﴿مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ وكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ .

لَمّا كانَ شَأْنُ التَّقْوى عَظِيمًا عَلى النُّفُوسِ، لِأنَّها يَصْرِفُها عَنْها اسْتِعْجالُ النّاسِ لِمَنافِعِ الدُّنْيا عَلى خَيْراتِ الآخِرَةِ، نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إلى أنَّ خَيْرَ الدُّنْيا بِيَدِ اللَّهِ، وخَيْرَ الآخِرَةِ أيْضًا، فَإنِ اتَّقَوْهُ نالُوا الخَيْرَيْنِ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ لا يَصُدَّهُمُ الإيمانُ عَنْ طَلَبِ ثَوابِ الدُّنْيا، إذِ الكُلُّ مِن فَضْلِ اللَّهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأنْ لا يُلْهِيهِمْ طَلَبُ خَيْرِ الدُّنْيا عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ، إذِ الجَمْعُ بَيْنَهُما أفْضَلُ، وكِلاهُما مِن عِنْدِ اللَّهِ، عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ

صفحة ٢٢٤

﴿فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ [البقرة: ٢٠٠] ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١] ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ بِما كَسَبُوا﴾ [البقرة: ٢٠٢] .

أوْ هي تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ لا يَطْلُبُوا خَيْرَ الدُّنْيا مِن طُرُقِ الحَرامِ، فَإنَّ في الحَلالِ سَعَةً لَهم ومَندُوحَةً، ولْيَتَطَلَّبُوهُ مِنَ الحَلالِ يُسَهِّلْ لَهُمُ اللَّهُ حُصُولَهُ، إذِ الخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فَيُوشِكُ أنْ يَحْرِمَ مَن يَتَطَلَّبُهُ مِن وجْهٍ لا يُرْضِيهِ أوْ لا يُبارِكَ لَهُ فِيهِ.

والمُرادُ بِالثَّوابِ في الآيَةِ مَعْناهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وهو الخَيْرُ وما يَرْجِعُ بِهِ طالِبُ النَّفْعِ مِن وُجُوهِ النَّفْعِ، مُشْتَقٌّ مِن ثابَ بِمَعْنى رَجَعَ. وعَلى الِاحْتِمالاتِ كُلِّها فَجَوابُ الشَّرْطِ بِـ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا﴾ مَحْذُوفٌ، تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ.

والتَّقْدِيرُ: مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَلا يُعْرِضُ عَنْ دِينِ اللَّهِ، أوْ فَلا يَصُدُّ عَنْ سُؤالِهِ، أوْ فَلا يَقْتَصِرُ عَلى سُؤالِهِ، أوْ فَلا يُحَصِّلُهُ مِن وُجُوهٍ لا تُرْضِي اللَّهَ تَعالى: كَما فَعَلَ بَنُو أُبَيْرِقٍ وأضْرابُهم، ولْيَتَطَلَّبْهُ مِن وُجُوهِ البِرِّ لِأنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الخَيْرَيْنِ، والكُلُّ مِن عِنْدِهِ. وهَذا كَقَوْلِ القُطامِيِّ:

فَمَن تَكُنِ الحَضارَةُ أعْجَبَتْهُ فَأيُّ رِجالِ بادِيَةٍ تَرانا

التَّقْدِيرُ: فَلا يَغْتَرِرْ أوْ لا يَبْتَهِجْ بِالحَضارَةِ، فَإنَّ حالَنا دَلِيلٌ عَلى شَرَفِ البَداوَةِ.