Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا أوْ إعْراضًا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وإنْ تُحْسِنُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ وإنْ تُصْلِحُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ وكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا﴾ .
عَطْفٌ لِبَقِيَّةِ إفْتاءِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا حُكْمُ اخْتِلالِ المُعاشَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ في قَوْلِهِ ﴿واللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: ٣٤] الآيَةَ، في هَذِهِ السُّورَةِ، فَذَلِكَ حُكْمُ فَصْلِ القَضاءِ بَيْنَهُما، وما هَنا حُكْمُ الِانْفِصالِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُما، وذَلِكَ ذُكِرَ فِيهِ نُشُوزُ المَرْأةِ،
صفحة ٢١٥
وهُنا ذُكِرَ نُشُوزُ البَعْلِ. والبَعْلُ زَوْجُ المَرْأةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ إطْلاقِ هَذا الِاسْمِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ.وصِيغَةُ ”فَلا جُناحَ“ مِن صِيَغِ الإباحَةِ ظاهِرًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى الإذْنِ لِلزَّوْجَيْنِ في صُلْحٍ يَقَعُ بَيْنَهُما. وقَدْ عُلِمَ أنَّ الإباحَةَ لا تُذْكَرُ إلّا حَيْثُ يُظَنُّ المَنعُ، فالمَقْصُودُ الإذْنُ في صُلْحٍ يَكُونُ بِخُلْعٍ: أيْ عِوَضٍ مالِيٍّ تُعْطِيهِ المَرْأةُ، أوْ تَنازُلٍ عَنْ بَعْضِ حُقُوقِها.
فَيَكُونُ مَفادُ هَذِهِ الآيَةِ أعَمَّ مِن مَفادِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلّا أنْ يَخافا ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، فَسَمّاهُ هُناكَ افْتِداءً، وسَمّاهُ هُنا صُلْحًا. وقَدْ شاعَ في الِاسْتِعْمالِ إطْلاقُ الصُّلْحِ عَلى التَّراضِي بَيْنَ الخَصْمَيْنِ عَلى إسْقاطِ بَعْضِ الحَقِّ، وهو الأظْهَرُ هُنا.
واصْطَلَحَ الفُقَهاءُ مِنَ المالِكِيَّةِ: عَلى إطْلاقِ الِافْتِداءِ عَلى اخْتِلاعِ المَرْأةِ مِن زَوْجِها بِمالٍ تُعْطِيهِ، وإطْلاقِ الخُلْعِ عَلى الِاخْتِلاعِ بِإسْقاطِها عَنْهُ بَقِيَّةَ الصَّداقِ، أوِ النَّفَقَةَ لَها، أوْ لِأوْلادِها.
ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ صِيغَةُ ”لا جُناحَ“ مُسْتَعْمَلَةً في التَّحْرِيضِ عَلى الصُّلْحِ. أيْ إصْلاحِ أمْرِهِما بِالصُّلْحِ وحُسْنِ المُعاشَرَةِ، فَنَفْيُ الجُناحِ مِنَ الِاسْتِعارَةِ التَّمْلِيحِيَّةِ؛ شَبَّهَ حالَ مَن تَرَكَ الصُّلْحَ واسْتَمَرَّ عَلى النُّشُوزِ والإعْراضِ بِحالِ مَن تَرَكَ الصُّلْحَ عَنْ عَمْدٍ لِظَنِّهِ أنَّ في الصُّلْحِ جُناحًا. فالمُرادُ الصُّلْحُ بِمَعْنى إصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، والأشْهَرُ فِيهِ أنْ يُقالَ الإصْلاحُ. والمَقْصُودُ الأمْرُ بِأسْبابِ الصُّلْحِ، وهي: الإغْضاءُ عَنِ الهَفَواتِ، ومُقابَلَةُ الغِلْظَةِ بِاللِّينِ، وهَذا أنْسَبُ وألْيَقُ بِما يَرِدُ بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ .
ولِلنُّشُوزِ والإعْراضِ أحْوالٌ كَثِيرَةٌ: تَقْوى وتَضْعُفُ، وتَخْتَلِفُ عَواقِبُها، بِاخْتِلافِ أحْوالِ الأنْفُسِ، ويَجْمَعُها قَوْلُهُ ﴿خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا أوْ إعْراضًا﴾ . ولِلصُّلْحِ أحْوالٌ كَثِيرَةٌ: مِنها المُخالَعَةُ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ ما ورَدَ مِنَ الآثارِ الدّالَّةِ عَلى حَوادِثَ مِن هَذا القَبِيلِ. فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا﴾ قالَتْ: الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ المَرْأةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنها يُرِيدُ أنْ يُفارِقَها، فَتَقُولُ لَهُ أجْعَلُكَ مِن شَأْنِي في حِلٍّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ورَوى التِّرْمِذِيُّ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ سَوْدَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ وهَبَتْ يَوْمَها لِعائِشَةَ. وفي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ:
صفحة ٢١٦
أنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ كانَتْ عِنْدَ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَكَرِهَ مِنها أمْرًا، أيْ كِبَرًا فَأرادَ طَلاقَها، فَقالَتْ لَهُ: أمْسِكْنِي واقْسِمْ لِي ما بَدا لَكَ. فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ.وقَرَأ الجُمْهُورُ: (أنْ يَصّالَحا) بِتَشْدِيدِ الصّادِ وفَتْحِ اللّامِ وأصْلُهُ يَتَصالَحا، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الصّادِ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: أنْ يُصْلِحا بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وتَخْفِيفِ الصّادِ وكَسْرِ اللّامِ أيْ يُصْلِحَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما شَأْنَهُما بِما يَبْدُو مِن وُجُوهِ المُصالَحَةِ.
والتَّعْرِيفُ في قَوْلِهِ ﴿والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ تَعْرِيفُ الجِنْسِ ولَيْسَ تَعْرِيفَ العَهْدِ، لِأنَّ المَقْصُودَ إثْباتُ أنَّ ماهِيَّةَ الصُّلْحِ خَيْرٌ لِلنّاسِ، فَهو تَذْيِيلٌ لِلْأمْرِ بِالصُّلْحِ والتَّرْغِيبِ فِيهِ، ولَيْسَ المَقْصُودُ أنَّ الصُّلْحَ المَذْكُورَ آنِفًا، وهو الخُلْعُ، خَيْرٌ مِنَ النِّزاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأنَّ هَذا، وإنْ صَحَّ مَعْناهُ، إلّا أنَّ فائِدَةَ الوَجْهِ الأوَّلِ أوْفَرُ، ولِأنَّ فِيهِ التَّفادِيَ عَنْ إشْكالِ تَفْضِيلِ الصُّلْحِ عَلى النِّزاعِ في الخَيْرِيَّةِ مَعَ أنَّ النِّزاعَ لا خَيْرَ فِيهِ أصْلًا.
ومَن جَعَلَ الصُّلْحَ الثّانِيَ عَيْنَ الأوَّلِ غَرَّتْهُ القاعِدَةُ المُتَداوَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ النُّحاةِ، وهي: أنَّ لَفْظَ النَّكِرَةِ إذا أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللّامِ فَهو عَيْنُ الأُولى.
وهَذِهِ القاعِدَةُ ذَكَرَها ابْنُ هِشامٍ الأنْصارِيُّ في مُغْنِي اللَّبِيبِ في البابِ السّادِسِ، فَقالَ: يَقُولُونَ: النَّكِرَةُ إذا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كانَتْ غَيْرَ الأُولى، وإذا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أوْ أُعِيدَتِ المَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً أوْ نَكِرَةً كانَتِ الثّانِيَةُ عَيْنَ الأُولى.
ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ في القُرْآنِ آياتٍ تَرُدُّ هَذِهِ الأحْكامَ الأرْبَعَةَ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾ [الروم: ٥٤] وقَوْلِهِ ﴿أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ [النحل: ٨٨] والشَّيْءُ لا يَكُونُ فَوْقَ نَفْسِهِ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴿يَسْألُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ﴾ [النساء: ١٥٣] .
وأنَّ في كَلامِ العَرَبِ ما يَرُدُّ ذَلِكَ أيْضًا. والحَقُّ أنَّهُ لا يُخْتَلَفُ في ذَلِكَ إذا قامَتْ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ الكَلامَ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ لا لِتَعْرِيفِ العَهْدِ، كَما هُنا. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في إعادَةِ المَعْرِفَةِ نَكِرَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ويَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [الأنعام: ٣٧] في سُورَةِ الأنْعامِ.
وقَوْلُهُ ”خَيْرٌ“ لَيْسَ هو تَفْضِيلًا ولَكِنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وزْنُهُ ”فَعْلٌ“، كَقَوْلِهِمْ: سَمْحٌ وسَهْلٌ، ويُجْمَعُ عَلى خُيُورٍ. أوْ هو مَصْدَرٌ مُقابِلُ الشَّرِّ، فَتَكُونُ إخْبارًا بِالمَصْدَرِ. وأمّا
صفحة ٢١٧
المُرادُ بِهِ التَّفْضِيلُ فَأصْلُ وزْنِهِ أفْعَلُ، فَخُفِّفَ بِطَرْحِ الهَمْزَةِ ثُمَّ قَلْبِ حَرَكَتِهِ وسُكُونِهِ. جَمْعُهُ أخْيارٌ، أيْ والصُّلْحُ في ذاتِهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ. والحَمْلُ عَلى كَوْنِهِ تَفْضِيلًا يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ هو النُّشُوزُ والإعْراضُ. ولَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَعْنًى.وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى شِدَّةِ التَّرْغِيبِ في هَذا الصُّلْحِ بِمُؤَكِّداتٍ ثَلاثَةٍ: وهي المَصْدَرُ المُؤَكِّدُ في قَوْلِهِ صُلْحًا، والإظْهارُ في مَقامِ الإضْمارِ في قَوْلِهِ ﴿والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، والإخْبارُ عَنْهُ بِالمَصْدَرِ أوْ بِالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ فَإنَّها تَدُلُّ عَلى فِعْلِ سَجِيَّةٍ.
ومَعْنى ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ مُلازَمَةُ الشُّحِّ لِلنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ حَتّى كَأنَّهُ حاضِرٌ لَدَيْها. ولِكَوْنِهِ مِن أفْعالِ الجِبِلَّةِ بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في بِناءِ كُلِّ فِعْلٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الفاعِلِ لِلْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِمْ: شُغِفَ بِفُلانَةٍ، واضْطُرَّ إلى كَذا. فَـ ”الشُّحَّ“ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ ”أُحْضِرَتْ“ لِأنَّهُ مِن بابِ أعْطى.
وأصْلُ الشُّحِّ في كَلامِ العَرَبِ البُخْلُ بِالمالِ، وفي الحَدِيثِ «أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشى الفَقْرَ وتَأْمُلُ الغِنى»، وقالَ تَعالى ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: ٩] ويُطْلَقُ عَلى حِرْصِ النَّفْسِ عَلى الحُقُوقِ وقِلَّةِ التَّسامُحِ فِيها، ومِنهُ المُشاحَّةُ، وعَكْسُهُ السَّماحَةُ في الأمْرَيْنِ.
فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالصُّلْحِ في هَذِهِ الآيَةِ صُلْحَ المالِ، وهو الفِدْيَةُ. فالشُّحُّ هو شُحُّ المالِ، وتَعْقِيبُ قَوْلِهِ ﴿والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ بِقَوْلِهِ ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ﴾ عَلى هَذا الوَجْهِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِمْ بَعْدَ الأمْرِ بِما فِيهِ مَصْلَحَةٌ في مَوْعِظَةٍ أوْ نَحْوِها: وما إخالُكَ تَفْعَلُ، لِقَصْدِ التَّحْرِيضِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الشُّحِّ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ: مِنَ المُشاحَّةِ، وعَدَمِ التَّساهُلِ، وصُعُوبَةِ الشَّكائِمِ، فَيَكُونُ المُرادُ مِنَ الصُّلْحِ صُلْحَ المالِ وغَيْرِهِ، فالمَقْصُودُ مِن تَعْقِيبِهِ بِهِ تَحْذِيرُ النّاسِ مِن أنْ يَكُونُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَذِهِ المُشاحَّةِ الحائِلَةِ دُونَ المُصالَحَةِ.
وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى البُخْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٨٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ العَرَبِ ذَمُّ الشُّحِّ بِالمالِ، وذَمُّ مَن لا سَماحَةَ فِيهِ، فَكانَ هَذا التَّعْقِيبُ تَنْفِيرًا مِنَ العَوارِضِ المانِعَةِ مِنَ السَّماحَةِ والصُّلْحِ، ولِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تُحْسِنُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ لِما فِيهِ مِنَ
صفحة ٢١٨
التَّرْغِيبِ في الإحْسانِ والتَّقْوى. ثُمَّ عَذَرَ النّاسَ في شَأْنِ النِّساءِ فَقالَ ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أيْ تَمامَ العَدْلِ.وجاءَ بِـ ”لَنْ“ لِلْمُبالَغَةِ في النَّفْيِ، لِأنَّ أمْرَ النِّساءِ يُغالِبُ النَّفْسَ، لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ حُسْنَ المَرْأةِ وخُلُقَها مُؤَثِّرًا أشَدَّ التَّأْثِيرِ، فَرُبَّ امْرَأةٍ لَبِيبَةٍ خَفِيفَةِ الرُّوحِ، وأُخْرى ثَقِيلَةٌ حَمْقاءُ، فَتَفاوُتُهُنَّ في ذَلِكَ وخُلُوُّ بَعْضِهِنَّ مِنهُ يُؤَثِّرُ لا مَحالَةَ تَفاوُتًا في مَحَبَّةِ الزَّوْجِ بَعْضَ أزْواجِهِ، ولَوْ كانَ حَرِيصًا عَلى إظْهارِ العَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَلِذَلِكَ قالَ ﴿ولَوْ حَرَصْتُمْ﴾ .
وأقامَ اللَّهُ مِيزانَ العَدْلِ بِقَوْلِهِ ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾، أيْ لا يُفَرِّطُ أحَدُكم بِإظْهارِ المَيْلِ إلى إحْداهُنَّ أشَدَّ المَيْلِ حَتّى يَسُوءَ الأُخْرى بِحَيْثُ تَصِيرُ الأُخْرى كالمُعَلَّقَةِ. فَظَهَرَ أنَّ مُتَعَلِّقَ ”تَمِيلُوا“ مُقَدَّرٌ بِإحْداهُنَّ، وأنَّ ضَمِيرَ ”تَذْرُوها“ المَنصُوبَ عائِدٌ إلى غَيْرِ المُتَعَلِّقِ المَحْذُوفِ بِالقَرِينَةِ، وهو إيجازٌ بَدِيعٌ.
والمُعَلَّقَةُ: هي المَرْأةُ الَّتِي يَهْجُرُها زَوْجُها هَجْرًا طَوِيلًا، فَلا هي مُطَلَّقَةٌ ولا هي زَوْجَةٌ، وفي «حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ زَوْجِيَ العَشَنَّقُ إنْ أنْطِقْ أُطَلَّقْ وإنْ أسْكُتْ أُعَلَّقْ»، وقالَتِ ابْنَةُ الحُمارِسِ:
إنْ هي إلّا حِظَةٌ أوْ تَطْلِيقُ أوْ صَلَفٌ أوْ بَيْنَ ذاكَ تَعْلِيقُ
وقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾ عَلى أنَّ المَحَبَّةَ أمْرٌ قَهْرِيٌّ، وأنَّ لِلتَّعَلُّقِ بِالمَرْأةِ أسْبابًا تُوجِبُهُ قَدْ لا تَتَوَفَّرُ في بَعْضِ النِّساءِ، فَلا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ بِما لَيْسَ في وُسْعِهِ مِنَ الحُبِّ والِاسْتِحْسانِ.ولَكِنَّ مِنَ الحُبِّ حَظًّا هو اخْتِيارِيٌّ، وهو أنْ يُرَوِّضَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَلى الإحْسانِ لِامْرَأتِهِ، وتَحَمُّلِ ما لا يُلائِمُهُ مِن خُلُقِها أوْ أخْلاقِها ما اسْتَطاعَ، وحُسْنِ المُعاشَرَةِ لَها، حَتّى يُحَصِّلَ مِنَ الإلْفِ بِها والحُنُوِّ عَلَيْها اخْتِيارًا بِطُولِ التَّكَرُّرِ والتَّعَوُّدِ، ما يَقُومُ مَقامَ المَيْلِ الطَّبِيعِيِّ. فَذَلِكَ مِنَ المَيْلِ إلَيْها المُوصى بِهِ في قَوْلِهِ ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾، أيْ إلى إحْداهُنَّ أوْ عَنْ إحْداهُنَّ.
صفحة ٢١٩
ثُمَّ وسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِما إنْ لَمْ تَنْجَحِ المُصالَحَةُ بَيْنَهُما فَأذِنَ لَهُما في الفِراقِ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ .وفِي قَوْلِهِ ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ الفِراقَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لَهُما لِأنَّ الفِراقَ خَيْرٌ مِن سُوءِ المُعاشَرَةِ. ومَعْنى إغْناءِ اللَّهِ كُلًّا: إغْناؤُهُ عَنِ الآخَرِ. وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ إغْناءَ اللَّهِ كُلًّا إنَّما يَكُونُ عَنِ الفِراقِ المَسْبُوقِ بِالسَّعْيِ في الصُّلْحِ.
وقَوْلُهُ ﴿وكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا﴾ تَذْيِيلٌ وتَنْهِيَةٌ لِلْكَلامِ في حُكْمِ النِّساءِ.