﴿مَن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنها ومَن يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنها وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ .

اسْتِئْنافٌ فِيهِ مَعْنى التَّذْيِيلِ والتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ ﴿لا تُكَلَّفُ إلّا نَفْسَكَ وحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ٨٤] وهو بِشارَةٌ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِأنَّ جِهادَ المُجاهِدِينَ بِدَعْوَتِهِ يَنالُهُ مِنهُ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الأجْرِ، فَإنَّ تَحْرِيضَهُ إيّاهم وساطَةٌ بِهِمْ في خَيْراتٍ عَظِيمَةٍ، فَجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِهَذا الحُكْمِ العامِّ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في انْتِهازِ فُرَصِ الإرْشادِ.

ويُعْلَمُ مِن عُمُومِها أنَّ التَّحْرِيضَ عَلى القِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الشَّفاعَةِ الحَسَنَةِ، وأنَّ سَعْيَ المُثَبِّطِينَ لِلنّاسِ مِن قَبِيلِ الشَّفاعَةِ السَّيِّئَةِ، فَجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ إيذانًا لِلْفَرِيقَيْنِ بِحالَتِهِما. والمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ في التَّوَسُّطِ في الخَيْرِ والتَّرْهِيبُ مِن ضِدِّهِ.

والشَّفاعَةُ: الوَساطَةُ في إيصالِ خَيْرٍ أوْ دَفْعِ شَرٍّ، سَواءٌ كانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ المُنْتَفِعِ أمْ لا، وتَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ﴾ [البقرة: ٤٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وفي الحَدِيثِ «اشْفَعُوا

صفحة ١٤٤

فَلْتُؤْجَرُوا» .

ووَصْفُها بِالحَسَنَةِ وصْفٌ كاشِفٌ؛ لِأنَّ الشَّفاعَةَ لا تُطْلَقُ إلّا عَلى الوَساطَةِ في الخَيْرِ، وأمّا إطْلاقُ الشَّفاعَةِ عَلى السَّعْيِ في جَلْبِ شَرٍّ فَهو مُشاكَلَةٌ، وقَرِينَتُها وصْفُها بِسَيِّئَةٍ، إذْ لا يُقالُ شَفَعَ لِلَّذِي سَعى بِجَلْبِ سُوءٍ.

والنَّصِيبُ: الحَظُّ مِن كُلِّ شَيْءٍ: خَيْرًا كانَ أوْ شَرًّا، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾ [البقرة: ٢٠٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والكِفْلُ بِكَسْرِ الكافِ وسُكُونِ الفاءِ الحَظُّ كَذَلِكَ، ولَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وجْهُ اشْتِقاقِهِ بِوُضُوحٍ. ويُسْتَعْمَلُ الكِفْلُ بِمَعْنى المِثْلُ، فَيُؤْخَذُ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ أنَّ الكِفْلَ هو الحَظُّ المُماثِلُ لِحَظٍّ آخَرَ.

وقالَ صاحِبُ اللِّسانِ: لا يُقالُ هَذا كِفْلُ فُلانٍ حَتّى يَكُونَ قَدْ هُيِّئَ لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ، ولَمْ يَعْزُ هَذا، ونَسَبَهُ الفَخْرُ إلى ابْنِ المُظَفَّرِ، ولَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أحَدٌ غَيْرَ هَذَيْنِ فِيما عَلِمْتُ، ولَعَلَّهُ لا يُساعِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمالُ. وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ.

وهَلْ يُحْتَجُّ بِما قالَهُ ابْنُ المُظَفَّرِ وابْنُ المُظَفَّرِ هو مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ المُظَفَّرِ الحاتِمِيُّ الأدِيبُ مُعاصِرُ المُتَنَبِّي. وفي مُفْرَداتِ الرّاغِبِ أنَّ الكِفْلَ هو الحَظُّ مِنَ الشَّرِّ والشِّدَّةِ، وأنَّهُ مُسْتَعارٌ مِنَ الكِفْلِ وهو الشَّيْءُ الرَّدِيءُ، فالجَزاءُ في جانِبِ الشَّفاعَةِ الحَسَنَةِ بِأنَّهُ نَصِيبٌ إيماءً إلى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أجْرٌ أكْثَرُ مِن ثَوابِ مَن شَفَعَ عِنْدَهُ.

وجُمْلَةُ ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿مَن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً﴾ الآيَةَ، لِإفادَةِ أنَّ اللَّهَ يُجازِي عَلى كُلِّ عَمَلٍ بِما يُناسِبُهُ مِن حُسْنٍ أوْ سُوءٍ.

والمُقِيتُ: الحافِظُ، والرَّقِيبُ، والشّاهِدُ، والمُقْتَدِرُ. وأصْلُهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ الحافِظُ. وهو اسْمُ فاعِلٍ مِن أقاتَ إذا أعْطى القُوتَ، فَوَزْنُهُ مُفْعِلٌ وعَيْنُهُ واوٌ. واسْتُعْمِلَ مَجازًا في مَعانِي الحِفْظِ والشَّهادَةِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، لِأنَّ مَن يُقِيتُ أحَدًا فَقَدْ حَفِظَهُ مِنَ الخَصاصَةِ أوْ مِنَ الهَلاكِ، وهو هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الِاطِّلاعِ، أوْ مُضَمَّنٌ مَعْناهُ، كَما يَنْبِيءُ عَنْهُ تَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلى) .

ومِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى المُقِيتُ، وفَسَّرَهُ الغَزالِيُّ بِمُوَصِّلِ الأقْواتِ، فَيُؤَوَّلُ إلى مَعْنى الرّازِقِ، إلّا أنَّهُ أخَصُّ، وبِمَعْنى المُسْتَوْلِي عَلى الشَّيْءِ القادِرِ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ فَيَكُونُ راجِعًا إلى القُدْرَةِ والعِلْمِ.