﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهْوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ .

صفحة ١٥٦

انْتِقالُ الغَرَضِ يُعِيدُ نَشاطَ السّامِعِ بِتَفَنُّنِ الأغْراضِ، فانْتَقَلَ مِن تَحْدِيدِ أعْمالِ المُسْلِمِينَ مَعَ العَدُوِّ إلى أحْكامِ مُعامَلَةِ المُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ: مِن وُجُوبِ كَفِّ عُدْوانِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ.

والمُناسَبَةُ بَيْنَ الغَرَضِ المُنْتَقَلِ مِنهُ والمُنْتَقَلِ إلَيْهِ: أنَّهُ قَدْ كانَ الكَلامُ في قِتالِ المُتَظاهِرِينَ بِالإسْلامِ الَّذِينَ ظَهَرَ نِفاقُهم، فَلا جَرَمَ أنْ تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إلى حُكْمِ قَتْلِ المُؤْمِنِينَ الخُلَّصِ.

وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ حَدَثَ حادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ خَطَأً بِالمَدِينَةِ ناشِئٌ عَنْ حَزازاتٍ أيّامَ القِتالِ في الشِّرْكِ أخْطَأ فِيهِ القاتِلُ إذْ ظَنَّ المَقْتُولَ كافِرًا. وحادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ عَمْدًا مِمَّنْ كانَ يُظْهِرُ الإيمانَ، والحادِثُ المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: ٩٤] وأنَّ هَذِهِ الآياتِ نَزَلَتْ في ذَلِكَ، فَتَزْدادُ المُناسَبَةُ وُضُوحًا لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَصِيرُ كالمُقَدِّمَةِ لِما ورَدَ بَعْدَها مِنَ الأحْكامِ في القَتْلِ.

هَوَّلَ اللَّهُ تَعالى أمْرَ قَتْلِ المُسْلِمِ أخاهُ المُسْلِمَ، وجَعَلَهُ في حَيِّزِ ما لا يَكُونُ، فَقالَ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾ فَجاءَ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ في النَّفْيِ، وهي صِيغَةُ الجُحُودِ، أيْ ما وُجِدَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ الخَطَأِ، أوْ أنْ يَقْتُلَ قَتْلًا مِنَ القَتْلِ إلّا قَتْلَ الخَطَأِ.

فَكانَ الكَلامُ حَصْرًا وهو حَصْرٌ ادِّعائِيٌّ مُرادٌ بِهِ المُبالَغَةُ كَأنَّ صِفَةَ الإيمانِ في القاتِلِ والمَقْتُولِ تُنافِي الِاجْتِماعَ مَعَ القَتْلِ في نَفْسِ الأمْرِ مُنافاةَ الضِّدَّيْنِ لِقَصْدِ الإيذانِ بِأنَّ المُؤْمِنَ إذا قَتَلَ مُؤْمِنًا فَقَدْ سُلِبَ عَنْهُ الإيمانُ وما هو بِمُؤْمِنٍ، عَلى نَحْوِ «ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وهو مُؤْمِنٌ» .

فَتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً عَمّا بَعْدَها، غَيْرَ مُرادٍ بِها التَّشْرِيعُ، بَلْ هي كالمُقَدِّمَةِ لِلتَّشْرِيعِ، لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حالِ قَتْلِ المُؤْمِنِ المُؤْمِنَ قَتْلًا غَيْرَ خَطَأٍ، وتَكُونُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا ومَعْنًى، ويَكُونُ الِاسْتِثْناءُ حَقِيقِيًّا مِن عُمُومِ الأحْوالِ، أيْ

صفحة ١٥٧

يَنْتَفِي قَتْلُ المُؤْمِنِ مُؤْمِنًا في كُلِّ حالٍ إلّا في حالِ عَدَمِ القَصْدِ، وهَذا أحْسَنُ ما يَبْدُو في مَعْنى الآيَةِ.

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ خَبَرًا مُرادًا بِهِ النَّهْيُ، اسْتُعْمِلَ المُرَكَّبُ في لازِمِ مَعْناهُ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ المُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، وتَجْعَلَ قَوْلَهُ ﴿إلّا خَطَأً﴾ تَرْشِيحًا لِلْمَجازِ: عَلى نَحْوِ ما قَرَّرْناهُ في الوَجْهِ الأوَّلِ، فَيَحْصُلُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ صُورَةَ الخَطَأِ لا يَتَعَلَّقُ بِها النَّهْيُ، إذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ الخَطَأ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ أمْرٌ ولا نَهْيٌ.

