﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهْ ويَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .

لا مُناسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ اللّاتِي قَبْلَها، فَوُقُوعُها عَقِبَها لا يَكُونُ إلّا لِأجْلِ نُزُولِها عَقِبَ نُزُولِ ما تَقَدَّمَها مِن هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ مُناسَبَتِها لِآيَةِ الكَلالَةِ السّابِقَةِ في أثْناءِ ذِكْرِ الفَرائِضِ؛ لِأنَّ في هَذِهِ الآيَةِ بَيانًا لِحَقِيقَةِ الكَلالَةِ أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى (لَيْسَ لَهُ ولَدٌ)، وقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ أنَّهُ ألْحَقَ بِالكَلالَةِ المالِكَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ والِدٌ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ ومالِكِ بْنِ أنَسٍ.

فَحُكْمُ الكَلالَةِ قَدْ بُيِّنَ بَعْضُهُ في آيَةٍ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ إنَّ النّاسَ سَألُوا

صفحة ٦٤

رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صُورَةٍ أُخْرى مِن صُوَرِ الكَلالَةِ. وثَبَتَ في الصَّحِيحِ أنَّ الَّذِي سَألَهُ هو جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «عادَنِي رَسُولُ اللَّهِ وأبُو بَكْرٍ ماشِيَيْنِ في بَنِي سَلَمَةَ فَوَجَدانِي مُغْمًى عَلَيَّ فَتَوَضَّأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وصَبَّ عَلَيَّ وضُوءَهُ فَأفَقْتُ وقُلْتُ: كَيْفَ أصْنَعُ في مالِي فَإنَّما يَرِثُنِي كَلالَةٌ ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ الآيَةَ» . وقَدْ قِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَجَهِّزٌ لِحِجَّةِ الوَداعِ في قَضِيَّةِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.

فَضَمِيرُ الجَماعَةِ في قَوْلِهِ (﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾) غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ جَمْعٌ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ السّائِلِينَ، عَلى نَحْوِ: ”«ما بالُ أقْوامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا» “ وهَذا كَثِيرٌ في الكَلامِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ قَدْ تَكَرَّرَ وكانَ آخِرُ السّائِلَيْنِ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَتَأخَّرَ الجَوابُ لِمَن سَألَ قَبْلَهُ، وعُجِّلَ البَيانُ لَهُ لِأنَّهُ وقْتُ الحاجَةِ لِأنَّهُ كانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَيِّتًا مِن ذَلِكَ المَرَضِ وأرادَ أنْ يُوصِيَ بِمالِهِ، فَيَكُونُ مِن تَأْخِيرِ البَيانِ إلى وقْتِ الحاجَةِ.

والتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ في مادَّةِ السُّؤالِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ، نَحْوُ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ [البقرة: ١٨٩]، ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩] . لِأنَّ شَأْنَ السُّؤالِ يَتَكَرَّرُ، فَشاعَ إيرادُهُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ، وقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمالُ بَعْضِ صِيَغِ الفِعْلِ في بَعْضِ المَواقِعِ، ومِنهُ غَلَبَةُ اسْتِعْمالِ المُضارِعِ في الدُّعاءِ في مَقامِ الإنْكارِ: كَقَوْلِ عائِشَةَ ”يَرْحَمُ اللَّهُ أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ“ تَعْنِي ابْنَ عُمَرَ، وقَوْلِهِمْ ”يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ“ . ومِنهُ غَلَبَةُ الماضِي مَعَ (لا) فِيَةِ في الدُّعاءِ إذا لَمْ تُكَرَّرْ (لا)؛ نَحْوُ (فَلا رَجَعَ) . عَلى أنَّ الكَلالَةَ قَدْ تَكَرَّرَ فِيها السُّؤالُ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ وبَعْدَها. وقَدْ «قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: ”ما راجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ في شَيْءٍ مُراجِعَتِي إيّاهُ في الكَلالَةِ، وما أغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في شَيْءٍ ما أغْلَظَ لِي فِيها حَتّى طَعَنَ في نَحْرِي وقالَ يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي في آخِرِ سُورَةِ النِّساءِ“» وقَوْلُهُ (في الكَلالَةِ) يَتَنازَعُهُ في التَّعَلُّقِ كُلٌّ مِن فِعْلِ (يَسْتَفْتُونَكَ) وفِعْلِ (يُفْتِيكم) .

صفحة ٦٥

وقَدْ سَمّى النَّبِيءُ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ بِآيَةِ الصَّيْفِ، وعُرِفَتْ بِذَلِكَ، كَما عُرِفَتْ آيَةُ الكَلالَةِ الَّتِي في أوَّلِ السُّورَةِ بِآيَةِ الشِّتاءِ، وهَذا يَدُلُّنا عَلى أنَّ سُورَةَ النِّساءِ نَزَلَتْ في مُدَّةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الشِّتاءِ إلى الصَّيْفِ وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا في افْتِتاحِ السُّورَةِ.

وقَدْ رُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في الكَلالَةِ نَزَلَتْ في طَرِيقِ حَجَّةِ الوَداعِ، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأنَّ حَجَّةَ الوَداعِ كانَتْ في زَمَنِ البَرْدِ لِأنَّهُ لا شَكَّ أنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ وقَعَتْ في وقْتِ الحَرِّ حِينَ طابَتِ الثِّمارُ، والنّاسُ يُحِبُّونَ المَقامَ في ثِمارِهِمْ وظِلالِهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ غَزْوَةُ تَبُوكَ في نَحْوِ شَهْرِ أُغُسْطُسَ أوِ اشْتَنْبِرَ وهو وقْتٌ طَيِّبُ البُسْرِ والرُّطَبِ، وكانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وكانَتْ في رَجَبٍ ونَزَلَ فِيها قَوْلُهُ تَعالى ﴿وقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرِّ﴾ [التوبة: ٨١] . ثُمَّ كانَتْ حَجَّةُ أبِي بَكْرٍ في ذِي القِعْدَةِ مِن تِلْكَ السَّنَةِ، سَنَةِ تِسْعٍ، وذَلِكَ يُوافِقُ دِجَنْبِرَ. وكانَ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَجَّةَ الوَداعِ في ذِي الحِجَّةِ مِن سَنَةِ عَشْرٍ فَيُوافِقُ نَحْوَ شَهْرِ دِجَنْبِرَ أيْضًا.

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: أنَّهُ خَطَبَ فَقالَ: ”ثَلاثٌ لَوْ بَيَّنَها رَسُولُ اللَّهِ لَكانَ أحَبَّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها: الجَدُّ. والكَلالَةُ، وأبْوابُ الرِّبا“ وفي رِوايَةٍ والخِلافَةُ. وخَطَبَ أيْضًا فَقالَ: ”واللَّهِ إنِّي ما أدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هو أهَمُّ إلَيَّ مِن أمْرِ الكَلالَةِ“ . وقالَ في مَجْمَعٍ مِنَ الصَّحابَةِ: ”لَأقْضِيَنَّ في الكَلالَةِ قَضاءً تَتَحَدَّثُ بِهِ النِّساءُ في خُدُورِها“ . وأنَّهُ كَتَبَ كِتابًا في ذَلِكَ فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ، فَلَمّا طُعِنَ دَعا بِالكِتابِ فَمَحاهُ.

ولَيْسَ تَحَيُّرُ عُمَرَ في أمْرِ الكَلالَةِ بِتَحَيُّرٍ في فَهْمِ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ ولَكِنَّهُ في انْدِراجِ ما لَمْ يَذْكُرْهُ القُرْآنُ تَحْتَ ما ذَكَرَهُ بِالقِياسِ. وقَدْ ذَكَرَ القُرْآنُ الكَلالَةَ في أرْبَعِ آياتٍ: آيَتَيْ هَذِهِ السُّورَةِ المَذْكُورِ فِيها لَفْظُ الكَلالَةِ، وآيَةٍ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وهي قَوْلُهُ ﴿فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ [النساء: ١١]، وآيَةِ آخِرِ الأنْفالِ وهي قَوْلُهُ ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٥] عِنْدَ مَن رَأى تَوارُثَ ذَوِي الأرْحامِ. ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ لَيْسَ فِيها ولَدٌ ولا والِدٌ فَهي كَلالَةٌ بِالِاتِّفاقِ، فَأمّا الفَرِيضَةُ الَّتِي

صفحة ٦٦

لَيْسَ فِيها ولَدٌ وفِيها والِدٌ فالجُمْهُورُ أنَّها لَيْسَتْ بِكَلالَةٍ، وقالَ بَعْضُ المُتَقَدِّمِينَ: هي كَلالَةٌ.

