صفحة ٤٢

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ ومَن قَتَلَهُ مِنكم مُتَعَمِّدًا فَجَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّارَةُ طَعامِ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ عَفا اللَّهُ عَمّا سَلَفَ ومَن عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ .

اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ آيَةِ ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ [المائدة: ٩٤] أوْ لِنَسْخِ حُكْمِها أنْ كانَتْ تَضَمَّنَتْ حُكْمًا لَمْ يَبْقَ بِهِ عَمَلٌ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في مَعْنى وأنْتُمْ حُرُمٌ في طالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ.

واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الصَّيْدَ في حالَيْنِ: حالُ كَوْنِ الصّائِدِ مُحْرِمًا، وحالُ كَوْنِ الصَّيْدِ مِن صَيْدِ الحَرَمِ، ولَوْ كانَ الصّائِدُ حَلالًا. والحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَظَّمَ شَأْنَ الكَعْبَةِ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأمَرَهُ بِأنْ يَتَّخِذَ لَها حَرَمًا كَما كانَ المُلُوكُ يَتَّخِذُونَ الحِمى، فَكانَتْ بَيْتُ اللَّهِ وحِماهُ، وهو حَرَمُ البَيْتِ مُحْتَرَمًا بِأقْصى ما يُعَدُّ حُرْمَةً وتَعْظِيمًا فَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ حَرَمًا لِلْبَيْتِ واسِعًا وجَعَلَ اللَّهُ البَيْتَ أمْنًا لِلنّاسِ ووَسَّعَ ذَلِكَ الأمْنَ حَتّى شَمَلَ الحَيَوانَ العائِشَ في حَرَمِهِ بِحَيْثُ لا يَرى النّاسُ لِلْبَيْتِ إلّا أمْنًا لِلْعائِذِ بِهِ وبِحَرَمِهِ. قالَ النّابِغَةُ:

والمُؤْمِنِ العائِذاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُها رُكْبانُ مَكَّةَ بَيْنَ الغِيلِ فالسَّنَـدِ

فالتَّحْرِيمُ لِصَيْدِ حَيَوانِ البَرِّ، ولَمْ يُحَرِّمْ صَيْدَ البَحْرِ إذْ لَيْسَ في شَيْءٍ مِن مِساحَةِ الحَرَمِ بَحْرٌ ولا نَهْرٌ. ثُمَّ حَرَّمَ الصَّيْدَ عَلى المُحْرِمِ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، لِأنَّ الصَّيْدَ إثارَةٌ لِبَعْضِ المَوْجُوداتِ الآمِنَةِ. وقَدْ كانَ الإحْرامُ يَمْنَعُ المُحْرِمِينَ القِتالَ ومُنِعُوا التَّقاتُلَ في الأشْهُرِ الحُرُمِ لِأنَّها زَمَنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ فَأُلْحِقَ مِثْلُ الحَيَوانِ في الحُرْمَةِ بِقَتْلِ الإنْسانِ، أوْ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ المُحْرِمَ لا يَنْوِي الإحْرامَ إلّا عِنْدَ الوُصُولِ إلى الحَرَمِ، فالغالِبُ أنَّهُ لا يَصِيدُ إلّا حَيَوانَ الحَرَمِ.

صفحة ٤٣

والصَّيْدُ عامٌّ في كُلِّ ما شَأْنُهُ أنْ يُصادَ ويُقْتَلَ مِنَ الدَّوابِّ والطَّيْرِ لِأكْلِهِ أوِ الِانْتِفاعِ بِبَعْضِهِ. ويُلْحَقُ بِالصَّيْدِ الوُحُوشُ كُلُّها. قالَ ابْنُ الفَرَسِ: والوُحُوشُ تُسَمّى صَيْدًا وإنْ لَمْ تُصَدْ بَعْدُ، كَما يُقالُ: بِئْسَ الرَّمِيَّةُ الأرْنَبُ، وإنْ لَمْ تُرْمَ بَعْدُ. وخُصَّ مِن عُمُومِهِ ما هو مُضِرٌّ، وهي السِّباعُ المُؤْذِيَةُ وذَواتُ السُّمُومِ والفَأْرُ وسِباعُ الطَّيْرِ. ودَلِيلُ التَّخْصِيصِ السُّنَّةُ.

وقَصْدُ القَتْلِ تَبَعٌ لِتَذَكُّرِ الصّائِدِ أنَّهُ في حالِ إحْرامٍ، وهَذا مَوْرِدُ الآيَةِ، فَلَوْ نَسِيَ أنَّهُ مُحْرِمٌ فَهو غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ، ولَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ فَأصابَهُ فَهو غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ. ولا وجْهَ ولا دَلِيلَ لِمَن تَأوَّلَ التَّعَمُّدَ في الآيَةِ بِأنَّهُ تَعَمُّدُ القَتْلِ مَعَ نِسْيانِ أنَّهُ مُحْرِمٌ.

وقَوْلُهُ وأنْتُمْ حُرُمٌ، حُرُمٌ جَمْعُ حَرامٍ، بِمَعْنى مُحْرِمٍ، مِثْلُ جَمْعِ قَذالٍ عَلى قُذُلٍ، والمُحْرِمُ أصْلُهُ المُتَلَبِّسُ بِالإحْرامِ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ. ويُطْلَقُ المُحْرِمُ عَلى الكائِنِ في الحَرَمِ. قالَ الرّاعِي:

قَتَلُوا ابْنَ عَفّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِمًا

أيْ كائِنًا في حَرَمِ المَدِينَةِ. فَأمّا الإحْرامُ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ فَهو مَعْلُومٌ، وأمّا الحُصُولُ في الحَرَمِ فَهو الحُلُولُ في مَكانِ الحَرَمِ مِن مَكَّةَ أوِ المَدِينَةِ. وزادَ الشّافِعِيُّ الطّائِفُ في حُرْمَةِ صَيْدِهِ لا في وُجُوبِ الجَزاءِ عَلى صائِدِهِ. فَأمّا حَرَمُ مَكَّةَ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ بِالِاتِّفاقِ، وفي صَيْدِهِ الجَزاءُ. وأمّا حَرَمُ المَدِينَةِ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ، ولا جَزاءَ فِيهِ، ومِثْلُهُ الطّائِفُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ.

وحَرَمُ مَكَّةَ مَعْلُومٌ بِحُدُودٍ مِن قَبْلِ الإسْلامِ، وهو الحَرَمُ الَّذِي حَرَّمَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ووُضِعَتْ بِحُدُودِهِ عَلاماتٌ في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. وأمّا حَرَمُ المَدِينَةِ فَقالَ النَّبِيءُ ﷺ «المَدِينَةُ حَرَمٌ مِن ما بَيْنِ عَيْرٍ أوْ عائِرٍ (جَبَلٌ) إلى ثَوْرٍ» . قِيلَ هو جَبَلٌ ولا يُعْرَفُ ثَوْرٌ إلّا في مَكَّةَ. قالَ النَّوَوِيُّ: أكْثَرُ الرُّواةِ في كِتابِ البُخارِيِّ ذَكَرُوا عَيْرًا، وأمّا ثَوْرٌ فَمِنهم مَن كَنّى عَنْهُ فَقالَ: مِن عَيْرِ إلى كَذا، ومِنهم مَن تَرَكَ مَكانَهُ بَياضًا لِأنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنا خَطَأً. وقِيلَ: إنَّ الصَّوابَ إلى أُحُدٍ كَما عِنْدَ أحْمَدَ والطَّبَرانِيِّ. وقِيلَ: ثَوْرٌ جَبَلٌ صَغِيرٌ وراءَ جَبَلِ أُحُدٍ.

وقَوْلُهُ ﴿ومَن قَتَلَهُ مِنكُمْ﴾ إلَخْ، (مَن) اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأٌ، و(قَتَلَهُ) فِعْلُ الشَّرْطِ، ومِنكم

صفحة ٤٤

صِفَةٌ لِاسْمِ الشَّرْطِ، أيْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وفائِدَةُ إيرادِ قَوْلِهِ (مِنكم) أعْرَضَ عَنْ بَيانِها المُفَسِّرُونَ. والظّاهِرُ أنَّ وجْهَ إيرادِ هَذا الوَصْفِ التَّنْبِيهُ عَلى إبْطالِ فِعْلِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، فَمَن أصابَ صَيْدًا في الحَرَمِ مِنهم كانُوا يَضْرِبُونَهُ ويَسْلُبُونَهُ ثِيابَهُ، كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.

وتَعْلِيقُ حُكْمِ الجَزاءِ عَلى وُقُوعِ القَتْلِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الجَزاءَ لا يَجِبُ إلّا إذا قَتَلَ الصَّيْدَ، فَأمّا لَوْ جَرَحَهُ أوْ قَطَعَ مِنهُ عُضْوًا ولَمْ يَقْتُلْهُ فَلَيْسَ فِيهِ جَزاءٌ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ سَواءٌ أكَلَ القاتِلُ الصَّيْدَ أوْ لَمْ يَأْكُلْهُ لِأنَّ مَناطَ الحُكْمِ هو القَتْلُ.

وقَوْلُهُ مُتَعَمِّدًا قَدْ أخْرَجَ المُخْطِئَ، أيْ في صَيْدِهِ. ولَمْ تُبَيِّنْ لَهُ الآيَةُ حُكْمًا لَكِنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ حُكْمَهُ لا يَكُونُ أشَدَّ مِنَ المُتَعَمِّدِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فِيهِ جَزاءٌ آخَرُ أخَفُّ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لا جَزاءَ عَلَيْهِ وقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. قالَ الزُّهْرِيِّ: نَزَلَ القُرْآنُ بِالعَمْدِ وجَرَتِ السُّنَّةُ في النّاسِي والمُخْطِئِ أنَّهُما يُكَفِّرانِ. ولَعَلَّهُ أرادَ بِالسُّنَّةِ العَمَلَ مِن عَهْدِ النُّبُوءَةِ والخُلَفاءِ ومَضى عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحابَةِ. ولَيْسَ في ذَلِكَ أثَرٌ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ .

وقالَ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وجُمْهُورُ فُقَهاءِ الأمْصارِ: إنَّ العَمْدَ والخَطَأ في ذَلِكَ سَواءٌ، وقَدْ غَلَّبَ مالِكٌ فِيهِ مَعْنى الغُرْمِ، أيْ قاسَهُ عَلى الغُرْمِ، والعَمْدُ والخَطَأُ في الغُرْمِ سَواءٌ فَلِذَلِكَ سَوّى بَيْنَهُما. ومَضى بِذَلِكَ عَمَلُ الصَّحابَةِ.

وقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ مِنَ المالِكِيَّةِ، وداوُدُ الظّاهِرِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ وطاوُسُ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وسالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ: لا شَيْءَ عَلى النّاسِي. ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.

وقالَ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ جُرَيْجٍ: إنْ كانَ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ ناسِيًا إحْرامَهُ فَهو مَوْرِدُ الآيَةِ، فَعَلَيْهِ الجَزاءُ. وأمّا المُتَعَمِّدُ لِلْقَتْلِ وهو ذاكِرٌ إحْرامَهُ فَهَذا أعْظَمُ مِن أنْ يُكَفَّرَ وقَدْ بَطُلَ حَجُّهُ، وصَيْدُهُ جِيفَةٌ لا يُؤْكَلُ.

صفحة ٤٥

والجَزاءُ العِوَضُ عَنْ عَمَلٍ، فَسَمّى اللَّهُ ذَلِكَ جَزاءً، لِأنَّهُ تَأْدِيبٌ وعُقُوبَةٌ إلّا أنَّهُ شُرِعَ عَلى صِفَةِ الكَفّاراتِ مِثْلَ كَفّارَةِ القَتْلِ وكَفّارَةِ الظِّهارِ. ولَيْسَ القَصْدُ مِنهُ الغُرْمَ إذْ لَيْسَ الصَّيْدُ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ أحَدٌ مِنَ النّاسِ حَتّى يَغْرَمَ قاتِلُهُ لِيَجْبُرَ ما أفاتَهُ عَلَيْهِ. وإنَّما الصَّيْدُ مِلْكُ اللَّهِ تَعالى أباحَهُ في الحِلِّ ولَمْ يُبِحْهُ لِلنّاسِ في حالِ الإحْرامِ، فَمَن تَعَدّى عَلَيْهِ في تِلْكَ الحالَةِ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلى المُتَعَدِّي جَزاءً. وجَعَلَهُ جَزاءً يَنْتَفِعُ بِهِ ضِعافُ عَبِيدِهِ.

وقَدْ دَلَّنا عَلى أنَّ مَقْصِدَ التَّشْرِيعِ في ذَلِكَ هو العُقُوبَةُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ﴾ . وإنَّما سُمِّيَ جَزاءً ولَمْ يُسَمَّ بِكَفّارَةٍ لِأنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ المُماثَلَةُ، فَهو مُقَدَّرٌ بِمِثْلِ العَمَلِ فَسُمِّيَ جَزاءً، والجَزاءُ مَأْخُوذٌ فِيهِ المُماثَلَةُ والمُوافَقَةُ قالَ تَعالى ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ [النبإ: ٢٦] .

وقَدْ أخْبَرَ أنَّ الجَزاءَ مِثْلُ ما قَتَلَ الصّائِدُ، وذَلِكَ المِثْلُ مِنَ النَّعَمِ، وذَلِكَ أنَّ الصَّيْدَ إمّا مِنَ الدَّوابِّ وإمّا مِنَ الطَّيْرِ، وأكْثَرُ صَيْدِ العَرَبِ مِنَ الدَّوابِّ، وهي الحُمُرُ الوَحْشِيَّةُ وبَقَرُ الوَحْشِ والأرْوى والظِّباءُ ومِن ذَواتِ الجَناحِ النَّعامُ والأوِزُّ، وأمّا الطَّيْرُ الَّذِي يَطِيرُ في الجَوِّ فَنادِرٌ صَيْدُهُ، لِأنَّهُ لا يُصادُ إلّا بِالمِعْراضِ، وقَلَّما أصابَهُ المِعْراضُ سِوى الحَمامِ الَّذِي بِمَكَّةَ وما يَقْرُبُ مِنها، فَمُماثَلَةُ الدَّوابِّ لِلْأنْعامِ هَيِّنَةٌ. وأمّا مُماثَلَةُ الطَّيْرِ لِلْأنْعامِ فَهي مُقارَبَةٌ ولَيْسَتْ مُماثَلَةً؛ فالنَّعامَةُ تُقارِبُ البَقَرَةَ أوِ البَدَنَةَ، والأوِزُّ يُقارِبُ السَّخْلَةَ، وهَكَذا. وما لا نَظِيرَ لَهُ كالعُصْفُورِ فِيهِ القِيمَةُ. وهَذا قَوْلُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ: المِثْلُ القِيمَةُ في جَمِيعِ ما يُصابُ مِنَ الصَّيْدِ. والقِيمَةُ عِنْدَ مالِكٍ طَعامٌ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: دَراهِمُ. فَإذا كانَ المَصِيرُ إلى القِيمَةِ؛ فالقِيمَةُ عِنْدَ مالِكٍ طَعامٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ، أوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعامِ يَوْمًا، ولِكَسْرِ المُدِّ يَوْمًا كامِلًا. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَرِي بِالقِيمَةِ هَدْيًا إنْ شاءَ، وإنْ شاءَ اشْتَرى طَعامًا، وإنْ شاءَ صامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صاعٍ يَوْمًا.

وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في أنَّ الجَزاءَ هَلْ يَكُونُ أقَلَّ مِمّا يُجْزِئُ في الضَّحايا والهَدايا. فَقالَ مالِكٌ: لا يُجْزِئُ أقَلُّ مِن ثَنِيِّ الغَنَمِ أوِ المَعِزِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ . فَما لا يُجْزِئُ أنْ يَكُونَ هَدْيًا مِنَ الأنْعامِ لا يَكُونُ جَزاءً، فَمَن أصابَ مِنَ

صفحة ٤٦

الصَّيْدِ ما هو صَغِيرٌ كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أنْ يُعْطِيَ أقَلَّ ما يُجْزِي مِنَ الهَدْيِ مِنَ الأنْعامِ وبَيْنَ أنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ ما صادَهُ طَعامًا ولا يُعْطِي مِن صِغارِ الأنْعامِ.

وقالَ مالِكٌ في المُوَطَّأِ: وكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفي صِغارِهِ مِثْلُ ما يَكُونُ في كِبارِهِ. وإنَّما مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ دِيَةِ الحُرِّ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ وبَعْضُ عُلَماءِ المَدِينَةِ: إذا كانَ الصَّيْدُ صَغِيرًا كانَ جَزاؤُهُ ما يُقارِبُهُ مِن صِغارِ الأنْعامِ لِما رَواهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ المَكِّيِّ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَضى في الأرْنَبِ بِعَناقٍ وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. قالَ الحَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ في كِتابِ بِدايَةِ المُجْتَهِدِ: وذَلِكَ ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وعُثْمانَ، وعَلِيِّ، وابْنِ مَسْعُودٍ اهـ. وأقُولُ: لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأمّا ما حَكَمَ بِهِ عُمَرُ فَلَعَلَّ مالِكًا رَآهُ اجْتِهادًا مِن عُمَرَ لَمْ يُوافِقْهُ عَلَيْهِ لِظُهُورِ الِاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ تَعالى هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ. فَإنَّ ذَلِكَ مِن دَلالَةِ الإشارَةِ، ورَأى في الرُّجُوعِ إلى الإطْعامِ سَعَةً، عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ الصَّيْدُ لا مُماثِلَ لَهُ مِن صِغارِ الأنْعامِ كالجَرادَةِ والخُنْفُساءِ لَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى الإطْعامِ، فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ عِنْدَ كَوْنِ الصَّيْدِ أصْغُرَ مِمّا يُماثِلُهُ مِمّا يُجْزِئُ في الهَدايا. فَمِنَ العَجَبِ قَوْلُ ابْنِ العَرَبِيِّ: إنَّ قَوْلَ الشّافِعِيِّ هو الصَّحِيحُ، وهو اخْتِيارُ عُلَمائِنا. ولَمْ أدْرِ مَن يَعْنِيهِ مِن عُلَمائِنا فَإنِّي لا أعْرِفُ لِلْمالِكِيَّةِ مُخالِفًا لِمالِكٍ في هَذا. والقَوْلُ في الطَّيْرِ كالقَوْلِ في الصَّغِيرِ وفي الدَّوابِّ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في العَظِيمِ مِنَ الحَيَوانِ كالفِيلِ والزَّرافَةِ فَيَرْجِعُ إلى الإطْعامِ.

ولَمّا سَمّى اللَّهُ هَذا جَزاءً وجَعَلَهُ مُماثِلًا لِلْمَصِيدِ دَلَّنا عَلى أنَّ مَن تَكَرَّرَ مِنهُ قَتْلُ الصَّيْدِ وهو مُحْرِمٌ وجَبَ عَلَيْهِ جَزاءٌ لِكُلِّ دابَّةٍ قَتَلَها، خِلافًا لِداوُدَ الظّاهِرِيِّ، فَإنَّ الشَّيْئَيْنِ مِن نَوْعٍ واحِدٍ لا يُماثِلُهُما شَيْءٌ واحِدٌ مِن ذَلِكَ النَّوْعِ، ولِأنَّهُ قَدْ تُقْتَلُ أشْياءُ مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِن نَوْعٍ مُماثِلًا لِجَمِيعِ ما قَتَلَهُ.

وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ ﴿فَجَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ﴾ بِإضافَةِ جَزاءٌ إلى مِثْلِ؛ فَيَكُونُ (جَزاءُ) مَصْدَرًا بَدَلًا عَنِ الفِعْلِ، ويَكُونُ (مِثْلِ ما قَتَلَ) فاعِلَ المَصْدَرِ أُضِيفَ إلَيْهِ مَصْدَرُهُ. و﴿مِنَ النَّعَمِ﴾ بَيانُ المِثْلِ لا لِـ ما قُتِلَ. والتَّقْدِيرُ: فَمِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يُجْزِئُ جَزاءَ

صفحة ٤٧

ما قَتَلَهُ، أيْ يُكافِئُ ويُعَوِّضُ ما قَتَلَهُ. وإسْنادُ الجَزاءِ إلى المِثْلِ إسْنادٌ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ العَقْلِيِّ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ الإضافَةَ بَيانِيَّةً، أيْ فَجَزاءٌ هو مِثْلُ ما قَتَلَ، والإضافَةُ تَكُونُ لِأدْنى مُلابَسَةٍ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأُولَئِكَ لَهم جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا﴾ [سبإ: ٣٧] . وهَذا نَظْمٌ بَدِيعٌ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢]، أيْ فَلْيُحَرِّرْ رَقَبَةً. وجَعَلَهُ صاحِبُ الكَشّافِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ أيْ فَلْيُجْزَ مِثْلَ ما قَتَلَ. وهو يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ النَّعَمُ هو المُعَوَّضَ لا العِوَضَ لِأنَّ العِوَضَ يَتَعَدّى إلَيْهِ فِعْلُ جَزى بِالباءِ ويَتَعَدّى إلى المُعَوَّضِ بِنَفْسِهِ. تَقُولُ: جَزَيْتُ ما أتْلَفْتُهُ بِكَذا دِرْهَمًا، ولا تَقُولُ: جَزَيْتُ كَذا دِرْهَمًا بِما أتْلَفْتُهُ، فَلِذَلِكَ اضْطَرَّ الَّذِينَ قَدَّرُوا هَذا القَوْلَ إلى جَعْلِ لَفْظِ (مِثْلِ) مُقْحَمًا، ونَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِمْ مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ، كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو مُعاصِرٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وسَكَتَ صاحِبُ الكَشّافِ عَنِ الخَوْضِ في ذَلِكَ وقَرَّرَ القُطْبُ كَلامَ الكَشّافِ عَلى لُزُومِ جَعْلِ لَفْظِ (مِثْلِ) مُقْحَمًا وأنَّ الكَلامَ عَلى وجْهِ الكِنايَةِ، يَعْنِي نَظِيرَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وكَذَلِكَ ألْزَمَهُ إيّاهُ التَّفْتَزانِيُّ، واعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهِ في كَلامِهِ بِأنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بِصَدَدِ بَيانِ الجَزاءِ لا بِصَدَدِ بَيانِ أنَّ عَلَيْهِ جَزاءَ ما قَتَلَ. وهو اعْتِذارٌ ضَعِيفٌ. فالوَجْهُ أنْ لا حاجَةَ إلى هَذا التَّقْدِيرِ مِن أصْلِهِ. وقَدِ اجْتَرَأ الطَّبَرِيُّ فَقالَ: أنْ لا وجْهَ لِقِراءَةِ الإضافَةِ وذَلِكَ وهْمٌ مِنهُ وغَفْلَةٌ عَنْ وُجُوهِ تَصارِيفِ الكَلامِ العَرَبِيِّ.

وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، ويَعْقُوبُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ (فَجَزاءٌ مِثْلُ) بِتَنْوِينِ (جَزاءٌ) . ورَفْعُ (مِثْلُ) عَلى تَقْدِيرِ: فالجَزاءُ هو مِثْلُ، عَلى أنَّ الجَزاءَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلى اسْمِ المَفْعُولِ، أيْ فالمَجْزِيُّ بِهِ المَقْتُولَ مِثْلُ ما قَتَلَهُ الصّائِدُ.

وقَوْلُهُ تَعالى ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (جَزاءُ) أوِ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، أيْ يَحْكُمُ بِالجَزاءِ، أيْ بِتَعْيِينِهِ. والمَقْصِدُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ لا يَبْلُغُ كُلُّ أحَدٍ مَعْرِفَةَ صِفَةِ المُماثَلَةِ بَيْنَ الصَّيْدِ والنَّعَمِ فَوَكَّلَ اللَّهُ أمْرَ ذَلِكَ إلى الحُكْمَيْنِ. وعَلى الصّائِدِ أنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ صِفَةُ العَدالَةِ والمَعْرِفَةِ فَيَرْفَعُ الأمْرَ إلَيْهِما. ويَتَعَيَّنُ عَلَيْهِما أنْ يُجِيباهُ إلى ما سَألَ مِنهُما وهُما يُعَيِّنانِ المِثْلَ ويُخَيِّرانِهِ بَيْنَ أنْ يُعْطِيَ المِثْلَ أوِ الطَّعامَ أوِ الصِّيامَ، ويُقَدِّرانِ لَهُ ما هو قَدْرُ الطَّعامِ إنِ اخْتارَهُ.

صفحة ٤٨

وقَدْ حَكَمَ مِنَ الصَّحابَةِ في جَزاءِ الصَّيْدِ عُمَرُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وحَكَمَ مَعَ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، وحَكَمَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وحَكَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مَعَ ابْنِ صَفْوانَ.

ووَصَفَ ذَوا عَدْلٍ بِقَوْلِهِ مِنكم أيْ مِنَ المُسْلِمِينَ، لِلتَّحْذِيرِ مِن مُتابَعَةِ ما كانَ لِأهْلِ الجاهِلِيَّةِ مِن عَمَلٍ في صَيْدِ الحَرَمِ فَلَعَلَّهم يَدَّعُونَ مَعْرِفَةً خاصَّةً بِالجَزاءِ.

وقَوْلُهُ ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ حالٌ مِن ﴿مِثْلُ ما قَتَلَ﴾، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في بِهِ. والهَدْيُ ما يُذْبَحُ أوْ يُنْحَرُ في مَنحَرِ مَكَّةَ. والمَنحَرُ: مِنًى والمَرْوَةُ. ولَمّا سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى هَدْيًا فَلَهُ سائِرُ أحْكامِ الهَدْيِ المَعْرُوفَةِ. ومَعْنى (بالِغَ الكَعْبَةِ) أنَّهُ يُذْبَحُ أوْ يُنْحَرُ في حَرَمِ الكَعْبَةِ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّهُ يُنْحَرُ أوْ يُذْبَحُ حَوْلَ الكَعْبَةِ.

وقَوْلُهُ ﴿أوْ كَفّارَةُ طَعامِ مَساكِينَ﴾ عَطَفَ عَلى فَـ (جَزاءُ) وسَمّى الإطْعامَ كَفّارَةً لِأنَّهُ لَيْسَ بِجَزاءٍ، إذِ الجَزاءُ هو العِوَضُ، وهو مَأْخُوذٌ فِيهِ المُماثَلَةُ. وأمّا الإطْعامُ فَلا يُماثِلُ الصَّيْدَ وإنَّما هو كَفّارَةٌ تُكَفَّرُ بِهِ الجَرِيمَةُ. وقَدْ أجْمَلَ الكَفّارَةَ فَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدارَ الطَّعامِ ولا عَدَدَ المَساكِينِ. فَأمّا مِقْدارُ الطَّعامِ فَهو مَوْكُولٌ إلى الحُكْمَيْنِ، وقَدْ شاعَ عَنِ العَرَبِ أنَّ المُدَّ مِنَ الطَّعامِ هو طَعامُ رَجُلٍ واحِدٍ، فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مالِكٌ بِمُدٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وهو قَوْلُ الأكْثَرِ مِنَ العُلَماءِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: تَقْدِيرُ الإطْعامِ أنْ يُقَوَّمَ الجَزاءُ مِنَ النَّعَمِ بِقِيمَتِهِ دَراهِمَ ثُمَّ تُقَوَّمَ الدَّراهِمُ طَعامًا. وأمّا عَدَدُ المَساكِينَ فَهو مُلازِمٌ لِعَدَدِ الأمْدادِ. قالَ مالِكٌ: أحْسَنُ ما سَمِعْتُ. . . . إلَيَّ فِيهِ أنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الَّذِي أصابَ ويُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ ذَلِكَ مِنَ الطَّعامِ، فَيُطْعِمُ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. ومِنَ العُلَماءِ مَن قَدَّرَ لِكُلِّ حَيَوانٍ مُعادِلًا مِنَ الطَّعامِ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: تَعْدِيلُ الظَّبْيِ بِإطْعامِ سِتَّةِ مَساكِينَ، والأيِّلِ بِإطْعامِ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، وحِمارِ الوَحْشِ بِثَلاثِينَ، والأحْسَنُ أنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلى الحَكَمَيْنِ.

و(أوْ) في قَوْلِهِ ﴿أوْ كَفّارَةُ طَعامِ مَساكِينَ﴾ وقَوْلُهُ ﴿أوْ عَدْلُ ذَلِكَ﴾ تَقْتَضِي تَخْيِيرُ قاتِلِ الصَّيْدِ في أحَدِ الثَّلاثَةِ المَذْكُورَةِ. وكَذَلِكَ كُلُّ أمْرٍ وقْعَ بِـ (أوْ) في القُرْآنِ فَهو مِنَ الواجِبِ المُخَيَّرِ. والقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ هو قَوْلُ الجُمْهُورِ، ثُمَّ قِيلَ: الخِيارُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لا لِلْحَكَمَيْنِ. وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنَ القائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ، وقِيلَ: الخِيارُ لِلْحَكَمَيْنِ. وقالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ،

صفحة ٤٩

وابْنُ أبِي لَيْلى، والحَسَنُ. ومِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: إنَّهُ لا يُنْتَقَلُ مِنَ الجَزاءِ إلى كَفّارَةِ الطَّعامِ إلّا عِنْدَ العَجْزِ عَنِ الجَزاءِ، ولا يُنْتَقَلُ عَنِ الكَفّارَةِ إلى الصَّوْمِ إلّا عِنْدَ العَجْزِ عَنِ الإطْعامِ، فَهي عِنْدَهم عَلى التَّرْتِيبِ. ونُسِبَ لِابْنِ عَبّاسٍ.

وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ (كَفّارَةُ) بِالرَّفْعِ بِدُونِ تَنْوِينٍ مُضافًا إلى طَعامٍ كَما قَرَأ ﴿جَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ﴾ . والوَجْهُ فِيهِ إمّا أنْ نَجْعَلَهُ كَوَجْهِ الرَّفْعِ والإضافَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَجَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ﴾ فَنَجْعَلُ (كَفّارَةُ) اسْمَ مَصْدَرٍ عِوَضًا عَنِ الفِعْلِ وأُضِيفَ إلى فاعِلِهِ، أيْ يُكَفِّرُهُ طَعامُ مَساكِينَ؛ وإمّا أنْ نَجْعَلَهُ مِنَ الإضافَةِ البَيانِيَّةِ، أيْ كَفّارَةٌ مِن طَعامٍ، كَما يُقالُ: ثَوْبُ خَزٍّ، فَتَكُونُ الكَفّارَةُ بِمَعْنى المُكَفَّرِ بِهِ لِتَصِحَّ إضافَةُ البَيانِ، فالكَفّارَةُ بَيَّنَها الطَّعامُ، أيْ لا كَفّارَةَ غَيْرُهُ فَإنَّ الكَفّارَةَ تَقَعُ بِأنْواعٍ. وجَزَمَ بِهَذا الوَجْهِ في الكَشّافِ، وفِيهِ تَكَلُّفٌ. وقَرَأهُ الباقُونَ بِتَنْوِينِ كَفّارَةٌ ورَفْعِ طَعامُ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن كَفّارَةٌ.

وقَوْلُهُ ﴿أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا﴾ عُطِفَ عَلى (كَفّارَةُ) والإشارَةُ إلى الطَّعامِ. والعَدْلُ بِفَتْحِ العَيْنِ ما عادَلَ الشَّيْءَ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ. وأصْلُ مَعْنى العَدْلِ المُساواةُ. وقالَ الرّاغِبُ: إنَّما يَكُونُ فِيما يُدْرَكُ بِالبَصِيرَةِ كَما هُنا. وأمّا العِدْلُ بِكَسْرِ العَيْنِ فَفي المَحْسُوساتِ كالمَوْزُوناتِ والمَكِيلاتِ، وقِيلَ: هُما مُتَرادِفانِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلى ﴿طَعامُ مَساكِينَ﴾ . وانْتَصَبَ صِيامًا عَلى التَّمْيِيزِ لِأنَّ في لَفْظِ العَدْلِ مَعْنى التَّقْدِيرِ.

وأجْمَلَتِ الآيَةُ الصِّيامَ كَما أجْمَلَتِ الطَّعامَ، وهو مَوْكُولٌ إلى حُكْمِ الحَكَمَيْنِ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعامِ يَوْمًا. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، واخْتَلَفُوا في أقْصى ما يُصامُ؛ فَقالَ مالِكٌ والجُمْهُورُ: لا يُنْقِصُ عَنْ أعْدادِ الأمْدادِ أيّامًا ولَوْ تَجاوَزَ شَهْرَيْنِ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: لا يَزِيدُ عَلى شَهْرَيْنِ لِأنَّ ذَلِكَ أعْلى الكَفّاراتِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: يَصُومُ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلى عَشَرَةٍ.

وقَوْلُهُ لِيَذُوقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ جُعِلَ ذَلِكَ جَزاءً عَنْ قَتْلِهِ الصَّيْدَ لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ.

والذَّوْقُ مُسْتَعارٌ لِلْإحْساسِ بِالكَدَرِ. شَبَّهَ ذَلِكَ الإحْساسَ بِذَوْقِ الطَّعْمِ الكَرِيهِ كَأنَّهم

صفحة ٥٠

راعَوْا فِيهِ سُرْعَةَ اتِّصالِ ألَمِهِ بِالإدْراكِ، ولِذَلِكَ لَمْ نَجْعَلْهُ مَجازًا مُرْسَلًا بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ إذْ لا داعِيَ لِاعْتِبارِ تِلْكَ العَلاقَةِ، فَإنَّ الكَدَرَ أظْهَرُ مِن مُطْلَقِ الإدْراكِ. وهَذا الإطْلاقُ مُعْتَنى بِهِ في كَلامِهِمْ، لِذَلِكَ اشْتُهِرَ إطْلاقُ الذَّوْقِ عَلى إدْراكِ الآلامِ واللَّذّاتِ. فَفي القُرْآنِ ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ﴾ [الدخان: ٥٦] . وقالَ أبُو سُفْيانَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخاطِبًا جُثَّةَ حَمْزَةَ: ذُقْ عُقَقَ. وشُهْرَةُ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ قارَبَتِ الحَقِيقَةَ، فَحَسُنَ أنْ تُبْنى عَلَيْها اسْتِعارَةٌ أُخْرى في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ﴾ [النحل: ١١٢] .

والوَبالُ السُّوءُ وما يُكْرَهُ إذا اشْتَدَّ، والوَبِيلُ القَوِيُّ في السُّوءِ ﴿فَأخَذْناهُ أخْذًا وبِيلًا﴾ [المزمل: ١٦] . وطَعامٌ وبِيلٌ: سَيِّءُ الهَضْمِ، وكَلَأٌ وبِيلٌ ومُسْتَوْبِلٌ، تَسْتَوْبِلُهُ الإبِلُ، أيْ تَسْتَوْخِمُهُ. قالَ زُهَيْرٌ:

إلى كَلَأٍ مُسْتَوْبِلٍ مُتَوَخِّمٍ

والأمْرُ: الشَّأْنُ والفِعْلُ، أيْ أمْرُ مَن قَتَلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا. والمَعْنى لِيَجِدْ سُوءَ عاقِبَةِ فِعْلِهِ بِما كَلَّفَهُ مِن خَسارَةٍ أوْ مِن تَعَبٍ.

وأعْقَبَ اللَّهُ التَّهْدِيدَ بِما عَوَّدَ بِهِ المُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ فَقالَ ﴿عَفا اللَّهُ عَمّا سَلَفَ﴾، أيْ عَفا عَمّا قَتَلْتُمْ مِنَ الصَّيْدِ قَبْلَ هَذا البَيانِ ومَن عادَ إلى قَتْلِ الصَّيْدِ وهو مُحْرِمٌ فاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنهُ.

والِانْتِقامُ هو الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالوَبالِ مِن قَبْلُ، وهو الخَسارَةُ أوِ التَّعَبُ، فَفُهِمَ مِنهُ أنَّهُ كُلَّما عادَ وجَبَ عَلَيْهِ الجَزاءُ أوِ الكَفّارَةُ أوِ الصَّوْمُ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وشُرَيْحٍ، والنَّخَعِيِّ، ومُجاهِدٍ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أنَّ المُتَعَمِّدَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الجَزاءُ إلّا مَرَّةً واحِدَةً فَإنْ عادَ حُقَّ عَلَيْهِ انْتِقامُ العَذابِ في الآخِرَةِ ولَمْ يُقْبَلْ مِنهُ جَزاءٌ. وهَذا شُذُوذٌ.

ودَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ﴾ مَعَ أنَّ شَأْنَ جَوابِ الشَّرْطِ إذا كانَ فِعْلًا أنْ لا تَدْخُلَ عَلَيْهِ الفاءُ الرّابِطَةُ لِاسْتِغْنائِهِ عَنِ الرَّبْطِ بِمُجَرَّدِ الِاتِّصالِ الفِعْلِيِّ، فَدُخُولُ

صفحة ٥١

الفاءِ يَقَعُ في كَلامِهِمْ عَلى خِلافِ الغالِبِ، والأظْهَرُ أنَّهم يَرْمُونَ بِهِ إلى كَوْنِ جُمْلَةِ الجَوابِ اسْمِيَّةً تَقْدِيرًا فَيَرْمِزُونَ بِالفاءِ إلى مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جُعِلَ الفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ لِقَصْدِ الدَّلالَةِ عَلى الِاخْتِصاصِ أوِ التَّقَوِّي، فالتَّقْدِيرُ: فَهو يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ، لِقَصْدِ الِاخْتِصاصِ لِلْمُبالَغَةِ في شِدَّةِ ما يَنالُهُ حَتّى كَأنَّهُ لا يَنالُ غَيْرَهُ، أوْ لِقَصْدِ التَّقَوِّي، أيْ تَأْكِيدِ حُصُولِ هَذا الِانْتِقامِ. ونَظِيرُهُ ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا﴾ [الجن: ١٣] فَقَدْ أغْنَتِ الفاءُ عَنِ إظْهارِ المُبْتَدَأِ فَحَصَلَ التَّقَوِّي مَعَ إيجازٍ. هَذا قَوْلُ المُحَقِّقِينَ مَعَ تَوْجِيهِهِ، ومِنَ النُّحاةِ مَن قالَ: إنَّ دُخُولَ الفاءِ وعَدَمَهُ في مِثْلِ هَذا سَواءٌ، وإنَّهُ جاءَ عَلى خِلافِ الغالِبِ.

وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ تَذْيِيلٌ. والعَزِيزُ الَّذِي لا يَحْتاجُ إلى ناصِرٍ، ولِذَلِكَ وُصِفَ بِأنَّهُ ذُو انْتِقامٍ، أيْ لِأنَّ مِن صِفاتِهِ الحِكْمَةَ، وهي تَقْتَضِي الِانْتِقامَ مِنَ المُفْسِدِ لِتَكُونَ نَتائِجُ الأعْمالِ عَلى وِفْقِها.