﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ .

وُقُوعُ اسْمِ الإشارَةِ بَعْدَ إجْراءِ الصِّفاتِ والأخْبارِ المُتَقَدِّمَةِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِ حَقِيقٌ بِالأخْبارِ والأوْصافِ الَّتِي تَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأنِّي تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام: ٩٥] قَبْلَ هَذا، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والمُشارُ إلَيْهِ هو المَوْصُوفُ بِالصِّفاتِ المُضَمَّنَةِ بِالأخْبارِ المُتَقَدِّمَةِ، ولِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ عَنِ اتِّباعِ اسْمِ الإشارَةِ بِبَيانٍ أوْ بَدَلٍ، والمَعْنى: ذَلِكُمُ المُبْدِعُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ والخالِقُ كُلَّ شَيْءٍ والعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ هو اللَّهُ، أيْ هو الَّذِي تَعْلَمُونَهُ. وقَوْلُهُ رَبُّكم صِفَةٌ لِاسْمِ الجَلالَةِ. وجُمْلَةُ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ حالٌ مِن رَبِّكم أوْ صِفَةٌ. وقَوْلُهُ ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ صِفَةٌ لِـ ”رَبُّكم“ أوْ لِاسْمِ الجَلالَةِ، وإنَّما لَمْ نَجْعَلْهُ خَبَرًا لِأنَّ الإخْبارَ قَدْ تَقَدَّمَ بِنَظائِرِهِ في قَوْلِهِ ”﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠١]“ .

صفحة ٤١٣

وجُمْلَةُ فاعْبُدُوهُ مُفَرَّعَةٌ عَلى قَوْلِهِ ”﴿رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾“ وقَدْ جَعَلَ الأمْرَ بِعِبادَتِهِ مُفَرَّعًا عَلى وصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ والوَحْدانِيَّةِ لِأنَّ الرُّبُوبِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقاقَ العِبادَةِ، والِانْفِرادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالعِبادَةِ، وقَدْ فُهِمَ هَذا التَّخْصِيصُ مِنَ التَّفْرِيعِ.

ووَجْهُ أمْرِهِمْ بِعِبادَتِهِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى بِحَيْثُ لا يَتَوَجَّهُونَ بِأعْمالِ البِرِّ في اعْتِقادِهِمْ إلّا إلى الأصْنامِ فَهم يَزُورُونَها ويُقَرِّبُونَ إلَيْها القَرابِينَ ويَنْذِرُونَ لَها النُّذُورَ ويَسْتَعِينُونَ بِها ويَسْتَنْجِدُونَ بِنُصْرَتِها، وما كانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلّا في مَوْسِمِ الحَجِّ، عَلى أنَّهم قَدْ خَلَطُوهُ بِالتَّقَرُّبِ إلى الأصْنامِ إذْ جَعَلُوا فَوْقَ الكَعْبَةِ (هُبَلَ)، وجَعَلُوا فَوْقَ الصَّفا والمَرْوَةِ (إسافًا ونائِلَةَ) . وكانَ كَثِيرٌ مِنهم يُهِلُّ لِـ (مَناةَ) في مُنْتَهى الحَجِّ، فَكانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِها صَرِيحًا، وأُمِرُوا بِالِاقْتِصارِ عَلَيْها بِطَرِيقِ الإيماءِ بِالتَّفْرِيعِ.

وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى الصِّفاتِ المُتَقَدِّمَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ ”فاعْبُدُوهُ“ مُعْتَرِضَةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ”فاعْبُدُوهُ“ بِناءً عَلى جَوازِ عَطْفِ الخَبَرِ عَلى الإنْشاءِ والعَكْسِ (وهو الحَقُّ)، عَلى وجْهِ تَكْمِيلِ التَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ بِعِبادَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، بِأنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِالأشْياءِ كُلِّها مِنَ الخَلْقِ والرِّزْقِ والإنْعامِ وكُلُّ ما يَطْلُبُ المَرْءُ حِفْظَهُ لَهُ، فالوَجْهُ عِبادَتُهُ ولا وجْهَ لِعِبادَةِ غَيْرِهِ، فَإنَّ اسْمَ الوَكِيلِ جامِعٌ لِمَعْنى الحِفْظِ والرِّقابَةِ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.