﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكم وأنْزَلْنا إلَيْكم نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤] ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهم في رَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ .

فَذْلَكَةٌ لِلْكَلامِ السّابِقِ بِما هو جامِعٌ لِلْأخْذِ بِالهُدى ونَبْذُ الضَّلالِ، بِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ مِن دَلائِلِ الحَقِّ وكَبْحِ الباطِلِ. فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ وإقْبالٌ عَلى خِطابِ النّاسِ كُلِّهِمْ بَعْدَ أنْ كانَ الخِطابُ مُوَجَّهًا إلى أهْلِ الكِتابِ خاصَّةً. والبُرْهانُ: الحُجَّةُ، وقَدْ يُخَصَّصُ بِالحُجَّةِ الواضِحَةِ الفاصِلَةِ، وهو غالِبُ ما يُقْصَدُ بِهِ في القُرْآنِ، ولِهَذا سَمّى حُكَماءُ الإسْلامِ أجَلَّ أنْواعِ الدَّلِيلِ بُرْهانًا.

والمُرادُ هُنا دَلائِلُ النُّبُوءَةِ. وأمّا النُّورُ المُبِينُ فَهو القُرْآنُ لِقَوْلِهِ وأنْزَلْنا، والقَوْلُ في (جاءَكم) كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ المُتَقَدِّمِ في قَوْلِهِ ﴿قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَبِّكُمْ﴾ [النساء: ١٧٠]، وكَذَلِكَ القَوْلُ في (﴿أنْزَلْنا إلَيْكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠]) .

و(أمّا) في قَوْلِهِ (﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّفْصِيلِ: تَفْصِيلًا لِما دَلَّ عَلَيْهِ (يا أيُّها النّاسُ) مِنِ اخْتِلافِ الفِرَقِ والنَّزَعاتِ: بَيْنَ قابِلٍ

صفحة ٦٣

لِلْبُرْهانِ والنُّورِ، ومُكابِرٍ جاحِدٍ، ويَكُونُ مُعادِلُ هَذا الشَّقِّ مَحْذُوفًا لِلتَّهْوِيلِ، أيْ: وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا تَسَلْ عَنْهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (أمّا) لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وهو شَرْطٌ لِعُمُومِ الأحْوالِ، لِأنَّ (أمّا) في الشَّرْطِ بِمَعْنى مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ وفي هَذِهِ الحالَةِ لا تُفِيدُ التَّفْصِيلَ ولا تَطْلُبُ مُعادِلًا.

والِاعْتِصامُ: اللَّوْذُ، والِاعْتِصامُ بِاللَّهِ اسْتِعارَةٌ لِلَّوْذِ بِدِينِهِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

والإدْخالُ في الرَّحْمَةِ والفَضْلِ عِبارَةٌ عَنِ الرِّضى.

وقَوْلُهُ ﴿ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾، تَعَلُّقُ الجارِّ والمَجْرُورِ بِـ يَهْدِي ) فَهو ظَرْفُ لَغْوٍ، و(صِراطًا) مَفْعُولُ (يَهْدِي)، والمَعْنى يَهْدِيهِمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا لِيَصِلُوا إلَيْهِ، أيْ إلى اللَّهِ، وذَلِكَ هو مُتَمَنّاهم، إذْ قَدْ عَلِمُوا أنَّ وعْدَهم عِنْدَهُ.