ المُخاطَبِ إذا حَكى كَلامَهُ لِذَلِكَ المُخاطَبِ.ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ عِيسى ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧] . والمَأْمُورُ بِهِ هو: أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ ورَبَّهم. ووَرَدَ أنَّ قائِلَ ذَلِكَ هُمُ اليَهُودُ، فالضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ في الكَلامِ السّابِقِ، لِأنَّ المَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ في وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ.
وقَدِيمًا قِيلَ لِأسْلافِهِمْ ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] . والمُرادُ بِالحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ هُنا ما تَعارَفَهُ العَرَبُ مِن قِبَلِ اصْطِلاحِ الشَّرِيعَةِ أعْنِي الكائِنَةِ المُلائِمَةِ والكائِنَةِ المُنافِرَةِ، كَقَوْلِهِ ﴿فَإذا جاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قالُوا لَنا هَذِهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] .
وقَوْلُهُ ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١]، وتَعَلُّقُ فِعْلِ الإصابَةِ بِهِما دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ، أمّا الحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلاحِ الشَّرْعِيِّ، أعْنِي الفِعْلَ المُثابَ عَلَيْهِ والفِعْلَ المُعاقَبَ عَلَيْهِ، فَلا مَحْمَلَ لَهُما هُنا إذْ لا يَكُونانِ إصابَتَيْنِ، ولا تُعْرَفُ إصابَتُهُما لِأنَّهُما اعْتِبارانِ شَرْعِيّانِ.
قِيلَ: كانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ: لَمّا جاءَ مُحَمَّدٌ المَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمارُ، وغَلَتِ الأسْعارُ. فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالمَدِينَةِ هو المُؤَثِّرُ في حُدُوثِ السَّيِّئاتِ، وأنَّهُ لَوْلاهُ لَكانَتِ الحَوادِثُ كُلُّها جارِيَةً عَلى ما يُلائِمُهم.
ولِذَلِكَ جِيءَ في حِكايَةِ كَلامِهِمْ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهم أرادُوا هَذا المَعْنى، وهو كَلِمَةُ ”عِنْدَ“ في المَوْضِعَيْنِ: ﴿هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾، إذِ العِنْدِيَّةُ هُنا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ في التَّعْبِيرِ، فَإذا كانَ ما جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ مَعْناهُ مِن تَقْدِيرِهِ وتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُساوِيهِ وهو ما جاءَ مِن عِنْدِ الرَّسُولِ.
وفِي البُخارِيِّ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ فَإنْ ولَدَتِ امْرَأتُهُ غُلامًا ونُتِجَتْ خَيْلُهُ قالَ: هَذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأتُهُ ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قالَ: هَذا دِينُ سُوءٍ»، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِن مُهاجِرَةِ العَرَبِ: يَقُولُونَهُ إذا أرادُوا الِارْتِدادَ وهم أهْلُ جَفاءٍ وغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَن شافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ ﴿هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ .
ومَعْنى ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ في اعْتِقادِهِمْ أنَّهُ الَّذِي ساقَها إلَيْهِمْ وأتْحَفَهم بِها لِما هو مُعْتادُهُ مِنَ الإكْرامِ لَهم، وخاصَّةً إذا كانَ قائِلُ ذَلِكَ اليَهُودَ. ومَعْنى ”﴿مِن عِنْدِكَ﴾“ أيْ مِن شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأنَّ اللَّهَ لا يُعامِلُهم إلّا بِالكَرامَةِ، ولَكِنَّهُ صارَ يَتَخَوَّلَهم بِالإساءَةِ لِقَصْدِ أذى المُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الإساءَةُ اليَهُودَ مِن جَرّاءِ المُسْلِمِينَ عَلى حَدِّ ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً﴾ [الأنفال: ٢٥] الآيَةَ.
صفحة ١٣١
وقَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ أنْ يُجِيبَ بِأنَّ كُلًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ، لِأنَّهُ لا مَعْنى لَكَوْنِ شَيْءٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ إلّا أنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ وهَيَّأ أسْبابَهُ، إذْ لا يَدْفَعُهم إلى الحَسَناتِ مُباشَرَةً.وإنْ كانَ كَذَلِكَ فَكَما أنَّ الحَسَنَةَ مِن عِنْدِهِ، فَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ بِهَذا المَعْنى بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمّا أرادَهُ بِالإحْسانِ والإساءَةِ، والتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما مِن هَذِهِ الجِهَةِ لا تَصْدُرُ إلّا عَنْ عَقْلٍ غَيْرِ مُنْضَبِطِ التَّفْكِيرِ، لِأنَّهم جَعَلُوا الحَوادِثَ مِنَ اللَّهِ وبَعْضَها مِن غَيْرِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قالَ ﴿فَما لِهَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ أيْ يَكادُونَ أنْ لا يَفْقَهُوا حَدِيثًا، أيْ أنْ لا يَفْقَهُوا كَلامَ مَن يُكَلِّمُهم. وهَذا مَدْلُولُ فِعْلِ (كادَ) إذا وقَعَ في سِياقِ النَّفْيِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] .
والإصابَةُ: حُصُولُ حالٍ أوْ ذاتٍ في ذاتٍ، يُقالُ: أصابَهُ مَرَضٌ، وأصابَتْهُ نِعْمَةٌ، وأصابَهُ سَهْمٌ، وهي، مُشْتَقَّةٌ مِنَ اسْمِ الصَّوْبِ الَّذِي هو المَطَرُ، ولِذَلِكَ كانَ ما يَتَصَرَّفُ مِنَ الإصابَةِ مُشْعِرًا بِحُصُولٍ مُفاجِئٍ أوْ قاهِرٍ.
وبَعْدَ أنْ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِما يُجِيبُ بِهِ هَؤُلاءِ الضّالِّينَ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ التَّفْصِيلِ في إصابَةِ الحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ مِن جِهَةِ تَمَحُّضِ النِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى أوِ اخْتِلاطِها بِالِانْتِسابِ إلى العَبْدِ، فَقالَ ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ . ووُجِّهَ الخِطابُ لِلرَّسُولِ لِأنَّهُ المُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، ولِأنَّ هَذا الجَوابَ لِإبْطالِ ما نَسَبَهُ الضّالُّونَ إلَيْهِ مِن كَوْنِهِ مَصْدَرَ السَّيِّئاتِ الَّتِي تُصِيبُهم.
واعْلَمْ أنَّ لِلْحَوادِثِ كُلِّها مُؤَثِّرًا، وسَبَبًا مُقارِنًا، وأدِلَّةً تُنْبِئُ عَنْها وعَنْ عَواقِبِها، فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أشْياءَ لا تَخْلُو عَنْها الحَوادِثُ كُلُّها، سَواءٌ كانَتْ غَيْرَ اخْتِيارِيَّةٍ، أمِ اخْتِيارِيَّةً كَأفْعالِ العِبادِ. فاللَّهُ قَدَّرَ المَنافِعَ والمَضارَّ بِعِلْمِهِ وقَدَرِهِ وخَلَقَ مُؤَثِّراتِها وأسْبابَها، فَهَذا الجُزْءُ لِلَّهِ وحْدَهُ لِقَوْلِهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ .
واللَّهُ أقامَ بِالألْطافِ المَوْجُوداتِ، فَأوْجَدَها ويَسَّرَ لَها أسْبابَ البَقاءِ والِانْتِفاعِ بِما أوْدَعَ فِيها مِنَ العُقُولِ والإلْهاماتِ، وحَفَّها كُلَّها في سائِرِ أحْوالِها بِألْطافٍ كَثِيرَةٍ، لَوْلاها لَما بَقِيَتِ الأنْواعُ، وساقَ إلَيْها أُصُولَ المُلاءَمَةِ، ودَفَعَ عَنْها أسْبابَ الآلامِ في الغالِبِ، فاللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ. فَهَذا الجُزْءُ لِلَّهِ وحْدَهُ لِقَوْلِهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ .
صفحة ١٣٢
واللَّهُ نَصَبَ الأدِلَّةَ لِلنّاسِ عَلى المَنافِعِ والمَضارِّ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِمُخْتَلِفِ الأدِلَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، والعَقْلِيَّةِ، والعادِيَّةِ، والشَّرْعِيَّةِ، وعَلَّمَ طَرائِقَ الوُصُولِ إلَيْها، وطَرائِقَ الحَيْدَةِ عَنْها، وأرْشَدَ إلى مَوانِعِ التَّأْثِيرِ لِمَن شاءَ أنْ يُمانِعَها، وبَعَثَ الرُّسُلَ وشَرَعَ الشَّرائِعَ فَعَلَّمَنا بِذَلِكَ كُلِّهِ أحْوالَ الأشْياءِ ومَنافِعَها ومَضارَّها، وعَواقِبَ ذَلِكَ الظّاهِرَةَ والخَفِيَّةَ، في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَأكْمَلَ المِنَّةَ، وأقامَ الحُجَّةَ، وقَطَعَ المَعْذِرَةَ، فَهَدى بِذَلِكَ وحَذَّرَ إذْ خَلَقَ العُقُولَ ووَسائِلَ المَعارِفِ، ونَمّاها بِالتَّفْكِيراتِ والإلْهاماتِ، وخَلَقَ البَواعِثَ عَلى التَّعْلِيمِ والتَّعَلُّمِ، فَهَذا الجُزْءُ أيْضًا لِلَّهِ وحْدَهُ.وأمّا الأسْبابُ المُقارِنَةُ لِلْحَوادِثِ الحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ والجانِيَةِ لِجَناها حِينَ تُصِيبُ الإنْسانَ مِنَ الِاهْتِداءِ إلى وسائِلِ مُصادَفَةِ المَنافِعِ، والجَهْلِ بِتِلْكَ الوَسائِلِ، والإغْضاءِ عَنْ مَوانِعَ الوُقُوعِ فِيها في الخَيْرِ والشَّرِّ، فَذَلِكَ بِمِقْدارِ ما يُحَصِّلُهُ الإنْسانُ مِن وسائِلِ الرَّشادِ، وبِاخْتِيارِهِ الصّالِحَ لِاجْتِناءِ الخَيْرِ، ومِقْدارِ ضِدِّ ذَلِكَ: مِن غَلَبَةِ الجَهْلِ، أوْ غَلَبَةِ الهَوى، ومِنَ الِارْتِماءِ في المَهالِكِ بِدُونِ تَبَصُّرٍ.
وذَلِكَ جُزْءٌ صَغِيرٌ في جانِبِ الأجْزاءِ الَّتِي قَدَّمْناها، وهَذا الجُزْءُ جَعَلَ اللَّهُ لِلْإنْسانِ حَظًّا فِيهِ، مَلَّكَهُ إيّاهُ، فَإذا جاءَتِ الحَسَنَةُ أحَدًا فَإنَّ مَجِيئَها إيّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى لا مَحالَةَ مِمّا لا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أوْ بِما أرْشَدَ اللَّهُ بِهِ العَبْدَ حَتّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِناءِ الحَسَنَةِ، أيِ الشَّيْءِ المُلائِمِ، وخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدادَهُ لِاخْتِيارِ الصّالِحِ فِيما لَهُ فِيهِ اخْتِيارٌ مِنَ الأفْعالِ النّافِعَةِ حَسْبَما أرْشَدَهُ اللَّهُ تَعالى، فَكانَتِ المِنَّةُ فِيها لِلَّهِ وحْدَهُ، إذْ لَوْلا لُطْفُهُ وإرْشادُهُ وهَدْيُهُ، لَكانَ الإنْسانُ في حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أنَّ الحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأنَّ أعْظَمَ الأسْبابِ أوْ كُلَّها مِنهُ.
أمّا السَّيِّئَةُ فَإنَّها وإنْ كانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعالى، ولَكِنَّ إصابَةَ مُعْظَمِها الإنْسانَ يَأْتِي مِن جَهْلِهِ، أوْ تَفْرِيطِهِ، أوْ سُوءِ نَظَرِهِ في العَواقِبِ، أوْ تَغْلِيبِ هَواهُ عَلى رُشْدِهِ، وهُنالِكَ سَيِّئاتُ الإنْسانِ مِن غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ ما أصابَ الأُمَمَ مِن خَسْفٍ وأوْبِئَةٍ، وذَلِكَ نادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأكْثَرِ السَّيِّئاتِ، عَلى أنَّ بَعْضًا مِنهُ كانَ جَزاءً عَلى سُوءِ فِعْلٍ، فَلا جَرَمَ كانَ الحَظُّ الأعْظَمُ في إصابَةِ السَّيِّئَةِ الإنْسانَ لِتَسَبُّبِهِ مُباشَرَةً أوْ بِواسِطَةٍ، فَصَحَّ أنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَها إلَيْهِ، لِأنَّ الجُزْءَ الَّذِي هو لِلَّهِ وحْدَهُ مِنها هو الأقَلُّ.
وقَدْ فَسَّرَ هَذا المَعْنى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ، فَفي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «لا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَما فَوْقَها أوْ ما دُونَها إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو اللَّهُ أكْثَرُ» .
صفحة ١٣٣
وشَمَلَتِ الحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ ما كانَ مِنَ الأعْيانِ، كالمَطَرِ والصَّواعِقِ، والثَّمَرَةِ والجَرادِ، وما كانَ مِنَ الأعْراضِ كالصِّحَّةِ، وهُبُوبِ الصَّبا، والرِّبْحِ في التِّجارَةِ. وأضْدادِها كالمَرَضِ، والسَّمُومِ المُهْلِكَةِ، والخَسارَةِ.وفِي هَذا النَّوْعِ كانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ويَلْحَقُ بِذَلِكَ ما هو مِن أفْعالِ العِبادِ كالطّاعاتِ النّافِعَةِ لِلطّائِعِ وغَيْرِهِ، والمَعاصِي الضّارَّةِ بِهِ وبِالنّاسِ، وفي هَذا الأمْرِ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإنَّما أضِلُّ عَلى نَفْسِي وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي﴾ [سبإ: ٥٠] وهو عَلى نَحْوِ هَذِهِ الآيَةِ وإنْ لَمْ تَكُنْ نازِلَةً فِيهِ.
ولِكَوْنِ هَذِهِ القَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعانِي الخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ ﴿فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ .
فَقَوْلُهُ ﴿لا يَكادُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جارِيًا عَلى نَظائِرِهِ مِنَ اعْتِبارِ القَلْبِ، أيْ يَكادُونَ لا يَفْقَهُونَ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقاءٌ عَلَيْهِمْ في المَذَمَّةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى أصْلِ وضْعِ التَّرْكِيبِ، أيْ لا يُقارِبُونَ فَهْمَ الحَدِيثِ الَّذِي لا يَعْقِلُهُ إلّا الفُطَناءُ، فَيَكُونُ أشَدَّ في المَذَمَّةِ.
والفِقْهُ فَهْمُ ما يَحْتاجُ إلى إعْمالِ فِكْرٍ. قالَ الرّاغِبُ: هو التَّوَصُّلُ إلى عِلْمٍ غائِبٍ بِعِلْمٍ شاهِدٍ، وهو أخَصُّ مِنَ العِلْمِ. وعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأنَّهُ إدْراكُ الأشْياءِ الخَفِيَّةِ.
والخِطابُ في قَوْلِهِ ﴿ما أصابَكَ﴾ خِطابٌ لِلرَّسُولِ، وهَذا هو الألْيَقُ بِتَناسُقِ الضَّمائِرِ، ثُمَّ يُسَلَّمُ أنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ في ذَلِكَ.
وقَدْ شاعَ الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى عَلى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾، كَما شاعَ اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ بِها عَلى أنَّ اللَّهَ لا يَخْلُقُ المَعْصِيَةَ والشَّرَّ لِقَوْلِهِ ﴿وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ . وقالَ أبُو الحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ المالِكِيُّ في كِتابِ حَزِّ الغَلاصِمِ: إنَّ الِاحْتِجاجَ بِها في كِلا الأمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنائِهِ عَلى تَوَهُّمِ أنَّ الحَسَنَةَ والسَّيِّئَةَ هي الطّاعَةُ والمَعْصِيَةُ، ولَيْسَتا كَذَلِكَ.
وأنا أقُولُ: إنَّ أهْلَ السُّنَّةِ ما اسْتَدَلُّوا بِها إلّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلالِ المُعْتَزِلَةِ بِها عَلى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسابِ الخَيْرِ والشَّرِّ عَلى أنَّ عُمُومَ مَعْنى الحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ كَما بَيَّنْتُهُ
صفحة ١٣٤
آنِفًا يَجْعَلُ الآيَةَ صالِحَةً لِلِاسْتِدْلالِ، وهو اسْتِدْلالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِأنَّ أُصُولَ الدِّينِ لا يُسْتَدَلُّ فِيها بِالظَّواهِرِ كالعُمُومِ.وجِيءَ في حِكايَةِ قَوْلِهِمْ ﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ بِكَلِمَةٍ ”عِنْدَ“ لِلدَّلالَةِ عَلى قُوَّةِ نِسْبَةِ الحَسَنَةِ إلى اللَّهِ ونِسْبَةِ السَّيِّئَةِ لِلنَّبِيءِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - أيْ قالُوا ما يُفِيدُ جَزْمَهم بِذَلِكَ الِانْتِسابِ.
ولَمّا أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يُجِيبَهم قالَ ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ مُشاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ، وإعْرابًا عَنِ التَّقْدِيرِ الأزَلِيِّ عِنْدَ اللَّهِ.
وأمّا قَوْلُهُ ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهِ بِكَلِمَةِ: ”عِنْدَ“ إيماءً إلى أنَّ ابْتِداءَ مَجِيءِ الحَسَنَةِ مِنَ اللَّهِ، ومَجِيءِ السَّيِّئَةِ مِن نَفْسِ المُخاطَبِ ابْتِداءُ المُتَسَبِّبِ لِسَبَبِ الفِعْلِ، ولَيْسَ ابْتِداءَ المُؤَثِّرِ في الأثَرِ.
وقَوْلُهُ ﴿وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ لِلرَّدِّ عَلى قَوْلِهِمْ: السَّيِّئَةُ مِن عِنْدِ مُحَمَّدٍ، أيْ أنَّكَ بُعِثْتَ مُبَلِّغًا شَرِيعَةً وهادِيًا، ولَسْتَ مُؤَثِّرًا في الحَوادِثِ، ولا تَدُلُّ مُقارَنَةُ الحَوادِثِ المُؤْلِمَةِ عَلى عَدَمِ صِدْقِ الرِّسالَةِ. فَمَعْنى أرْسَلْناكَ بَعَثْناكَ كَقَوْلِهِ ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ﴾ [الحجر: ٢٢] ونَحْوِهِ.
و”لِلنّاسِ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”أرْسَلْناكَ“ وقَوْلُهُ ”رَسُولًا“ حالٌ مِن ”أرْسَلْناكَ“، والمُرادُ بِالرَّسُولِ هُنا مَعْناهُ الشَّرْعِيُّ المَعْرُوفُ عِنْدَ أهْلِ الأدْيانِ: وهو النَّبِيءُ المُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعالى، فَهو لَفْظٌ لَقَبِيٌّ دالٌّ عَلى هَذا المَعْنى، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ اسْمَ المَفْعُولِ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ ولِهَذا حَسُنَ مَجِيئُهُ حالًا مُقَيِّدَةً لِـ ”أرْسَلْناكَ“، لِاخْتِلافِ المَعْنَيَيْنِ، أيْ بَعَثْناكَ مُبَلِّغًا لا مُؤَثِّرًا في الحَوادِثِ، ولا أمارَةً عَلى وُقُوعِ الحَوادِثِ السَّيِّئَةِ.
وبِهَذا يَزُولُ إشْكالُ مَجِيءِ هَذِهِ الحالِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ إلّا التَّأْكِيدَ، حَتّى احْتاجُوا إلى جَعْلِ المَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِـ ”رَسُولًا“، وأنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ دَلالَةً عَلى الحَصْرِ بِاعْتِبارِ العُمُومِ المُسْتَفادِ مِنَ التَّعْرِيفِ، كَما في الكَشّافِ، أيْ لِجَمِيعِ النّاسِ لا لِبَعْضِهِمْ، وهو تَكَلُّفٌ لا داعِيَ إلَيْهِ، ولَيْسَ المَقامُ مَقامُ هَذا الحَصْرِ.