يَعْنِي إنْ كانَ نَوْعٌ مِن قَتْلِ المُؤْمِنِ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْمُؤْمِنِ، فَهو قَتْلُ الخَطَأِ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ المُخْطِئَ لا يَأْتِي فِعْلَهُ قاصِدًا امْتِثالًا ولا عِصْيانًا، فَرَجَعَ الكَلامُ إلى مَعْنى: وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الإرادَةُ والقَصْدُ بِحالٍ أبَدًا، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ مَبْدَأ التَّشْرِيعِ، وما بَعْدَها كالتَّفْصِيلِ لَها؛ وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ لا يُشْكِلُ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ ﴿إلّا خَطَأً﴾ .

وذَهَبَ المُفَسِّرُونَ إلى أنَّ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ مُرادٌ بِهِ النَّهْيُ، أيْ خَبَرٌ في مَعْنى الإنْشاءِ فالتَجَأُوا إلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنى (لَكِنْ) فِرارًا مِنَ اقْتِضاءِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْناءِ إباحَةَ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا خَطَأً، وقَدْ فَهِمْتَ أنَّهُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنا.

وإنَّما جِيءَ بِالقَيْدِ في قَوْلِهِ ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾ مُرادٌ بِهِ ادِّعاءُ الحَصْرِ أوِ النَّهْيِ كَما عَلِمْتَ، ولَوْ كانَ الخَبَرُ عَلى حَقِيقَتِهِ لاسْتَغْنى عَنِ القَيْدِ لِانْحِصارِ قَتْلِ المُؤْمِنِ بِمُقْتَضاهُ في قَتْلِ الخَطَأِ، فَيُسْتَغْنى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ.

رَوى الطَّبَرَيُّ، والواحِدِيُّ، في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: «أنَّ عَيّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيَّ كانَ قَدْ أسْلَمَ وهاجَرَ إلى المَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ أخا أبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ، فَخَرَجَ أبُو جَهْلٍ وأخُوهُ الحارِثُ بْنُ هِشامٍ والحارِثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ في طَلَبِهِ، فَأتَوْهُ بِالمَدِينَةِ وقالُوا لَهُ: إنَّ أُمَّكَ أقْسَمَتْ أنْ لا يُظِلَّها بَيْتٌ حَتّى تَراكَ، فارْجِعْ مَعَنا حَتّى تَنْظُرَ إلَيْكَ ثُمَّ ارْجِعْ.

وأعْطَوْهُ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أنْ لا يُهَيِّجُوهُ، ولا يَحُولُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ دِينِهِ، فَخَرَجَ مَعَهم فَلَمّا جاوَزُوا المَدِينَةَ أوْثَقُوهُ، ودَخَلُوا بِهِ مَكَّةَ، وقالُوا لَهُ لا نَحُلُّكَ مِن وثاقِكَ حَتّى تَكْفُرَ بِالَّذِي آمَنتَ بِهِ.

وكانَ الحارِثُ بْنُ زَيْدٍ يَجْلِدُهُ ويُعَذِّبُهُ، فَقالَ عَيّاشٌ لِلْحارِثِ واللَّهِ لا ألْقاكَ خالِيًا إلّا قَتَلْتُكَ فَبَقِيَ بِمَكَّةَ

صفحة ١٥٨

حَتّى خَرَجَ يَوْمَ الفَتْحِ إلى المَدِينَةِ فَلَقِيَ الحارِثَ بْنَ زَيْدٍ بِقُباءٍ، وكانَ الحارِثُ قَدْ أسْلَمَ ولَمْ يَعْلَمْ عَيّاشٌ بِإسْلامِهِ، فَضَرَبَهُ عَيّاشٌ فَقَتَلَهُ.

ولَمّا أُعْلِمَ بِأنَّهُ مُسْلِمٌ رَجَعَ عَيّاشٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَنَزَلَتْ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً»﴾ فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.

وفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ نَزَلَتْ في اليَمانِ، والِدِ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ، حِينَ قَتَلَهُ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً.

وفِي رِوايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: أنَّها نَزَلَتْ في قَضِيَّةِ أبِي الدَّرْداءِ حِينَ كانَ في سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ إلى شِعْبٍ فَوَجَدَ رَجُلًا في غَنَمٍ لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أبُو الدَّرْداءِ بِالسَّيْفِ، فَقالَ الرَّجُلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وجاءَ بِغَنَمِهِ إلى السَّرِيَّةِ، ثُمَّ وجَدَ في نَفْسِهِ شَيْئًا فَأتى إلى النَّبِيءِ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ.

وقَوْلُهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الفاءُ رابِطَةٌ لِجَوابِ الشَّرْطِ، ووَتَحْرِيرُ مَرْفُوعٌ عَلى الخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِن جُمْلَةِ الجَوابِ: لِظُهُورِ ”أنَّ“ المَعْنى: فَحُكْمُهُ أوْ فَشَأْنُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَقَوْلِهِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. والتَّحْرِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الحُرِّيَّةِ، أيْ جَعْلُ الرَّقَبَةِ حُرَّةً. والرَّقَبَةُ أُطْلِقَتْ عَلى الذّاتِ مِن إطْلاقِ البَعْضِ عَلى الكُلِّ، كَما يَقُولُونَ، الجِزْيَةُ عَلى الرُّءُوسِ عَلى كُلِّ رَأْسٍ أرْبَعَةُ دَنانِيرَ.

ومِن أسْرارِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ حِرْصُها عَلى تَعْمِيمِ الحُرِّيَّةِ في الإسْلامِ بِكَيْفِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ، فَإنَّ اللَّهَ لَمّا بَعَثَ رَسُولَهُ بِدِينِ الإسْلامِ كانَتِ العُبُودِيَّةُ مُتَفَشِّيَةً في البَشَرِ، وأُقِيمَتْ عَلَيْها ثَرَواتٌ كَثِيرَةٌ، وكانَتْ أسْبابُها مُتَكاثِرَةً: وهي الأسْرُ في الحُرُوبِ، والتَّصْيِيرُ في الدُّيُونِ، والتَّخَطُّفُ في الغاراتِ، وبَيْعُ الآباءِ والأُمَّهاتِ أبْناءَهم، والرَّهائِنُ في الخَوْفِ، والتَّدايُنُ.

فَأبْطَلَ الإسْلامُ جَمِيعَ أسْبابِها عَدا الأسْرِ، وأبْقى الأسْرَ لِمَصْلَحَةِ تَشْجِيعِ الأبْطالِ، وتَخْوِيفِ أهْلِ الدَّعارَةِ مِنَ الخُرُوجِ عَلى المُسْلِمِينَ، لِأنَّ العَرَبِيَّ ما كانَ يَتَّقِي شَيْئًا مِن عَواقِبِ الحُرُوبِ مِثْلَ الأسْرِ، قالَ النّابِغَةُ:

حِذارًا عَلى أنْ لا تُنالَ مَقادَتِي ولا نِسْوَتِي حَتّى يَمُتْنَ حَرائِرا

صفحة ١٥٩

ثُمَّ داوى تِلْكَ الجِراحَ البَشَرِيَّةَ بِإيجادِ أسْبابِ الحُرِّيَّةِ في مُناسَباتٍ دِينِيَّةٍ جَمَّةٍ: مِنها واجِبَةٌ، ومِنها مَندُوبٌ إلَيْها، ومِنَ الأسْبابِ الواجِبَةِ كَفّارَةُ القَتْلِ المَذْكُورَةُ هُنا.

وقَدْ جُعِلَتْ كَفّارَةُ قَتْلِ الخَطَأِ أمْرَيْنِ: أحَدِهِما تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وقَدْ جُعِلَ هَذا التَّحْرِيرُ بَدَلًا مِن تَعْطِيلِ حَقِّ اللَّهِ في ذاتِ القَتِيلِ، فَإنَّ القَتِيلَ عَبْدٌ مِن عِبادِ اللَّهِ ويُرْجى مِن نَسْلِهِ مَن يَقُومُ بِعِبادَةِ اللَّهِ وطاعَةِ دِينِهِ، فَلَمْ يَخْلُ القاتِلُ مِن أنْ يَكُونَ فَوَّتَ بِقَتْلِهِ هَذا الوَصْفَ، وقَدْ نَبَّهَتِ الشَّرِيعَةُ بِهَذا عَلى أنَّ الحُرِّيَّةَ حَياةٌ، وأنَّ العُبُودِيَّةَ مَوْتٌ؛ فَمَن تَسَبَّبَ في مَوْتِ نَفْسٍ حَيَّةٍ كانَ عَلَيْهِ السَّعْيُ في إحْياءِ نَفْسٍ كالمَيِّتَةِ وهي المُسْتَعْبَدَةُ.

وسَنَزِيدُ هَذا بَيانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جَعَلَ فِيكم أنْبِئاءَ وجَعَلَكم مُلُوكًا﴾ [المائدة: ٢٠] في سُورَةِ المائِدَةِ، فَإنَّ تَأْوِيلَهُ أنَّ اللَّهَ أنْقَذَهم مِنَ اسْتِعْبادِ الفَراعِنَةِ فَصارُوا كالمُلُوكِ لا يَحْكُمُهم غَيْرُهم.

وثانِيهُما الدِّيَةُ. والدِّيَةُ مالٌ يُدْفَعُ لِأهْلِ القَتِيلِ خَطَأً، جَبْرًا لِمُصِيبَةِ أهْلِهِ فِيهِ مِن حَيَوانٍ أوْ نَقْدَيْنِ أوْ نَحْوِهِما، كَما سَيَأْتِي.

والدِّيَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ العَرَبِ بِمَعْناها ومَقادِيرِها فَلِذَلِكَ لَمْ يُفَصِّلْها القُرْآنُ. وقَدْ كانَ العَرَبُ جَعَلُوا الدِّيَةَ عَلى كَيْفِيّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكانَتْ عِوَضًا عَنْ دَمِ القَتِيلِ في العَمْدِ وفي الخَطَأِ، فَأمّا في العَمْدِ فَكانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِأخْذِها. قالَ الحَماسِيُّ:

فَلَوْ أنَّ حَيًّا يَقْبَلُ المالَ فِدْيَةً ∗∗∗ لَسُقْنا لَهم سَيْبًا مِنَ المالِ مُفْعَما

ولَكِنْ أبى قَوْمٌ أُصِيبَ أخُوهُمُ ∗∗∗ رِضى العارِ فاخْتارُوا عَلى اللَّبَنِ الدَّما

وإذا رَضِيَ أوْلِياءُ القَتِيلِ بِدِيَةٍ بِشَفاعَةِ عُظَماءِ القَبِيلَةِ قَدَّرُوها بِما يَتَراضَوْنَ عَلَيْهِ. قالَ زُهَيْرٌ:

تُعَفّى الكُلُومُ بِالمِئِينَ فَأصْبَحَتْ ∗∗∗ يُنَجِّمُها مَن لَيْسَ فِيها بِمُجْرِمِ

وأمّا في الخَطَأِ فَكانُوا لا يَأْبَوْنَ أخْذَ الدِّيَةِ، قِيلَ: إنَّها كانَتْ عَشَرَةٌ مِنَ الإبِلِ وأنَّ أوَّلَ مَن جَعَلَها مِائَةً مِنَ الإبِلِ عَبْدُ المُطَّلِبِ بْنُ هاشِمٍ، إذْ فَدى ولَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بَعْدَ أنْ نَذَرَ ذَبْحَهُ لِلْكَعْبَةِ بِمِائَةٍ مِنَ الإبِلِ، فَجَرَتْ في قُرَيْشٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَبِعَهُمُ العَرَبُ، وقِيلَ: أوَّلُ مَن جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الإبِلِ أبُو سَيّارَةَ عُمَيْلَةُ العَدَوانِيُّ، وكانَتْ دِيَةُ المَلِكِ ألْفًا مِنَ

صفحة ١٦٠

الإبِلِ، ودِيَةُ السّادَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الإبِلِ، ودِيَةُ الحَلِيفِ نِصْفُ دِيَةِ الصَّمِيمِ. وأوَّلُ مَن وُدِيَ بِالإبِلِ هو زَيْدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ هَوازِنَ، إذْ قَتَلَهُ أخُوهُ مُعاوِيَةُ جَدُّ بَنِي عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.

وأكْثَرُ ما ورَدَ في السُّنَّةِ مِن تَقْدِيرِ الدِّيَةِ هو مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ مُخَمَّسَةٌ أخْماسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ.

ودِيَةُ العَمْدِ، إذا رَضِيَ أوْلِياءُ القَتِيلِ بِالدِّيَةِ، مُرَبَّعَةٌ: خَمْسٌ وعِشْرُونَ مِن كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأصْنافِ الأرْبَعَةِ الأُوَلِ. وتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلى أحَدِ الأبَوَيْنِ تَغْلِيظًا بِالصِّنْفِ لا بِالعَدَدِ، إذا قَتَلَ ابْنَهُ خَطَأً: ثَلاثُونَ جَذَعَةً، وثَلاثُونَ حِقَّةً، وأرْبَعُونَ خَلِفَةً، أيْ نُوقًا في بُطُونِها أجِنَّتُها. وإذا كانَ أهْلُ القَتِيلِ غَيْرَ أهْلِ إبِلٍ نُقِلَتِ الدِّيَةُ إلى قِيمَةِ الإبِلِ تَقْرِيبًا فَجُعِلَتْ عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ، وعَلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ.

وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وعَلى أهْلِ الغَنَمِ ألْفَيْ شاةٍ. وفي حَدِيثِ أبِي داوُدَ أنَّ «الدِّيَةَ عَلى أهْلِ الحُلَلِ»، أيْ أهْلِ النَّسِيجِ مِثْلَ أهْلِ اليَمَنِ، مِائَةُ حُلَّةٍ. والحُلَّةُ ثَوْبانِ مِن نَوْعٍ واحِدٍ.

ومِعْيارُ تَقْدِيرِ الدِّياتِ، بِاخْتِلافِ الأعْصارِ والأقْطارِ، الرُّجُوعُ إلى قِيمَةِ مِقْدارِها مِنَ الإبِلِ المُعَيَّنِ في السُّنَّةِ. ودِيَةُ المَرْأةِ القَتِيلَةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ.

ودِيَةُ الكِتابِيِّ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ. ودِيَةُ المَرْأةِ الكِتابِيَّةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ الكِتابِيِّ. وتُدْفَعُ الدِّيَةُ مُنَجَّمَةً في ثَلاثِ سِنِينَ بَعْدَ كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ، وابْتِداءُ تِلْكَ النُّجُومِ مِن وقْتِ القَضاءِ في شَأْنِ القَتْلِ أوِ التَّراوُضِ بَيْنَ أوْلِياءِ القَتِيلِ وعاقِلَةِ القاتِلِ.

والدِّيَةُ بِتَخْفِيفِ الياءِ مَصْدَرُ ودى، أيْ أعْطى، مِثْلَ رَمى، ومَصْدَرُهُ ودْيٌ مِثْلُ وعْدٍ، حُذِفَتْ فاءُ الكَلِمَةِ تَخْفِيفًا، لِأنَّ الواوَ ثَقِيلَةٌ، كَما حُذِفَتْ في عِدَّةٍ، وعُوِّضَ عَنْها الهاءُ في آخِرِ الكَلِمَةِ مِثْلَ شِيَةٍ مِنَ الوَشْيِ.

وأشارَ قَوْلُهُ ﴿مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ إلى أنَّ الدِّيَةَ تَرْضِيَةٌ لِأهْلِ القَتِيلِ. وذُكِرَ الأهْلُ مُجْمَلًا فَعُلِمَ أنَّ أحَقَّ النّاسِ بِها أقْرَبُ النّاسِ إلى القَتِيلِ، فَإنَّ الأهْلَ هو القَرِيبُ، والأحَقُّ بِها الأقْرَبُ.

وهِيَ في حُكْمِ الإسْلامِ يَأْخُذُها ورَثَةُ القَتِيلِ عَلى حَسَبِ المِيراثِ

صفحة ١٦١

إلّا أنَّ القاتِلَ خَطَأً إذا كانَ وارِثًا لِلْقَتِيلِ لا يَرِثُ مِن دِيَتِهِ، وهي بِمَنزِلَةِ تَعْوِيضِ المُتْلَفاتِ، جُعِلَتْ عِوَضًا لِحَياةِ الَّذِي تَسَبَّبَ القاتِلُ في قَتْلِهِ، ورُبَّما كانَ هَذا المَعْنى هو المَقْصُودُ مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ، ولِذَلِكَ قالُوا: تَكايُلُ الدِّماءِ، وقالُوا: هُما بَواءٌ، أيْ كُفْآنِ في الدَّمِ وزادُوا في دِيَةِ سادَتِهِمْ.

وجُعِلَ عَفْوُ أهْلِ القَتِيلِ عَنْ أخْذِ الدِّيَةِ صَدَقَةً مِنهم تَرْغِيبًا في العَفْوِ.

وقَدْ أجْمَلَ القُرْآنُ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الدِّيَةِ وبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأنَّهُمُ العاقِلَةُ، وذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِما كانَ عَلَيْهِ الأمْرُ قَبْلَ الإسْلامِ.

والعاقِلَةُ: القَرابَةُ مِنَ القَبِيلَةِ. تَجِبُ عَلى الأقْرَبِ فالأقْرَبِ بِحَسَبِ التَّقَدُّمِ في التَّعْصِيبِ.

وقَوْلُهُ ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ﴾ الآيَةَ أيْ إنْ كانَ القَتِيلُ مُؤْمِنًا وكانَ أهْلُهُ كُفّارًا، بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ عَداوَةٌ، يُقْتَصَرُ في الكَفّارَةِ عَلى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ دُونَ دَفْعِ دِيَةٍ لَهم، لِأنَّ الدِّيَةَ: إذا اعْتَبَرْناها جَبْرًا لِأوْلِياءِ الدَّمِ، فَلَمّا كانُوا أعْداءً لَمْ تَكُنْ حِكْمَةٌ في جَبْرِ خَواطِرِهِمْ، وإذا اعْتَبَرْناها عِوَضًا عَنْ مَنافِعِ قَتِيلِهِمْ، مِثْلَ قِيَمِ المُتْلَفاتِ، يَكُونُ مَنعُها مِنَ الكُفّارِ؛ لِأنَّهُ لا يَرِثُ الكافِرُ المُسْلِمَ، ولِأنّا لا نُعْطِيهِمْ مالَنا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْنا.

وهَذا الحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الفُقَهاءِ، إنْ كانَ القَتِيلُ المُؤْمِنُ باقِيًا في دارِ قَوْمِهِ وهم كُفّارٌ، فَأمّا إنْ كانَ القَتِيلُ في بِلادِ الإسْلامِ وكانَ أوْلِياؤُهُ كُفّارًا، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ: لا تَسْقُطُ عَنِ القاتِلِ دِيَتُهُ، وتُدْفَعُ لِبَيْتِ مالِ المُسْلِمِينَ.

وقالَ الشّافِعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ: تَسْقُطُ الدِّيَةُ لِأنَّ سَبَبَ سُقُوطِها أنَّ مُسْتَحِقِّيها كُفّارٌ. وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ﴾ أنَّ العِبْرَةَ بِأهْلِ القَتِيلِ لا بِمَكانِ إقامَتِهِ، إذْ لا أثَرَ لِمَكانِ الإقامَةِ في هَذا الحُكْمِ ولَوْ كانَتْ إقامَتُهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِيها.

وأخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ بِلَفْظِ عَدُوٍّ وهو مُفْرَدٌ، لِأنَّ فَعُولًا بِمَعْنى فاعِلٍ يَكْثُرُ في كَلامِهِمْ أنْ يَكُونَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا غَيْرَ مُطابِقٍ لِمَوْصُوفِهِ، كَقَوْلِهِ ﴿إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٠١] ﴿لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [الممتحنة: ١] ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ﴾ [الأنعام: ١١٢]، وامْرَأةٌ عَدُوٌّ. وشَذَّ قَوْلُهم عَدُوَّةٌ.

وفِي كَلامِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّهُ قالَ لِلنِّسْوَةِ اللّاتِي كُنَّ بِحَضْرَةِ النَّبِيءِ ﷺ

صفحة ١٦٢

فَلَمّا دَخَلَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الحِجابَ لَمّا رَأيْنَهُ: يا عَدُوّاتِ أنْفُسِهِنَّ. ويُجْمَعُ بِكَثْرَةٍ عَلى أعْداءٍ، قالَ تَعالى ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُ أعْداءَ اللَّهِ إلى النّارِ﴾ [فصلت: ١٩] .

