Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا وأعْتَدْنا لِلْكَفَرَيْنِ عَذابًا مُهِينًا﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهم أُولَئِكَ سَوْفَ نُؤْتِيهِمُ أُجُورَهم وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ .
عادَةُ القُرْآنِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ إلى أحْوالِ مَن أظْهَرُوا النِّواءَ لِلْمُسْلِمِينَ أنْ يَنْتَقِلَ مِن صِفاتِ المُنافِقِينَ، أوْ أهْلِ الكِتابِ، أوِ المُشْرِكِينَ إلى صِفاتِ الآخَرِينَ، فالمُرادُ مِنَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ هُنا هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، قالَهُ أهْلُ التَّفْسِيرِ. والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِهِ اليَهُودُ خاصَّةً لِأنَّهُمُ المُخْتَلِطُونَ بِالمُسْلِمِينَ والمُنافِقِينَ، وكانَ كَثِيرٌ مِنَ المُنافِقِينَ يَهُودًا وعَبَّرَ عَنْهم بِطَرِيقِ المَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ الخَبَرِ، ومِن شَناعَةِ صَنِيعِهِمْ لِيُناسِبَ الإخْبارَ عَنْهم بِاسْمِ الإشارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وجَمَعَ الرُّسُلَ لِأنَّ اليَهُودَ كَفَرُوا بِعِيسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِما السَّلامُ، والنَّصارى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَجَمَعَ الرُّسُلَ بِاعْتِبارِ مَجْمُوعِ الكُفّارِ، أوْ أرادَ بِالجَمْعِ الِاثْنَيْنِ، أوْ أرادَ بِالإضافَةِ مَعْنى الجِنْسِ فاسْتَوى فِيهِ صِيغَةُ الإفْرادِ والجَمْعِ، لِأنَّ المَقْصُودَ ذَمُّ مَن هَذِهِ صِفَتُهم بِدُونِ تَعْيِينِ فَرِيقٍ، وطَرِيقَةُ العَرَبِ في مِثْلِ هَذا أنْ يُعَبِّرُوا بِصِيَغِ الجُمُوعِ وإنْ كانَ المُعَرَّضُ بِهِ واحِدًا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ﴾ [النساء: ٥٤] وقَوْلِهِ (﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧])
صفحة ٩
(﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيئُونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا﴾ [المائدة: ٤٤]) وقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «ما بالُ أقْوامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» .وجِيءَ بِالمُضارِعِ هُنا لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ هَذا أمْرٌ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ مُسْتَمِرٌّ، لِأنَّهم لَوْ كَفَرُوا في الماضِي ثُمَّ رَجَعُوا لَما كانُوا أحْرِياءَ بِالذَّمِّ.
ومَعْنى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ: أنَّهم لَمّا آمَنُوا بِهِ ووَصَفُوهُ بِصِفاتٍ غَيْرِ صِفاتِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ واتِّخاذِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ والحُلُولِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنُوا بِالِاسْمِ لا بِالمُسَمّى، وهم في الحَقِيقَةِ كَفَرُوا بِالمُسَمّى، كَما إذا كانَ أحَدٌ يَظُنُّ أنَّهُ يَعْرِفُ فُلانًا فَقُلْتَ لَهُ: صِفْهُ لِي، فَوَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفاتِهِ، تَقُولُ لَهُ: أنْتَ لا تَعْرِفُهُ، عَلى أنَّهم لَمّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَ بِهِ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ عَنْ مُماثَلَةِ الحَوادِثِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِإلَهِيَّتِهِ الحَقَّةِ؛ إذْ مِنهم مَن جَسَّمَ ومِنهم مَن ثَلَّثَ.
ومَعْنى قَوْلِهِ ﴿ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ أنَّهم يُحاوِلُونَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَتِ الإرادَةُ عَلى المُحاوَلَةِ، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّهُ أمْرٌ صَعْبُ المَنالِ، وأنَّهم لَمْ يَبْلُغُوا ما أرادُوا مِن ذَلِكَ، لِأنَّهم لَمْ يَزالُوا يُحاوِلُونَهُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ في قَوْلِهِ ويُرِيدُونَ ولَوْ بَلَغُوا إلَيْهِ لَقالَ: وفَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ.
ومَعْنى التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ أنَّهم يُنْكِرُونَ صِدْقَ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أرْسَلَهُمُ اللَّهُ، ويَعْتَرِفُونَ بِصِدْقِ بَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، ويَزْعُمُونَ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ إذْ نَفَوْا رِسالَتَهم فَأبْعَدُوهم مِنهُ، وهَذا اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ الأمْرَ المُتَخَيَّلَ في نُفُوسِهِمْ بِما يُضْمِرُهُ مُرِيدُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأوْلِياءِ والأحْبابِ، فَهي تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ، والغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ المُشَبَّهِ، إذْ قَدْ عَلِمَ النّاسُ أنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ المُتَّصِلِينَ ذَمِيمَةٌ.
وهَذِهِ الآيَةُ في مَعْنى الآياتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] - ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥]،
صفحة ١٠
وفِي سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٤] إلّا أنَّ تِلْكَ الآياتِ في التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ، والآيَةُ هَذِهِ في التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وبَعْضِ رُسُلِهِ، ومَآلُ الجَمِيعِ واحِدٌ؛ لِأنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الرُّسُلِ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وبَعْضِ رُسُلِهِ.وإضافَةُ الجَمْعِ إلى الضَّمِيرِ هُنا لِلْعَهْدِ لا لِلْعُمُومِ بِالقَرِينَةِ، وهي قَوْلُهُ ﴿ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ .
وجُمْلَةُ ﴿ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ واقِعَةٌ في مَعْنى الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ، ولَكِنَّها عُطِفَتْ؛ لِأنَّها شَأْنٌ خاصٌّ مِن شُئُونِهِمْ، إذْ مَدْلُولُها قَوْلٌ مِن أقْوالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، ومَدْلُولُ (يُرِيدُونَ) هَيْئَةٌ حاصِلَةٌ مِن كُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ العَطْفُ بِاعْتِبارِ المُغايَرَةِ ولَوْ في الجُمْلَةِ، ولَوْ فُصِلَتْ لَكانَ صَحِيحًا. ومَعْنى (يَقُولُونَ نُؤْمِنُ) الخَ أنَّ اليَهُودَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبِمُوسى ونَكْفُرُ بِعِيسى ومُحَمَّدٍ، والنَّصارى يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبِمُوسى وعِيسى ونَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وبَعْضِ رُسُلِهِ ظاهِرًا وفَرَّقُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ رُسُلِهِ.
والإرادَةُ في قَوْلِهِ ﴿ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ إرادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. والسَّبِيلُ يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ سَبِيلَ النَّجاةِ مِنَ المُؤاخَذَةِ في الآخِرَةِ تَوَهُّمًا أنَّ تِلْكَ حِيلَةٌ تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّلامَةَ عَلى تَقْدِيرِ سَلامَةِ المُؤْمِنِينَ، أوْ سَبِيلَ التَّنَصُّلِ مِنَ الكُفْرِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ، أوْ سَبِيلًا بَيْنَ دِينَيْنِ، وهَذانِ الوَجْهانِ الأخِيرانِ يُناسِبانِ انْتِقالَهم مِنَ الكُفْرِ الظّاهِرِ إلى النِّفاقِ، فَكَأنَّهُما تَهْيِئَةٌ لِلنِّفاقِ.
وهَذا التَّفْسِيرُ جارٍ عَلى ظاهِرِ نَظْمِ الكَلامِ، وهو أنْ يَكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مُشَرِّكًا بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ في حُكْمِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وإذْ قَدْ كانَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ الأوَّلُ صِلَةً لِـ (الَّذِينَ)، كانَ ما عُطِفَ عَلَيْهِ صِلاتٍ لِذَلِكَ المَوْصُولِ وكانَ ذَلِكَ المَوْصُولُ صاحِبَ تِلْكَ الصِّلاتِ كُلِّها.
صفحة ١١
ونُسِبَ إلى بَعْضِ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ جَعَلَ الواواتِ فِيها بِمَعْنى (أوْ) وجَعَلَ المَوْصُولَ شامِلًا لِفِرَقٍ مِنَ الكُفّارِ تَعَدَّدَتْ أحْوالُ كُفْرِهِمْ عَلى تَوْزِيعِ الصِّلاتِ المُتَعاطِفَةِ، فَجَعَلَ المُرادَ بِالَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ المُشْرِكِينَ، والَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ قَوْمًا أثْبَتُوا الخالِقَ وأنْكَرُوا النُّبُوءاتِ كُلَّها، والَّذِينَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ اليَهُودُ والنَّصارى. وسَكَتَ عَنِ المُرادِ مِن قَوْلِهِ ﴿ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، ولَوْ شاءَ لَجَعَلَ أُولَئِكَ فَرِيقًا آخَرَ: وهُمُ المُنافِقُونَ المُتَرَدِّدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتُوا عَلى إيمانٍ ولا عَلى كُفْرٍ، بَلْ كانُوا بَيْنَ الحالَيْنِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [النساء: ١٤٣] . والَّذِي دَعاهُ إلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّهُ لَمْ يَجِدْ فَرِيقًا جَمَعَ هَذِهِ الأحْوالَ كُلَّها عَلى ظاهِرِها لِأنَّ اليَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ تَأْوِيلَ الكُفْرِ بِاللَّهِ الكُفْرُ بِالصِّفاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الكُفْرُ بِها نَفْيَ الإلَهِيَّةِ.وهَذا الأُسْلُوبُ نادِرُ الِاسْتِعْمالِ في فَصِيحِ الكَلامِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَكانَ الشَّأْنُ أنْ يُقالَ: والَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ والَّذِينَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] .
وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا﴾ الجُمْلَةُ خَبَرُ (إنَّ) والإشارَةُ إلى أصْحابِ تِلْكَ الصِّلَةِ الماضِيَةِ، ومَوْقِعُ الإشارَةِ هُنا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِمْ لِاسْتِحْضارِهِمْ بِتِلْكَ الأوْصافِ أحْرِياءٌ بِما سَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الحُكْمِ المُعاقِبِ لِاسْمِ الإشارَةِ.
وأفادَ تَعْرِيفُ جُزْأيِ الجُمْلَةِ والإتْيانُ بِضَمِيرِ الفَصْلِ تَأْكِيدَ قَصْرِ صِفَةِ الكُفْرِ عَلَيْهِمْ، وهو قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ مَجازِيٌّ بِتَنْزِيلِ كُفْرِ غَيْرِهِمْ في جانِبِ كُفْرِهِمْ مَنزِلَةَ العَدَمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى في المُنافِقِينَ: (﴿هُمُ العَدُوُّ﴾ [المنافقون: ٤]) . ومِثْلُ هَذا القَصْرِ يَدُلُّ عَلى كَمالِ المَوْصُوفِ في تِلْكَ الصِّفَةِ المَقْصُورَةِ.
صفحة ١٢
ووَجْهُ هَذِهِ المُبالَغَةِ: أنَّ كُفْرَهم قَدِ اشْتَمَلَ عَلى أحْوالٍ عَدِيدَةٍ مِنَ الكُفْرِ، وعَلى سَفالَةٍ في الخُلُقِ، أوْ سَفاهَةٍ في الرَّأْيِ بِمَجْمُوعِ ما حُكِيَ عَنْهم مِن تِلْكَ الصِّلاتِ، فَإنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنها إذا انْفَرَدَتْ هي كُفْرٌ، فَكَيْفَ بِها إذا اجْتَمَعَتْ.و(حَقًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أيْ حُقَّهم حَقًّا أيُّها السّامِعُ بِالِغِينَ النِّهايَةَ في الكُفْرِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهم (جِدًّا) . والتَّوْكِيدُ في مِثْلِ هَذا لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَلى ما أفادَتْهُ الجُمْلَةُ، ولَيْسَ هو لِرَفْعِ المَجازِ، فَهو تَأْكِيدٌ لِما أفادَتْهُ الجُمْلَةُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى مَعْنى النِّهايَةِ لِأنَّ القَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ في ذَلِكَ المَعْنى، ولَمْ يَقْصِدْ بِالتَّوْكِيدِ أنْ يَصِيرَ القَصْرُ حَقِيقِيًّا لِظُهُورِ أنَّ ذَلِكَ لا يَسْتَقِيمُ، فَقَوْلُ بَعْضِ النُّحاةِ في المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ: إنَّهُ يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمالِ المَجازِ، بِناءً مِنهم عَلى الغالِبِ في مُفادِ التَّأْكِيدِ.
و(أعْتَدْنا) مَعْناهُ هَيَّأْنا وقَدَّرْنا، والتّاءُ في (أعْتَدْنا) بَدَلٌ مِنَ الدّالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن عُلَماءِ اللُّغَةِ، وقالَ كَثِيرٌ مِنهم: التّاءُ أصْلِيَّةٌ، وأنَّهُ بِناءٌ عَلى حِدَةٍ هو غَيْرُ بِناءِ (عَدَّ) . وقالَ بَعْضُهم: إنَّ (عَتُدَ) هو الأصْلُ وأنَّ (عَدَّ) أُدْغِمَتْ مِنهُ التّاءُ في الدّالِ، وقَدْ ورَدَ البِناءانِ كَثِيرًا في كَلامِهِمْ وفي القُرْآنِ.
وجِيءَ بِجُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ إلى آخِرِها لِمُقابَلَةِ المُسِيئِينَ بِالمُحْسِنِينَ، والنِّذارَةِ بِالبِشارَةِ عَلى عادَةِ القُرْآنِ.
والمُرادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا المُؤْمِنُونَ كُلُّهم وخاصَّةً مَن آمَنُوا مِن أهْلِ الكِتابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ. فَهم مَقْصُودُونَ ابْتِداءً لِما أشْعَرَ بِهِ مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَلالِهِمْ ولِما اقْتَضاهُ تَذْيِيلُ الجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أيْ غَفُورًا لَهم ما سَلَفَ مِن كُفْرِهِمْ، رَحِيمًا بِهِمْ.
والقَوْلُ في الإتْيانِ بِالمَوْصُولِ وبِاسْمِ الإشارَةِ في هَذِهِ الجُمْلَةِ كالقَوْلِ في مُقابِلِهِ.
وقَوْلُهُ ﴿بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
صفحة ١٣
وقَرَأ الجُمْهُورُ: نُؤْتِيهِمْ بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِياءِ الغائِبِ والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ .