﴿وإذا جاءُوكم قالُوا آمَنّا وقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ واللَّهُ أعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ﴾ ﴿وتَرى كَثِيرًا مِنهم يُسارِعُونَ في الإثْمِ والعُدْوانِ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ .

عُطِفَ ”وإذا جاءُوكم“ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وإذا نادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُؤًا﴾ [المائدة: ٥٨] الآيَةَ، وخُصَّ بِهَذِهِ الصِّفاتِ المُنافِقُونَ مِنَ اليَهُودِ مِن جُمْلَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ هُزُؤًا ولَعِبًا، فاسْتُكْمِلَ بِذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُمُ المُعْلِنِينَ مِنهم والمُنافِقِينَ. ولا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلى صِفاتِ أهْلِ الكِتابِ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ﴾ [المائدة: ٦٠] لِعَدَمِ اسْتِقامَةِ المَعْنى، وبِذَلِكَ يُسْتَغْنى عَنْ تَكَلُّفِ وجْهٍ لِهَذا العَطْفِ.

ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ أنَّ الإيمانَ لَمْ يُخالِطْ قُلُوبَهم طَرْفَةَ عَيْنٍ، أيْ هم دَخَلُوا كافِرِينَ وخَرَجُوا كَذَلِكَ، لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، فالمَقْصُودُ اسْتِغْراقُ الزَّمَنَيْنِ وما بَيْنَهُما، لِأنَّ ذَلِكَ هو المُتَعارَفُ، إذِ الحالَةُ إذا تَبَدَّلَتِ اسْتَمَرَّ تَبَدُّلُها، فَفي ذَلِكَ تَسْجِيلُ الكَذِبِ في قَوْلِهِمْ: آمَنّا، والعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ بِغَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ.

صفحة ٢٤٨

والرُّؤْيَةُ في قَوْلِهِ: ”وتَرى“ بَصَرِيَّةٌ، أيْ أنَّ حالَهم في ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يَخْفى عَلى أحَدٍ. والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَسْمَعُ.

وتَقَدَّمَ مَعْنى ”يُسارِعُونَ“ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لا يُحْزِنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١] .

والإثْمُ: المَفاسِدُ مِن قَوْلٍ وعَمَلٍ، أُرِيدَ بِهِ هُنا الكَذِبُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ﴾ . والعُدْوانُ: الظُّلْمُ، والمُرادُ بِهِ الِاعْتِداءُ عَلى المُسْلِمِينَ إنِ اسْتَطاعُوهُ.

والسُّحْتُ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: ٤٢] .

و”لَوْلا“ تَحْضِيضٌ أُرِيدَ مِنهُ التَّوْبِيخُ.

والرَّبّانِيُّونَ والأحْبارُ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْناهُما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيئُونَ﴾ [المائدة: ٤٤] الآيَةَ.

واقْتُصِرَ في تَوْبِيخِ الرَّبّانِيِّينَ عَلى تَرْكِ نَهْيِهِمْ عَنْ قَوْلِ الإثْمِ وأكْلِ السُّحْتِ، ولَمْ يُذْكَرِ العُدْوانُ إيماءً إلى أنَّ العُدْوانَ يَزْجُرُهم عَنْهُ المُسْلِمُونَ ولا يَلْتَجِئُونَ في زَجْرِهِمْ إلى غَيْرِهِمْ، لِأنَّ الِاعْتِمادَ في النُّصْرَةِ عَلى غَيْرِ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ، ضَعْفٌ.

وجُمْلَةُ ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ، ذَمٌّ لِصَنِيعِ الرَّبّانِيِّينَ والأحْبارِ في سُكُوتِهِمْ عَنْ تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، و”يَصْنَعُونَ“ بِمَعْنى يَعْلَمُونَ، وإنَّما خُولِفَ هُنا ما تَقَدَّمَ في الآيَةِ قَبْلَها لِلتَّفَنُّنِ، وقِيلَ: لِأنَّ ”يَصْنَعُونَ“ أدَلُّ عَلى التَّمَكُّنِ في العَمَلِ مِن (يَعْمَلُونَ) .

واللّامُ لِلْقَسَمِ.