﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ .

تَصْدِيرُ السُّورَةِ بِالأمْرِ بِالإيفاءِ بِالعُقُودِ مُؤْذِنٌ بِأنْ سَتَرِدُ بَعْدَهُ أحْكامٌ وعُقُودٌ كانَتْ عُقِدَتْ مِنَ اللَّهِ عَلى المُؤْمِنِينَ إجْمالًا وتَفْصِيلًا، ذَكَّرَهم بِها لِأنَّ عَلَيْهِمُ الإيفاءَ بِما عاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وهَذا كَما تُفْتَتَحُ الظَّهائِرُ السُّلْطانِيَّةُ بِعِبارَةِ: هَذا ظُهَيْرٌ كَرِيمٌ يُتَقَبَّلُ بِالطّاعَةِ والِامْتِثالِ. وذَلِكَ بَراعَةُ اسْتِهْلالٍ.

فالتَّعْرِيفُ في العُقُودِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ لِلِاسْتِغْراقِ، فَشَمَلَ العُقُودَ الَّتِي عاقَدَ المُسْلِمُونَ عَلَيْها رَبَّهم وهو الِامْتِثالُ لِشَرِيعَتِهِ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم ومِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكم بِهِ﴾ [المائدة: ٧]، ومِثْلِ ما كانَ يُبايِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ المُؤْمِنِينَ أنْ لا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقُوا ولا يَزْنُوا، ويَقُولُ لَهم: فَمَن وفّى مِنكم فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ.

وشَمَلَ العُقُودَ الَّتِي عاقَدَ المُسْلِمُونَ عَلَيْها المُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢]، وقَوْلِهِ ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢] . ويَشْمَلُ العُقُودَ الَّتِي يَتَعاقَدُها المُسْلِمُونَ بَيْنَهم.

والإيفاءُ هو إعْطاءُ الشَّيْءِ وافِيًا، أيْ غَيْرِ مَنقُوصٍ، ولَمّا كانَ تَحَقُّقُ تَرْكِ النَّقْصِ لا يَحْصُلُ في العُرْفِ إلّا بِالزِّيادَةِ عَلى القَدْرِ الواجِبِ، صارَ الإيفاءُ مُرادًا مِنهُ عُرْفًا العَدْلُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمُ أُجُورَهُمْ﴾ [النساء: ١٧٣] في سُورَةِ النِّساءِ.

والعُقُودُ جَمْعُ عَقْدٍ بِفَتْحِ العَيْنِ، وهو الِالتِزامُ الواقِعُ بَيْنَ جانِبَيْنِ في فِعْلٍ ما. وحَقِيقَتُهُ أنَّ العَقْدَ هو رَبْطُ الحَبْلِ بِالعَرُورَةِ ونَحْوِها، وشَدُّ الحَبَلِ في نَفْسِهِ أيْضًا عَقْدٌ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجازًا في الِالتِزامِ، فَغَلَبَ اسْتِعْمالُهُ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، قالَ الحُطَيْئَةُ:

صفحة ٧٥

قَوْمٌ إذا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَـارِهِـمُ شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَبا

فَذَكَرَ مَعَ العَقْدِ العِناجَ وهو حَبْلٌ يَشُدُّ القِرْبَةَ، وذَكَرَ الكَرَبَ وهو حَبْلٌ آخَرُ لِلْقِرْبَةِ؛ فَرَجَعَ بِالعَقْدِ المَجازِيِّ إلى لَوازِمِهِ فَتَخَيَّلَ مَعَهُ عِناجًا وكَرَبًا، وأرادَ بِجَمِيعِها تَخْيِيلَ الِاسْتِعارَةِ. فالعَقْدُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ ما يُعْقَدُ، وأُطْلِقَ مَجازًا عَلى التِزامٍ مِن جانِبَيْنِ لِشَيْءٍ ومُقابِلِهِ، والمَوْضِعُ المَشْدُودُ مِنَ الحَبْلِ يُسَمّى عُقْدَةً. وأُطْلِقَ العَقْدُ أيْضًا عَلى الشَّيْءِ المَعْقُودِ إطْلاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلى المَفْعُولِ؛ فالعُهُودُ عُقُودٌ، والتَّحالُفُ مِنَ العُقُودِ، والتَّبايُعُ والمُؤاجَرَةُ ونَحْوُهُما مِنَ العُقُودِ، وهي المُرادُ هُنا. ودَخَلَ في ذَلِكَ الأحْكامُ الَّتِي شَرَعَها اللَّهُ لِأنَّها كالعُقُودِ، إذْ قَدِ التَزَمَها الدّاخِلُ في الإسْلامِ ضِمْنًا، وفِيها عَهْدُ اللَّهِ الَّذِي أخَذَهُ عَلى النّاسِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بِهِ.

ويَقَعُ العَقْدُ في اصْطِلاحِ الفُقَهاءِ عَلى إنْشاءِ تَسْلِيمٍ أوْ تَحَمُّلٍ مِن جانِبَيْنِ؛ فَقَدْ يَكُونُ إنْشاءُ تَسْلِيمٍ كالبَيْعِ بِثَمَنٍ ناضٍّ، وقَدْ يَكُونُ إنْشاءُ تَحَمُّلٍ كالإجارَةِ بِأجْرٍ ناضٍّ، وكالسِّلْمِ والقِراضِ؛ وقَدْ يَكُونُ إنْشاءُ تَحَمُّلٍ مِن جانِبَيْنِ كالنِّكاحِ، إذِ المَهْرُ لَمْ يُعْتَبَرْ عِوَضًا وإنَّما العِوَضُ هو تَحَمُّلُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حُقُوقًا لِلْآخَرِ. والعُقُودُ كُلُّها تَحْتاجُ إلى إيجابٍ وقَبُولٍ.

والأمْرُ بِالإيفاءِ بِالعُقُودِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أنَّ إيفاءَ العاقِدِ بِعَقْدِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ يُقْضى بِهِ عَلَيْهِ، لِأنَّ العُقُودَ شُرِعَتْ لِسَدِّ حاجاتِ الأُمَّةِ فَهي مِن قِسْمِ المُناسِبِ الحاجِيِّ، فَيَكُونُ إتْمامُها حاجِيًّا؛ لِأنَّ مُكَمِّلَ كُلِّ قِسْمٍ مِن أقْسامِ المُناسِبِ الثَّلاثَةِ يَلْحَقُ بِمُكَمِّلِهِ: إنْ ضَرُورِيًّا، أوْ حاجِيًّا، أوْ تَحْسِينًا. وفي الحَدِيثِ «المُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ إلّا شَرْطًا أحَلَّ حَرامًا أوْ حَرَّمَ حَلالًا» .

فالعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ في انْعِقادِها مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ تُلْزِمُ بِإتْمامِ الصِّيغَةِ أوْ ما يَقُومُ مَقامَها، كالنِّكاحِ والبَيْعِ. والمُرادُ بِما يَقُومُ مَقامَ

صفحة ٧٦

الصِّيغَةِ نَحْوَ الإشارَةِ لِلْأبْكَمِ، ونَحْوَ المُعاطاةِ في البُيُوعِ. والعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ في انْعِقادِها الشُّرُوعَ فِيها بَعْدَ الصِّيغَةِ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، كالجُعْلِ والقِراضِ. وتَمْيِيزُ جُزْئِيّاتِ أحَدِ النَّوْعَيْنِ مِن جُزْئِيّاتِ الآخَرِ مَجالٌ لِلِاجْتِهادِ.

وقالَ القَرافِيُّ في الفَرْقِ التّاسِعِ والمِائَتَيْنِ: إنَّ أصْلَ العُقُودِ مِن حَيْثُ هي اللُّزُومُ، وإنَّ ما ثَبَتَ في الشَّرْعِ أوْ عِنْدَ المُجْتَهِدِينَ أنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى عَدَمِ اللُّزُومِ بِالقَوْلِ فَإنَّما ذَلِكَ لِأنَّ في بَعْضِ العُقُودِ خَفاءَ الحَقِّ المُلْتَزَمِ بِهِ فَيُخْشى تَطَرُّقُ الغَرَرِ إلَيْهِ، فَوَسَّعَ فِيها عَلى المُتَعاقِدِينَ فَلا تَلْزَمُهم إلّا بِالشُّرُوعِ في العَمَلِ، لِأنَّ الشُّرُوعَ فَرْعُ التَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ. ولِذَلِكَ اخْتَلَفَ المالِكِيَّةُ في عُقُودِ المُغارَسَةِ والمُزارَعَةِ والشَّرِكَةِ هَلْ تُلْحَقُ بِما مَصْلَحَتُهُ في لُزُومِهِ بِالقَوْلِ، أوْ بِما مَصْلَحَتُهُ في لُزُومِهِ بِالشُّرُوعِ. وقَدِ احْتَجَّ في الفَرْقِ السّادِسِ والتِسْعِينَ والمِائَةِ عَلى أنَّ أصْلَ العُقُودِ أنْ تُلْزَمَ بِالقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ وذَكَرَ أنَّ المالِكِيَّةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إبْطالِ حَدِيثِ: خِيارُ المَجْلِسِ؛ يَعْنِي بِناءً عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَرَّرَتْ أصْلًا مِن أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وهو أنَّ مَقْصِدَ الشّارِعِ مِنَ العُقُودِ تَمامُها، وبِذَلِكَ صارَ ما قَرَّرْتُهُ مُقَدَّمًا عِنْدَ مالِكٍ عَلى خَبَرِ الآحادِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ مالِكٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «”المُتَبايِعانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا“» .

واعْلَمْ أنَّ العَقْدَ قَدْ يَنْعَقِدُ عَلى اشْتِراطِ عَدَمِ اللُّزُومِ، كَبَيْعِ الخِيارِ، فَضَبَطَهُ الفُقَهاءُ بِمُدَّةٍ يُحْتاجُ إلى مِثْلِها عادَةً في اخْتِيارِ المَبِيعِ أوِ التَّشاوُرِ في شَأْنِهِ.

ومِنَ العُقُودِ المَأْمُورِ بِالوَفاءِ بِها عُقُودُ المُصالَحاتِ والمُهادَناتِ في الحُرُوبِ، والتَّعاقُدُ عَلى نَصْرِ المَظْلُومِ، وكُلُّ تَعاقُدٍ وقَعَ عَلى غَيْرِ أمْرٍ حَرامٍ، وقَدْ أغْنَتْ أحْكامُ الإسْلامِ عَنِ التَّعاقُدِ في مِثْلِ هَذا إذْ أصْبَحَ المُسْلِمُونَ كالجَسَدِ الواحِدِ، فَبَقِيَ الأمْرُ مُتَعَلِّقًا بِالإيفاءِ بِالعُقُودِ المُنْعَقِدَةِ في الجاهِلِيَّةِ عَلى نَصْرِ المَظْلُومِ ونَحْوِهِ: كَحِلْفِ الفُضُولِ. وفي الحَدِيثِ: «أوْفُوا

صفحة ٧٧

بِعُقُودِ الجاهِلِيَّةِ ولا تُحْدِثُوا عَقْدًا في الإسْلامِ» . وبَقِيَ أيْضًا ما تَعاقَدَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ كَصُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ النَّبِيءِ ﷺ وقُرَيْشٍ. وقَدْ رُوِيَ «أنَّ فُراتَ بْنَ حَيّانَ العِجْلِيَّ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ حِلْفِ الجاهِلِيَّةِ فَقالَ: لَعَلَّكَ تَسْألُ عَنْ حِلْفِ لُجَيْمٍ وتَيْمٍ، قالَ: نَعَمْ، قالَ: لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً» . قُلْتُ: وهَذا مِن أعْظَمِ ما عُرِفَ بِهِ الإسْلامُ بَيْنَهم في الوَفاءِ لِغَيْرِ مَن يَعْتَدِي عَلَيْهِ. وقَدْ كانَتْ خُزاعَةُ مِن قَبائِلِ العَرَبِ الَّتِي لَمْ تُناوِ المُسْلِمِينَ في الجاهِلِيَّةِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

* * *

﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ .

أشْعَرَ كَلامُ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ بِالتَّوَقُّفِ في تَوْجِيهِ اتِّصالِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ بِقَوْلِهِ ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ . فَفي تَلْخِيصِ الكَواشِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المُرادُ بِالعُقُودِ ما بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ اهـ. ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ مُرادُ ابْنِ عَبّاسٍ ما مَبْدَؤُهُ قَوْلُهُ (﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾) الآياتِ.

وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ فَتَأْوِيلُهُ أنَّ مَجْمُوعَ الكَلامِ تَفْصِيلٌ لا خُصُوصُ جُمْلَةِ ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾؛ فَإنَّ إباحَةَ الأنْعامِ لَيْسَتْ عَقْدًا يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ إلّا بِاعْتِبارِ ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ . وبِاعْتِبارِ إبْطالِ ما حَرَّمَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ باطِلًا مِمّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] الآياتِ.

والقَوْلُ عِنْدِي أنَّ جُمْلَةَ ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ تَمْهِيدٌ لِما سَيَرِدُ بَعْدَها مِنَ المَنهِيّاتِ: كَقَوْلِهِ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ وقَوْلِهِ ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى﴾ [المائدة: ٢] الَّتِي هي مِن عُقُودِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ فَكانَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِ بَعْضِ المُباحِ امْتِنانًا وتَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَتَلَقَّوُا التَّكالِيفَ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ؛

صفحة ٧٨

فالمَعْنى: إنْ حَرَّمْنا عَلَيْكم أشْياءَ فَقَدْ أبَحْنا لَكم أكْثَرَ مِنها، وإنْ ألْزَمْناكم أشْياءَ فَقَدْ جَعَلْناكم في سَعَةٍ مِن أشْياءَ أوْفَرَ مِنها، لِيَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ ما يُرِيدُ مِنهم إلّا صَلاحَهم واسْتِقامَتَهم.

فَجُمْلَةُ ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِأنَّها تَصْدِيرٌ لِلْكَلامِ بَعْدَ عُنْوانِهِ.

والبَهِيمَةُ: الحَيَوانُ البَرِّيُّ مِن ذَوِي الأرْبَعِ إنْسِيِّها ووَحْشِيِّها، عَدا السِّباعِ، فَتَشْمَلُ بَقْرَ الوَحْشِ والظِّباءِ. وإضافَةُ بَهِيمَةٍ إلى الأنْعامِ مِن إضافَةِ العامِّ لِلْخاصِّ، وهي بَيانِيَّةٌ كَقَوْلِهِمْ: ذُبابُ النَّحْلِ ومَدِينَةُ بَغْدادَ. فالمُرادُ الأنْعامُ خاصَّةً، لِأنَّها غالِبُ طَعامِ النّاسِ، وأمّا الوَحْشُ فَداخِلٌ في قَوْلِهِ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾، وهي هُنا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنْ يُرادَ مِنَ الأنْعامِ خُصُوصُ الإبِلِ لِغَلَبَةِ إطْلاقِ اسْمِ الأنْعامِ عَلَيْها، فَذُكِرَتْ (بَهِيمَةُ) لِشُمُولِ أصْنافِ الأنْعامِ الأرْبَعَةِ: الإبِلِ، والبَقَرِ، والغَنَمِ، والمَعِزِ.

والإضافَةُ البَيانِيَّةُ عَلى مَعْنى (مِن) الَّتِي لِلْبَيانِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] .

والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ مِن عُمُومِ الذَّواتِ والأحْوالِ، (وما يُتْلى) هو ما سَيُفَصَّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾، الواقِعُ حالًا مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في قَوْلِهِ (أُحِلَّتْ لَكم)، وهو حالٌ مُقَيِّدٌ مَعْنى الِاسْتِثْناءِ مِن عُمُومِ أحْوالٍ وأمْكِنَةٍ، لِأنَّ الحُرُمَ جَمْعُ حَرامٍ مِثْلُ رَداحٍ عَلى رُدُحٍ. وسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذا الوَصْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ٩٧] في هَذِهِ السُّورَةِ.

والحَرامُ وصْفٌ لِمَن أحْرَمَ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، أيْ نَواهُما. ووَصْفٌ أيْضًا لِمَن كانَ حالًّا في الحَرَمِ، ومِن إطْلاقِ المُحْرِمِ عَلى الحالِّ بِالحَرَمِ قَوْلُ الرّاعِي:

قَتَلُوا ابْنَ عَفّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِمًا

أيْ حالًّا بِحَرَمِ المَدِينَةِ.

صفحة ٧٩

والحَرَمُ: هو المَكانُ المَحْدُودُ المُحِيطُ بِمَكَّةَ مِن جِهاتِها عَلى حُدُودٍ مَعْرُوفَةٍ، وهو الَّذِي لا يُصادُ صَيْدُهُ ولا يُعْضِدُ شَجَرُهُ ولا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ، وهو المَعْرُوفُ الَّذِي حَدَّدَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ونَصَبَ أنْصابًا تُعْرَفُ بِها حُدُودُهُ، فاحْتَرَمَهُ العَرَبُ، وكانَ قُصَيٌّ قَدْ جَدَّدَها، واسْتَمَرَّتْ إلى أنْ بَدا لِقُرَيْشٍ أنْ يَنْزِعُوها، وذَلِكَ في مُدَّةِ إقامَةِ النَّبِيءِ ﷺ بِمَكَّةَ، واشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَلْبَثُوا أنْ أعادُوها كَما كانَتْ. ولَمّا كانَ عامُ فَتْحِ مَكَّةَ بَعَثَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَمِيمَ بْنَ أسَدٍ الخُزاعِيَّ فَجَدَّدَها، ثُمَّ أحْياها، وأوْضَحَها عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ في خِلافَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ، فَبَعَثَ لِتَجْدِيدِ حُدُودِ الحَرَمِ أرْبَعَةً مِن قُرَيْشٍ كانُوا يَتَبَدَّوْنَ في بِوادِي مَكَّةَ، وهم: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ المَخْزُومِيُّ، وحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ العُزّى العامِرِيُّ، وأزْهَرُ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، فَأقامُوا أنْصابًا جُعِلَتْ عَلاماتٍ عَلى تَخْطِيطِ الحَرَمِ عَلى حَسَبِ الحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَها النَّبِيءُ ﷺ وتَبْتَدِئُ مِنَ الكَعْبَةِ فَتَذْهَبُ لِلْماشِي إلى المَدِينَةِ نَحْوَ أرْبَعَةِ أمْيالٍ إلى التَّنْعِيمِ، والتَّنْعِيمُ لَيْسَ مِنَ الحَرَمِ، وتُمَدُّ في طَرِيقِ الذّاهِبِ إلى العِراقِ ثَمانِيَةَ أمْيالٍ فَتَنْتَهِي إلى مَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ: المَقْطَعُ، وتَذْهَبُ في طَرِيقِ الطّائِفِ تِسْعَةَ - بِتَقْدِيمِ المُثَنّاةِ - أمْيالٍ فَتَنْتَهِي إلى الجُعْرانَةِ، ومِن جِهَةِ اليَمَنِ سَبْعَةً - بِتَقْدِيمِ السِّينِ - فَيَنْتَهِي إلى أضاةِ لِبْنٍ، ومِن طَرِيقِ جُدَّةَ عَشَرَةَ أمْيالٍ فَيَنْتَهِي إلى آخِرِ الحُدَيْبِيَةِ، والحُدَيْبِيَةُ داخِلَةٌ في الحَرَمِ. فَهَذا الحَرَمُ يَحْرُمُ صَيْدُهُ، كَما يَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلى المُحْرِمِ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ.

فَقَوْلُهُ (﴿وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥]) يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ مُحْرِمُونَ، فَيَكُونُ تَحْرِيمًا لِلصَّيْدِ عَلى المُحْرِمِ: سَواءً كانَ في الحَرَمِ أمْ في غَيْرِهِ، ويَكُونُ تَحْرِيمُ صَيْدِ الحَرَمِ لِغَيْرِ المُحْرِمِ ثابِتًا بِالسُّنَّةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ: مُحْرِمُونَ وحالُّونَ في الحَرَمِ، ويَكُونُ مِنِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَعْنَيَيْنِ يَجْمَعُهُما قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما وهو الحُرْمَةُ، فَلا يَكُونُ مِنِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ إنْ قُلْنا بِعَدَمِ صِحَّةِ اسْتِعْمالِهِ فِيهِما، أوْ يَكُونُ مِنِ اسْتِعْمالِهِ فِيهِما، عَلى رَأْيِ مَن يُصَحِّحُ ذَلِكَ، وهو الصَّحِيحُ، كَما قَدَّمْناهُ في المُقَدِّمَةِ التّاسِعَةِ.

صفحة ٨٠

وقَدْ تَفَنَّنَ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ وقَوْلِهِ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾، فَجِيءَ بِالأوَّلِ بِأداةِ الِاسْتِثْناءِ، وبِالثّانِي بِالحالَيْنِ الدّالَّيْنِ عَلى مُغايَرَةِ الحالَةِ المَأْذُونِ فِيها، والمَعْنى: إلّا الصَّيْدَ في حالَةِ كَوْنِكم مُحْرِمِينَ، أوْ في حالَةِ الإحْرامِ.

وإنَّما تَعَرَّضَ لِحُكْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ هُنا لِمُناسَبَةِ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ في حالٍ خاصٍّ، فَذُكِرَ هُنا لِأنَّهُ تَحْرِيمٌ عارِضٌ غَيْرُ ذاتِيٍّ، ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ مَعَ المَمْنُوعاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الحُرُمِ والإحْرامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٢] الآيَةَ. والصَّيْدُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُنا مَصْدَرًا عَلى أصْلِهِ، وأنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَلى اسْمِ المَفْعُولِ: كالخَلْقِ عَلى المَخْلُوقِ، وهو إطْلاقٌ شائِعٌ أشْهَرُ مِن إطْلاقِهِ عَلى مَعْناهُ الأصْلِيِّ، وهو الأنْسَبُ هُنا لِتَكُونَ مَواقِعُهُ في القُرْآنِ عَلى وتِيرَةٍ واحِدَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: غَيْرَ مُحِلِّي إصابَةً لِصَيْدٍ.

والصَّيْدُ بِمَعْنى المَصْدَرِ: إمْساكُ الحَيَوانِ الَّذِي لا يَأْلَفُ، بِاليَدِ أوْ بِوَسِيلَةٍ مُمْسِكَةٍ، أوْ جارِحَةٍ: كالشِّباكِ، والحَبائِلِ، والرِّماحِ، والسِّهامِ، والكِلابِ، والبُزاةِ؛ وبِمَعْنى المَفْعُولِ هو المَصِيدُ.

وانْتَصَبَ (غَيْرَ) عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ (لَكم) . وجُمْلَةُ (وأنْتُمْ حُرُمٌ) في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (مُحِلِّي)، وهَذا نَسْجٌ بَدِيعٌ في نَظْمِ الكَلامِ اسْتُفِيدَ مِنهُ إباحَةٌ وتَحْرِيمٌ: فالإباحَةُ في حالِ عَدَمِ الإحْرامِ، والتَّحْرِيمُ لَهُ في حالِ الإحْرامِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾، أيْ لا يَصْرِفُكم عَنِ الإيفاءِ بِالعُقُودِ أنْ يَكُونَ فِيما شَرَعَهُ اللَّهُ لَكم شَيْءٌ مِن ثِقَلٍ عَلَيْكم، لِأنَّكم عاقَدْتُمْ عَلى عَدَمِ العِصْيانِ، وعَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ لِلَّهِ، واللَّهُ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ لا ما تُرِيدُونَ أنْتُمْ. والمَعْنى أنَّ اللَّهَ أعْلَمُ بِصالِحِكم مِنكم.

صفحة ٨١

وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أنَّ النَّقّاشَ حَكى: أنَّ أصْحابَ الكِنْدِيِّ قالُوا لَهُ: أيُّها الحَكِيمُ اعْمَلْ لَنا مِثْلَ هَذا القُرْآنِ، قالَ: نَعَمْ أعْمَلُ لَكم مِثْلَ بَعْضِهِ، فاحْتَجَبَ عَنْهم أيّامًا ثُمَّ خَرَجَ فَقالَ: واللَّهِ ما أقْدِرُ عَلَيْهِ، ولا يُطِيقُ هَذا أحَدٌ، إنِّي فَتَحْتُ المُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ المائِدَةِ فَنَظَرْتُ فَإذا هو قَدْ أمَرَ بِالوَفاءِ ونَهى عَنِ النَّكْثِ وحَلَّلَ تَحْلِيلًا عامًّا ثُمَّ اسْتَثْنى اسْتِثْناءً بَعْدَ اسْتِثْناءٍ ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ في سَطْرَيْنِ ولا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ أنْ يَأْتِيَ بِهَذا إلّا في أجْلادٍ. جَمْعُ جِلْدٍ أيْ أسْفارٍ.