وقَوْلُهُ ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ أيْ إنْ كانَ القَتِيلُ المُؤْمِنَ. فَجَعَلَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وبَيْنَهم مِيثاقٌ، أيْ عَهْدٌ مِن أهْلِ الكُفْرِ، دِيَةَ قَتِيلِهِمُ المُؤْمِنِ اعْتِدادًا بِالعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنا وهَذا يُؤْذِنُ بِأنَّ الدِّيَةَ جَبْرٌ لِأوْلِياءِ القَتِيلِ، ولَيْسَتْ مالًا مَوْرُوثًا عَنِ القاتِلِ، إذْ لا يَرْثُ الكافِرُ المُسْلِمَ، فَلا حاجَةَ إلى تَأْوِيلِ الآيَةِ بِأنْ يَكُونَ لِلْمَقْتُولِ المُؤْمِنِ وارِثٌ مُؤْمِنٌ في قَوْمٍ مُعاهَدِينَ، أوْ يَكُونَ المَقْتُولُ مُعاهَدًا لا مُؤْمِنًا، بِناءً عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في كانَ عائِدٌ عَلى القَتِيلِ بِدُونِ وصْفِ الإيمانِ، وهو تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِأنَّ مَوْضُوعَ الآيَةِ فِيمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً.

ولا يَهُولَنَّكُمُ التَّصْرِيحُ بِالوَصْفِ في قَوْلِهِ وهو مُؤْمِنٌ لِأنَّ ذَلِكَ احْتِراسٌ ودَفْعٌ لِلتَّوَهُّمِ عِنْدَ الخَبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ﴿مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ أنْ يَظُنَّ أحَدٌ أنَّهُ أيْضًا عَدُوٌّ لَنا في الدِّينِ. وشَرْطُ كَوْنِ القَتِيلِ مُؤْمِنًا في هَذا الحُكْمِ مَدْلُولٌ بِحَمْلِ مُطْلَقِهِ هُنا عَلى المُقَيَّدِ في قَوْلِهِ هُنالِكَ وهو مُؤْمِنٌ، ويَكُونُ مَوْضُوعُ هَذا التَّفْصِيلِ في القَتِيلِ المُسْلِمِ خَطَأً لِتَصْدِيرِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾، وهَذا قَوْلُ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ.

وذَهَبَتْ طائِفَةٌ إلى إبْقاءِ المُطْلَقِ هُنا عَلى إطْلاقِهِ، وحَمَلُوا مَعْنى الآيَةِ عَلى الذِّمِّيِّ والمُعاهَدِ، يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والشّافِعِيِّ، ولَكِنَّهم قالُوا: إنَّ هَذا كانَ حُكْمًا في مُشْرِكِي العَرَبِ الَّذِينَ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ صُلْحٌ إلى أجَلٍ، حَتّى يُسْلِمُوا أوْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ، وإنَّ هَذا الحُكْمَ نُسِخَ.

وقَوْلُهُ ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ وُصِفَ الشَّهْرانِ بِأنَّهُما مُتَتابِعانِ والمَقْصُودُ تَتابُعُ أيّامِهِما، لِأنَّ تَتابُعَ الأيّامِ يَسْتَلْزِمُ تَوالِيَ الشَّهْرَيْنِ.

وقَوْلُهُ ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ عَلى تَقْدِيرِ: شَرَعَ اللَّهُ الصِّيامَ تَوْبَةً مِنهُ. والتَّوْبَةُ هُنا مَصْدَرُ تابَ بِمَعْنى قَبِلَ التَّوْبَةَ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِـ مِن، لِأنَّ تابَ يُطْلَقُ عَلى مَعْنى نَدِمَ وعَلى مَعْنى قَبِلَ مِنهُ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ [النساء: ١٧] في هَذِهِ السُّورَةِ، أيْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنِ القاتِلِ فَشَرَعَ الصِّيامَ لِيَتُوبَ عَلَيْهِ فِيما أخْطَأ فِيهِ لِأنَّهُ أخْطَأ في عَظِيمٍ.

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ تَوْبَةً مَفْعُولًا لِأجْلِهِ راجِعًا إلى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ والدِّيَةِ وبَدَلِهِما، وهو الصِّيامُ، أيْ شَرَعَ اللَّهُ

صفحة ١٦٣

الجَمِيعَ تَوْبَةً مِنهُ عَلى القاتِلِ، ولَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُ ذَلِكَ لَعاقَبَهُ عَلى أسْبابِ الخَطَأِ، وهي تَرْجِعُ إلى تَفْرِيطِ الحَذَرِ والأخْذِ بِالحَزْمِ. أوْ هو حالٌ مِن صِيامٍ، أيْ سَبَبُ تَوْبَةٍ، فَهو حالٌ مَجازِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ.