﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا﴾ .

صفحة ٤٦

يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنا أهْلَ الكِتابِ، أيِ اليَهُودَ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ بِمَنزِلَةِ الفَذْلَكَةِ لِلْكَلامِ السّابِقِ الرّادِّ عَلى اليَهُودِ مِنَ التَّحاوُرِ المُتَقَدِّمِ.

وصَدُّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن صَدِّ القاصِرِ الَّذِي قِياسُ مُضارِعِهِ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصّادِ، أيْ أعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أيِ الإسْلامِ، أوْ هو مِن (صَدَّ) المُتَعَدِّي الَّذِي قِياسُ مُضارِعِهِ بِضَمِّ الصّادِ، أيْ صَدُّوا النّاسَ. وحُذِفَ المَفْعُولُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ. فَقَدْ كانَ اليَهُودُ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالفِتْنَةِ، ويُقَوُّونَ أوْهامَ المُشْرِكِينَ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ ﷺ . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا المُشْرِكِينَ، كَما هو الغالِبُ في إطْلاقِ هَذا الوَصْفِ في القُرْآنِ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا، انْتَقَلَ إلَيْهِ بِمُناسَبَةِ الخَوْضِ في مُناواةِ أهْلِ الكِتابِ لِلْإسْلامِ. وصَدُّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أيْ صَدُّهُمُ النّاسَ عَنِ الدُّخُولِ في الإسْلامِ مَشْهُورٌ.

والضَّلالُ الكُفْرُ لِأنَّهُ ضَياعٌ عَنِ الإيمانِ، الَّذِي هو طَرِيقُ الخَيْرِ والسَّعادَةِ، فَإطْلاقُ الضَّلالِ عَلى الكُفْرِ اسْتِعارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى اسْتِعارَةِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ لِلْإيمانِ.

ووَصْفُ الضَّلالِ بِالبَعِيدِ مَعَ أنَّ البُعْدَ مِن صِفاتِ المَسافاتِ هو اسْتِعارَةُ البُعْدِ لِشِدَّةِ الضَّلالِ وكَمالِهِ في نَوْعِهِ، بِحَيْثُ لا يُدْرَكُ مِقْدارُهُ، وهو تَشْبِيهٌ شائِعٌ في كَلامِهِمْ: أنْ يُشَبِّهُوا بُلُوغَ الكَمالِ بِما يَدُلُّ عَلى المَسافاتِ والنِّهاياتِ كَقَوْلِهِمْ: بَعِيدُ الغَوْرِ، وبَعِيدُ القَعْرِ، ولا نِهايَةَ لَهُ، ولا غايَةَ لَهُ، ورَجُلٌ بَعِيدُ الهِمَّةِ، وبَعِيدُ المَرْمى، ولا مُنْتَهى لِكِبارِها، وبَحْرٌ لا ساحِلَ لَهُ، وقَوْلِهِمْ: هَذا إغْراقٌ في كَذا.

ومِن بَدِيعِ مُناسَبَتِهِ هُنا أنَّ الضَّلالَ الحَقِيقِيَّ يَكُونُ في الفَيافِي والمَوامِي، فَإذا اشْتَدَّ التِّيهُ والضَّلالُ بَعُدَ صاحِبُهُ عَنِ المَعْمُورِ، فَكانَ في وصْفِهِ بِالبَعِيدِ تَعاهُدٌ لِلْحَقِيقَةِ، وإيماءٌ إلى أنَّ في إطْلاقِهِ عَلى الكُفْرِ والجَهْلِ نَقْلًا عُرْفِيًّا.