وأمَرَهُ بِأنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ (اللَّهُ يُفْتِيكم) لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الفَرِيضَةِ، فَتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِلِاهْتِمامِ لا لِلْقَصْرِ، إذْ قَدْ عَلِمَ المُسْتَفْتُونَ أنَّ الرَّسُولَ لا يَنْطِقُ إلّا عَنْ وحْيٍ، فَهم لَمّا اسْتَفْتَوْهُ فَإنَّما طَلَبُوا حُكْمَ اللَّهِ، فَإسْنادُ الإفْتاءِ إلى اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الفَرِيضَةِ.

والمُرادُ بِالأُخْتِ هُنا الأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أوِ الَّتِي لِلْأبِ في عَدَمِ الشَّقِيقَةِ بِقَرِينَةٍ مُخالِفَةٍ نَصِيبُها لِنَصِيبِ الأُخْتِ لِلْأُمِّ المَقْصُودَةِ في آيَةِ الكَلالَةِ الأُولى، وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (﴿وهُوَ يَرِثُها﴾) لِأنَّ الأخَّ لِلْأُمِّ لا يَرِثُ جَمِيعَ المالِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِأُخْتِهِ لِلْأُمِّ ولَدٌ إذْ لَيْسَ لَهُ إلّا السُّدُسُ.

وقَوْلُهُ (﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾) تَقْدِيرُهُ: إنْ هَلَكَ امْرُؤٌ، فامْرُؤٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِـ (هَلَكَ) في سِياقِ الشَّرْطِ، ولَيْسَ (هَلَكَ) بِوَصْفٍ لِـ (امْرُؤٌ) فَلِذَلِكَ كانَ الِامْرُؤُ المَفْرُوضُ هُنا جِنْسًا عامًّا.

وقَوْلُهُ (﴿وهُوَ يَرِثُها﴾) يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلى لَفْظِ (امْرُؤٌ) الواقِعِ في سِياقِ الشَّرْطِ، المُفِيدِ لِلْعُمُومِ: ذَلِكَ أنَّهُ وقَعَ في سِياقِ الشَّرْطِ لَفْظُ (امْرُؤٌ) ولَفْظُ (أخٍ) أوْ (أُخْتٍ)، وكُلُّها نَكِراتٌ واقِعَةٌ في سِياقِ الشَّرْطِ، فَهي عامَّةٌ مَقْصُودٌ مِنها أجْناسُ مَدْلُولاتِها، ولَيْسَ مَقْصُودًا بِها شَخْصٌ مُعَيَّنٌ قَدْ هَلَكَ، ولا أُخْتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدْ ورِثَتْ، فَلَمّا قالَ (﴿وهُوَ يَرِثُها﴾) كانَ الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ راجِعًا إلى (امْرُؤٌ) لا إلى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَدْ هَلَكَ؛ إذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ فَلا يُشْكِلُ عَلَيْكَ بِأنَّ قَوْلَهُ (﴿امْرُؤٌ هَلَكَ﴾) يَتَأكَّدُ بِقَوْلِهِ (﴿وهُوَ يَرِثُها﴾) إذْ كَيْفَ يَصِيرُ الهالِكُ وارِثًا. وأيْضًا كانَ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ في (يَرِثُها) عائِدًا إلى مَفْهُومِ لَفْظِ أُخْتٍ لا إلى أُخْتٍ مُعَيَّنَةٍ، إذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ، وعُلِمَ مِن قَوْلِهِ يَرِثُها أنَّ الأُخْتَ إنْ تُوُفِّيَتْ ولا ولَدَ لَها، يَرِثُها أخُوها، والأخُ هو الوارِثُ في هَذِهِ

صفحة ٦٧

الصُّورَةِ، وهي عَكْسُ الَّتِي قَبْلَها، فالتَّقْدِيرُ: ويَرِثُ الأُخْتَ امْرُؤٌ إنْ هَلَكَتْ أُخْتُهُ ولَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ. وعُلِمَ مَعْنى الإخْوَةِ مِن قَوْلِهِ (ولَهُ أُخْتٌ)، وهَذا إيجازٌ بَدِيعٌ، ومَعَ غايَةِ إيجازِهِ فَهو في غايَةِ الوُضُوحِ، فَلا يُشْكِلُ بِأنَّ الأُخْتَ كانَتْ وارِثَةً لِأخِيها فَكَيْفَ عادَ عَلَيْها الضَّمِيرُ بِأنْ يَرِثَها أخُوها المَوْرُوثُ، وتَصِيرُ هي مَوْرُوثَةً، لِأنَّ هَذا لا يَفْرِضُهُ عالِمٌ بِالعَرَبِيَّةِ، وإنَّما يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ لَوْ وقَعَ الهَلْكُ وصْفًا لِامْرِئٍ؛ بِأنْ قِيلَ: المَرْءُ الهالِكُ يَرِثُهُ وارِثُهُ وهو يَرِثُ وارِثَهُ إنْ ماتَ وارِثُهُ قَبْلَهُ. والفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمالَيْنِ رَشِيقٌ في العَرَبِيَّةِ.

وقَوْلُهُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا امْتِنانٌ، و(﴿أنْ تَضِلُّوا﴾) تَعْلِيلٌ لِـ (يُبَيِّنُ) حُذِفَتْ مِنهُ اللّامُ، وحَذْفُ الجارِّ مَعَ (أنْ) شائِعٌ. والمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ الضَّلالِ لا لِوُقُوعِهِ؛ لِأنَّ البَيانَ يُنافِي التَّضْلِيلَ، فَحُذِفَتْ لا النّافِيَةُ، وحَذْفُها مَوْجُودٌ في مَواقِعَ مِن كَلامِهِمْ إذا اتَّضَحَ المَعْنى، كَما ورَدَ مَعَ فِعْلِ القَسَمِ في نَحْوِ:

فَآلَيْنا عَلَيْها أنْ تُباعا

أيْ أنْ لا تُباعَ، وقَوْلِهِ:

آلَيْتُ حَبَّ العِراقِ الدَّهْرَ أطْعَمُهُ

وهَذا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:

نَزَلْتُمْ مَنزِلَ الأضْيافِ مِنّا ∗∗∗ فَعَجَّلْنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا

أيْ أنْ لا تَشْتُمُونا بِالبُخْلِ، وهَذا تَأْوِيلُ الكُوفِيِّينَ، وتَأوَّلَ البَصْرِيُّونَ الآيَةَ والبَيْتَ ونَظائِرَهُما عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ هو المَفْعُولُ لِأجْلِهِ، أيْ كَراهَةَ أنْ تَضِلُّوا، وبِذَلِكَ قَدَّرَها في الكَشّافِ.

وقَدْ جَعَلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ (أنْ تَضِلُّوا) مَفْعُولًا بِهِ لِـ (يُبَيِّنُ) وقالَ: المَعْنى أنَّ اللَّهَ فِيما بَيَّنَهُ مِنَ الفَرائِضِ قَدْ بَيَّنَ لَكم ضَلالَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ، وهَذا بَعِيدٌ؛ إذْ لَيْسَ ما فَعَلُوهُ في الجاهِلِيَّةِ ضَلالًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ، لِأنَّ قِسْمَةَ

صفحة ٦٨

المالِ لَيْسَتْ مِنَ الأفْعالِ المُشْتَمِلَةِ عَلى صِفَةِ حَسَنٍ وقَبِيحٍ بَيِّنَةٍ إلّا إذا كانَ فِيها حِرْمانٌ لِمَن هو حَقِيقٌ بِالمُؤاساةِ والمَبَرَّةِ، ولِأنَّ المَصْدَرَ مَعَ (أنْ) يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المُسْتَقْبَلِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُرادَ بِـ (أنْ تَضِلُّوا) ضَلالًا قَدْ مَضى، وسَيَجِيءُ زِيادَةُ بَيانٍ لِهَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ [الأنعام: ١٥٦]) في سُورَةِ الأنْعامِ.

وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ كانَ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ يَقُولُ: ”اللَّهُمَّ مَن بُيِّنَتْ لَهُ الكَلالَةُ فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي“ رَواهُ الطَّبَرِيُّ، وفي سَنَدِهِ انْقِطاعٌ، وقَدْ ضَعَّفُوهُ.

وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ. وفي هَذِهِ الآيَةِ إيذانٌ بِخَتْمِ الكَلامِ، كَقَوْلِهِ ﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ولْيُنْذَرُوا بِهْ﴾ [إبراهيم: ٥٢] الآيَةَ، وكَقَوْلِهِ تَعالى في حِكايَةِ كَلامِ صاحِبِ مُوسى ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٨٢] . فَتُؤْذِنُ بِخِتامِ السُّورَةِ.

وتُؤْذِنُ بِخِتامِ التَّنْزِيلِ إنْ صَحَّ أنَّها آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ كَما ذَلِكَ في بَعْضِ الرِّواياتِ، وإذا صَحَّ ذَلِكَ فَلا أرى اصْطِلاحَ عُلَماءِ بَلَدِنا عَلى أنْ يَخْتِمُوا تَقْرِيرَ دُرُوسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ ”واللَّهُ أعْلَمُ“ إلّا تَيَمُّنًا بِمُحاكاةِ خَتْمِ التَّنْزِيلِ.

* * *

صفحة ٦٩

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ المائِدَةِ

هَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وكُتُبِ السُّنَّةِ، بِسُورَةِ المائِدَةِ: لِأنَّ فِيها قِصَّةُ المائِدَةِ الَّتِي أرْسَلَها الحَوارِيُّونَ مِن عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدِ اخْتُصَّتْ بِذِكْرِها. وفي مُسْنَدِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وغَيْرِهِ وقَعَتْ تَسْمِيَتُها سُورَةُ المائِدَةِ في كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، وأسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ، وغَيْرِهِمْ. فَهَذا أشْهَرُ أسْمائِها.

وتُسَمّى أيْضًا سُورَةَ العُقُودِ: إذْ وقَعَ هَذا اللَّفْظُ في أوَّلِها.

وتُسَمّى أيْضًا المُنْقِذَةَ. فَفي أحْكامِ ابْنِ الفَرَسِ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ قالَ: «سُورَةُ المائِدَةِ تُدْعى في مَلَكُوتِ السَّماواتِ المُنْقِذَةَ» . قالَ: أيْ أنَّها تُنْقِذُ صاحِبَها مِن أيْدِي مَلائِكَةِ العَذابِ.

وفِي كِتابِ كِناياتِ الأُدَباءِ لِأحْمَدَ الجُرْجانِيِّ يُقالُ: فُلانٌ لا يَقْرَأُ سُورَةَ الأخْيارِ، أيْ لا يَفِي بِالعَهْدِ، وذَلِكَ أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - كانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ المائِدَةِ سُورَةَ الأخْيارِ. قالَ جَرِيرٌ:

إنَّ البَعِيثَ وعَبْدَ آلِ مُتاعِسٍ لا يَقْرَآنِ بِسُورَةِ الأخْـيارِ

وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفاقٍ، رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ مُنْصَرَفُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ، بَعْدَ سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُها بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ بِمُدَّةٍ، لِأنَّ سُورَةَ المُمْتَحِنَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ رُجُوعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى المَدِينَةِ مِن صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وقَدْ جاءَتْهُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٌ، وطَلَبَ مِنهُ المُشْرِكُونَ إرْجاعَهُنَّ إلَيْهِمْ عَمَلًا بِشُرُوطِ الصُّلْحِ، فَأذِنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ إرْجاعِهِنَّ بَعْدَ امْتِحانِهِنَّ.

رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّ آيَةَ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ [المائدة: ٩٤] إلى (عَذابٍ ألِيمٍ) نَزَلَتْ عامَ الحُدَيْبِيَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ

صفحة ٧٠

الباعِثُ لِلَّذِينَ قالُوا: إنَّ سُورَةَ العُقُودِ نَزَلَتْ عامَ الحُدَيْبِيَةِ. ولَيْسَ وُجُودُ تِلْكَ الآيَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ بِمُقْتَضٍ أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ نُزُولِ السُّورَةِ سابِقًا عَلى نُزُولِ الآيَةِ إذْ قَدْ تَلْحَقُ الآيَةُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ مُتَأخِّرَةٍ عَنْها.

وفِي الإتْقانِ: إنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّساءِ، ولَكِنْ صَحَّ أنَّ آيَةَ ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ في عامِ حَجَّةِ الوَداعِ. ولِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتابِعَةً أوْ مُتَفَرِّقَةً، ولا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ في أنَّها نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً.

وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وعائِشَةَ أنَّها آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وقَدْ قِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ النِّساءِ، وما نَزَلَ بَعْدَها إلّا سُورَةُ (بَراءَةٌ)، بِناءً عَلى أنَّ (بَراءَةٌ) آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وهو قَوْلُ البَراءِ بْنِ عازِبٍ في صَحِيحِ البُخارِيِّ.

وفِي مُسْنَدِ أحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وأسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أنَّها نَزَلَتْ ورَسُولُ اللَّهِ في سَفَرٍ، وهو عَلى ناقَتِهِ العَضْباءِ، وأنَّها نَزَلَتْ عَلَيْهِ كُلَّها. قالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ المائِدَةِ في مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى حَجَّةِ الوَداعِ.

وفِي شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ أسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أنَّها نَزَلَتْ بِمِنًى.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أنَّها نَزَلَتْ في حَجَّةِ الوَداعِ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ.

وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ في اليَوْمِ الثّامِنَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ. وضُعِّفَ هَذا الحَدِيثُ.

وقَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [المائدة: ٢] أُنْزِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.

ومِنَ النّاسِ مَن رَوى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ في يَوْمِ اثْنَيْنِ.

وهُنالِكَ رِواياتٌ كَثِيرَةٌ أنَّها نَزَلَتْ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ؛ فَيَكُونُ ابْتِداءُ نُزُولِها بِالمَدِينَةِ قَبْلَ الخُرُوجِ إلى حَجَّةِ الوَداعِ.

وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ: أنَّهُ قالَ: ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ [المائدة: ٣] إلى

صفحة ٧١

(غَفُورٌ رَحِيمٌ) نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. ومِثْلُهُ عَنِ الضَّحّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُما أنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ في فَتْحِ مَكَّةَ وما بَعْدَهُ.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ: أنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ﴾ [المائدة: ١٥] إلى قَوْلِهِ ﴿صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٦] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ في عَرَفَةَ في حَجَّةِ الوَداعِ.

ويَظْهَرُ عِنْدِي أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُها بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّساءِ، وفي ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ اسْتَقامَ لَهُ أمْرُ العَرَبِ وأمْرُ المُنافِقِينَ ولَمْ يَبْقَ في عِنادِ الإسْلامِ إلّا اليَهُودُ والنَّصارى. أمّا اليَهُودُ فَلِأنَّهم مُخْتَلِطُونَ بِالمُسْلِمِينَ في المَدِينَةِ وما حَوْلَها، وأمّا النَّصارى فَلِأنَّ فُتُوحَ الإسْلامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ في حُدُودِ الشّامِ. وفي حَدِيثِ عُمَرَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ: وكانَ مَن حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقامَ لَهُ ولَمْ يَبْقَ إلّا مُلْكُ غَسّانَ بِالشّامِ كُنّا نَخافُ أنْ يَأْتِيَنا.

وقَدِ امْتازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّساعِ نِطاقِ المُجادَلَةِ مَعَ النَّصارى، واخْتِصارِ المُجادَلَةِ مَعَ اليَهُودِ، عَمّا في سُورَةِ النِّساءِ. مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ أمْرَ اليَهُودِ أخَذَ في تَراجُعٍ ووَهْنٍ، وأنَّ الِاخْتِلاطَ مَعَ النَّصارى أصْبَحَ أشَدَّ مِنهُ مِن ذِي قَبْلُ.

وفِي سُورَةِ النِّساءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَواتِ خاصَّةً، وفي سُورَةِ المائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتاتًا، فَهَذا مُتَأخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّساءِ لا مَحالَةَ. ولَيْسَ يَلْزَمُ أنْ لا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرى بَلْ يَجُوزُ أنْ تَنْزِلَ سُورَتانِ في مُدَّةٍ واحِدَةٍ.

وهِيَ، أيْضًا، مُتَأخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ (بَراءَةٌ): لِأنَّ (بَراءَةٌ) تَشْتَمِلُ عَلى كَثِيرٍ مِن أحْوالِ المُنافِقِينَ وسُورَةُ المائِدَةِ لا تَذْكُرُ مِن أحْوالِهِمْ إلّا مَرَّةً، وذَلِكَ

صفحة ٧٢

يُؤْذِنُ بِأنَّ النِّفاقَ حِينَ نُزُولِها قَدِ انْقَطَعَ، أوْ خُضِّدَتْ شَوْكَةُ أصْحابِهِ. وإذْ قَدْ كانَتْ سُورَةُ (بَراءَةٌ) نَزَلَتْ في عامِ حَجِّ أبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ، أعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ.

فَلا جَرَمَ أنَّ بَعْضَ سُورَةِ المائِدَةِ نَزَلَتْ في عامِ حَجَّةِ الوَداعِ، وحَسْبُكَ دَلِيلًا اشْتِمالُها عَلى آيَةِ ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] الَّتِي اتَّفَقَ أهْلُ الأثَرِ عَلى أنَّها نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، عامَ حِجَّةِ الوَداعِ، كَما في خَبَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. وفي سُورَةِ المائِدَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكم فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ [المائدة: ٣] . وفي خُطْبَةِ حِجَّةِ الوَداعِ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ في بَلَدِكم هَذا ولَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِما دُونَ ذَلِكَ مِمّا تُحَقِّرُونَ مِن أعْمالِكم» .

وقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الحادِيَةَ والتِسْعِينَ في عَدَدِ السُّوَرِ عَلى تَرْتِيبِ النُّزُولِ. عَنْ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الأحْزابِ وقَبْلَ سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ.

وعَدَدُ آيِها: مِائَةٌ واثْنَتانِ وعِشْرُونَ في عَدَدِ الجُمْهُورِ، ومِائَةٌ وثَلاثٌ وعِشْرُونَ في عَدِّ البَصْرِيِّينَ، ومِائَةٌ وعِشْرُونَ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ.

وجُعِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ في المُصْحَفِ قَبْلَ سُورَةِ الأنْعامِ مَعَ أنَّ سُورَةَ الأنْعامِ أكْثَرُ مِنها عَدَدَ آياتٍ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُراعاةِ اشْتِمالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلى أغْراضٍ تُشْبِهُ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ النِّساءِ عَوْنًا عَلى تَبْيِينِ إحْداهُما لِلْأُخْرى في تِلْكَ الأغْراضِ.

وقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى تَشْرِيعاتٍ كَثِيرَةٍ تُنْبِئُ بِأنَّها أُنْزِلَتْ لِاسْتِكْمالِ شَرائِعِ الإسْلامِ، ولِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالوِصايَةِ بِالوَفاءِ بِالعُقُودِ، أيْ بِما عاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ حِينَ دُخُولِهِمْ في الإسْلامِ مِنَ التِزامِ ما يُؤْمَرُونَ بِهِ، «فَقَدْ كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَأْخُذُ البَيْعَةَ عَلى الصَّلاةِ والزَّكاةِ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، كَما في حَدِيثِجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في الصَّحِيحِ» . وأخَذَ

صفحة ٧٣

البَيْعَةَ عَلى النّاسِ بِما في سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ، كَما رَوى عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ. ووَقَعَ في أوَّلِها قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ [المائدة: ١] . فَكانَتْ طالِعَتُها بَراعَةُ اسْتِهْلالٍ.

وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أنَّ فِيها تِسْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ في غَيْرِها، وهي سَبْعٌ في قَوْلِهِ ﴿والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ﴾ [المائدة: ٣] ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾ [المائدة: ٣]، ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ [المائدة: ٤]، ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [المائدة: ٥]، ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [المائدة: ٥]، وتَمامُ الطُّهُورِ إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ، (أيْ إتْمامُ ما لَمْ يُذْكَرْ في سُورَةِ النِّساءِ) ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾ [المائدة: ٣٨] . ﴿لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥] إلى قَوْلِهِ ﴿عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ [المائدة: ٩٥]، و﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وصِيلَةٍ ولا حامٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿شَهادَةُ بَيْنِكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [المائدة: ١٠٦] الآيَةَ وقَوْلِهِ (﴿وإذا نادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٥٨]) لَيْسَ في القُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْأذانِ لِلصَّلَواتِ إلّا في هَذِهِ السُّورَةِ. اهـ.

وقَدِ احْتَوَتْ عَلى تَمْيِيزِ الحَلالِ مِنَ الحَرامِ في المَأْكُولاتِ، وعَلى حِفْظِ شَعائِرِ اللَّهِ في الحَجِّ والشَّهْرِ الحَرامِ، والنَّهْيِ عَنْ بَعْضِ المُحَرَّماتِ مِن عَوائِدِ الجاهِلِيَّةِ مِثْلِ الأزْلامِ، وفِيها شَرائِعُ الوُضُوءِ، والغُسْلِ، والتَّيَمُّمِ، والأمْرُ بِالعَدْلِ في الحُكْمِ، والأمْرُ بِالصِّدْقِ في الشَّهادَةِ، وأحْكامُ القِصاصِ في الأنْفُسِ والأعْضاءِ، وأحْكامُ الحِرابَةِ، وتَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ نِفاقِ المُنافِقِينَ، وتَحْرِيمُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، والأيْمانُ وكَفّارَتُها، والحُكْمُ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ، وأُصُولُ المُعامَلَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وبَيْنَ أهْلِ الكِتابِ، وبَيْنَ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ، والخَشْيَةُ مِن وِلايَتِهِمْ أنْ تُفْضِيَ إلى ارْتِدادِ المُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، وإبْطالُ العَقائِدِ الضّالَّةِ لِأهْلِ الكِتابَيْنِ، وذِكْرُ مَساوٍ مِن أعْمالِ اليَهُودِ، وإنْصافُ النَّصارى فِيما لَهم مَن حُسْنِ الأدَبِ وأنَّهم أرْجى لِلْإسْلامِ وذِكْرُ قَضِيَّةِ التِّيهِ، وأحْوالُ المُنافِقِينَ، والأمْرُ بِتَخَلُّقِ المُسْلِمِينَ بِما يُناقِضُ أخْلاقَ الضّالِّينَ في تَحْرِيمِ ما أُحِلَّ لَهم، والتَّنْوِيهُ بِالكَعْبَةِ وفَضائِلِها وبَرَكاتِها عَلى النّاسِ، وما تَخَلَّلَ ذَلِكَ أوْ تَقَدَّمَهُ مِنَ العِبَرِ، والتَّذْكِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى، والتَّعْرِيضُ بِما وقَعَ فِيهِ أهْلُ الكِتابِ مِن نَبْذِ ما أُمِرُوا بِهِ والتَّهاوُنِ فِيهِ، واسْتِدْعاؤُهم لِلْإيمانِ بِالرَّسُولِ المَوْعُودِ بِهِ.

صفحة ٧٤

وخُتِمَتْ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ القِيامَةِ، وشَهادَةِ الرُّسُلِ عَلى أُمَمِهِمْ، وشَهادَةِ عِيسى عَلى النَّصارى، وتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعالى.