﴿قَدْ جاءَكم بَصائِرُ مِن رَبِّكم فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ .

هَذا انْتِقالٌ مِن مُحاجَّةِ المُشْرِكِينَ، وإثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ [الأنعام: ٩٥] إلى قَوْلِهِ ﴿وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] . فاسْتُؤْنِفَ الكَلامُ بِتَوْجِيهِ خِطابٍ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَقُولٍ لِفِعْلِ أمْرٍ بِالقَوْلِ في أوَّلِ الجُمْلَةِ، حُذِفَ عَلى الشّائِعِ مِن حَذْفِ القَوْلِ لِلْقَرِينَةِ في قَوْلِهِ ﴿وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ . ومُناسِبَةُ وُقُوعِ هَذا الِاسْتِئْنافِ عَقِبَ الكَلامِ المَسُوقِ إلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ كالتَّوْقِيفِ والشَّرْحِ والفَذْلَكَةِ لِلْكَلامِ السّابِقِ فَيُقَدَّرُ: قُلْ يا مُحَمَّدُ قَدْ جاءَكم بَصائِرُ

وبَصائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ؛ والبَصِيرَةُ: العَقْلُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ المَعانِي والحَقائِقُ، كَما أنَّ البَصَرَ إدْراكُ العَيْنِ الَّذِي تَتَجَلّى بِهِ الأجْسامُ، وأُطْلِقَتِ البَصائِرُ عَلى ما هو سَبَبٌ فِيها.

وإسْنادُ المَجِيءِ إلى البَصائِرِ اسْتِعارَةٌ لِلْحُصُولِ في عُقُولِهِمْ، شُبِّهَ بِمَجِيءِ شَيْءٍ كانَ غائِبًا، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ ما حَصَلَ عِنْدَهم بِأنَّهُ كالشَّيْءِ الغائِبِ المُتَوَقَّعِ مَجِيئُهُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ﴾ [الإسراء: ٨١] . وخُلُوُّ فِعْلِ ”جاءَ“ عَنْ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أنَّ فاعِلَهُ جَمْعُ مُؤَنَّثٍ؛ لِأنَّ الفِعْلَ المُسْنَدَ إلى جَمْعِ تَكْسِيرٍ مُطْلَقًا أوْ جَمْعِ مُؤَنَّثٍ يَجُوزُ اقْتِرانُهُ بِتاءِ التَّأْنِيثِ وخُلُوُّهُ عَنْها.

و”مِن“ ابْتِدائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِـ ”جاءَ“ أوْ صِفَةٌ لِـ ”بَصائِرُ“، وقَدْ جُعِلَ خِطابُ اللَّهِ بِها

صفحة ٤١٩

بِمَنزِلَةِ ابْتِداءِ السَّيْرِ مِن جانِبِهِ تَعالى، وهو مُنَزَّهٌ عَنِ المَكانِ والزَّمانِ، فالِابْتِداءُ مَجازٌ لُغَوِيٌّ، أوْ هو مَجازٌ بِالحَذْفِ بِتَقْدِيرِ: مِن إرادَةِ رَبِّكم. والمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ التَّعالِيمِ والذِّكْرَياتِ الَّتِي بِها البَصائِرُ، والحَثُّ عَلى العَمَلِ بِها، لِأنَّها مُسْداةٌ إلَيْهِمْ مِمَّنْ لا يَقَعُ في هَدْيِهِ خَلَلٌ ولا خَطَأٌ، مَعَ ما في ذِكْرِ الرَّبِّ وإضافَتِهِ مِن تَرْبِيَةِ المَهابَةِ وتَقْوِيَةِ داعِي العَمَلِ بِهَذِهِ البَصائِرِ.

ولِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾، أيْ فَلا عُذْرَ لَكم في الِاسْتِمْرارِ عَلى الضَّلالِ بَعْدَ هَذِهِ البَصائِرِ، ولا فائِدَةَ لِغَيْرِكم فِيها (﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾) أبْصَرَ أيْ مَن عَلِمَ الحَقَّ فَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، ومَن عَمِيَ أيْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا وِزْرُهُ عَلى نَفْسِهِ.

فاسْتُعِيرَ الإبْصارُ في قَوْلِهِ ”أبْصَرَ“ لِلْعِلْمِ بِالحَقِّ والعَمَلِ بِهِ؛ لِأنَّ المُهْتَدِيَ بِهَذا الهَدْيِ الوارِدِ مِنَ اللَّهِ بِمَنزِلَةِ الَّذِي نُوِّرَ لَهُ الطَّرِيقُ بِالبَدْرِ أوْ غَيْرِهِ، فَأبْصَرَهُ وسارَ فِيهِ، وبِهَذا الِاعْتِبارِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أبْصَرَ تَمْثِيلًا مُوجَزًا ضُمِّنَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ المُرْشِدِ إلى الحَقِّ إذا عَمِلَ بِما أرْشَدَ بِهِ، بِهَيْئَةِ المُبْصِرِ إذا انْتَفَعَ بِبَصَرِهِ.

واسْتُعِيرَ العَمى في قَوْلِهِ عَمِيَ لِلْمُكابَرَةِ والِاسْتِمْرارِ عَلى الضَّلالِ بَعْدَ حُصُولِ ما شَأْنُهُ أنْ يُقْلِعَهُ لِأنَّ المُكابِرَ بَعْدَ ذَلِكَ كالأعْمى لا يَنْتَفِعُ بِإنارَةِ طَرِيقٍ ولا بِهَدْيِ هادٍ خِرِّيتٍ. ويَجُوزُ اعْتِبارُ التَّمْثِيلِيَّةِ فِيهِ أيْضًا كاعْتِبارِها في ضِدِّهِ السّابِقِ.

واسْتَعْمَلَ ”اللّامَ“ في الأوَّلِ اسْتِعارَةً لِلنَّفْعِ لِدَلالَتِها عَلى المِلْكِ وإنَّما يُمْلَكُ الشَّيْءُ النّافِعُ المُدَّخَرُ لِلنَّوائِبِ، واسْتُعِيرَتْ (عَلى) في الثّانِي لِلضُّرِّ والتَّبِعَةِ، لِأنَّ الشَّيْءَ الضّارَّ ثَقِيلٌ عَلى صاحِبِهِ يُكَلِّفُهُ تَعَبًا وهو كالحِمْلِ المَوْضُوعِ عَلى ظَهْرِهِ، وهَذا مَعْرُوفٌ في الكَلامِ البَلِيغِ. قالَ تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: ٤٦]، وقالَ ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾ [الإسراء: ١٥]،

صفحة ٤٢٠

وقالَ ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، ولِأجْلِ ذَلِكَ سُمِّي الإثْمُ وِزْرًا كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وهم يَحْمِلُونَ أوْزارَهم عَلى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١]، وقَدْ جاءَ اللّامُ في مَوْضِعِ (عَلى) في بَعْضِ الآياتِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسراء: ٧] .

وفِي الآيَةِ مُحَسِّنُ جِناسِ الِاشْتِقاقِ بَيْنَ البَصائِرِ وأبْصَرَ، ومُلاحَظَةِ مُناسِبَةِ في الإبْصارِ والبَصائِر. وفِيها مُحَسِّنُ المُطابَقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ أبْصَرَ وعَمِيَ، وبَيْنَ (اللّامِ) و(عَلى) .

ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِنَفْسِهِ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ. وتَقْدِيرُهُ: فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أبْصَرَ. واقْتَرَنَ الجَوابُ بِالفاءِ نَظَرًا لِصَدْرِهِ إذْ كانَ اسْمًا مَجْرُورًا وهو غَيْرُ صالِحٍ لِأنْ يَلِيَ أداةَ الشَّرْطِ.

وإنَّما نُسِجَ نَظْمُ الآيَةِ عَلى هَذا النَّسْجِ لِلْإيذانِ بِأنَّ ”لِنَفْسِهِ“ مُقَدَّمٌ في التَّقْدِيرِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ المَحْذُوفِ. والتَّقْدِيرُ: فَلِنَفْسِهِ أبْصَرَ، ولَوْلا قَصْدُ الإيذانِ بِهَذا التَّقْدِيمِ لَقالَ: فَمَن أبْصَرَ أبْصَرَ لِنَفْسِهِ، كَما قالَ ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٧] والمَقامُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ المَعْمُولِ هُنا لِيُفِيدَ القَصْرَ، أيْ فَلِنَفْسِهِ أبْصَرَ لا لِفائِدَةِ غَيْرِهِ، لِأنَّهم كانُوا يَحْسَبُونَ أنَّهم يَغِيظُونَ النَّبِيءَ ﷺ بِإعْراضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إيّاهم إلى الهُدى، وقَرِينَةُ ذَلِكَ أنَّ هَذا الكَلامَ مَقُولٌ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ وقَدْ أوْمَأ إلى هَذا صاحِبُ الكَشّافِ، بِخِلافِ آيَةِ ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٧]، فَإنَّها حَكَتْ كَلامًا خُوطِبَ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى وهم لا يَتَوَهَّمُونَ أنَّ إحْسانَهم يَنْفَعُ اللَّهَ أوْ إساءَتَهم تَضُرُّ اللَّهَ.

والكَلامُ عَلى قَوْلِهِ ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها نَظِيرُ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ ﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ . وعُدِّيَ فِعْلُ ”عَمِيَ“ بِحَرْفِ (عَلى) لِأنَّ العَمى لَمّا كانَ مَجازًا كانَ ضُرًّا يَقَعُ عَلى صاحِبِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ تَكْمِيلٌ لِما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها﴾، أيْ فَلا يَنالُنِي مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، فَلا يَرْجِعُ لِي نَفْعُكم ولا يَعُودُ عَلَيَّ ضُرُّكم ولا أنا وكِيلٌ عَلى نَفْعِكم وتَجَنُّبِ ضُرِّكم فَلا تَحْسَبُوا أنَّكم حَتّى تَمْكُرُونَ بِي بِالإعْراضِ عَنِ الهُدى والِاسْتِمْرارِ في الضَّلالِ.

صفحة ٤٢١

والحَفِيظُ: الحارِسُ ومَن يُجْعَلُ إلَيْهِ نَظَرُ غَيْرِهِ وحِفْظُهُ، وهو بِمَنزِلَةِ الوَكِيلِ إلّا أنَّ الوَكِيلَ يَكُونُ مَجْعُولًا لَهُ الحِفْظُ مِن جانِبِ الشَّيْءِ المَحْفُوظِ، والحَفِيظُ أعَمُّ لِأنَّهُ يَكُونُ مِن جانِبِهِ ومِن جانِبِ مُوالِيهِ. وهَذا قَرِيبٌ مِن مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهو الحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكم بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: ٦٦] .

والإتْيانُ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُنا دَقِيقٌ؛ لِأنَّ الحَفِيظَ وصْفٌ لا يُفِيدُ غَيْرَهُ مُفادَهُ، فَلا يَقُومُ مَقامَهُ فِعْلُ حَفِظَ، فالحَفِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ يُقَدَّرُ لَها فِعْلٌ مَنقُولٌ إلى ”فَعُلَ“ بِضَمِّ العَيْنِ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ مِثْلُ الرَّحِيمِ.

ولا يُفِيدُ تَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ في الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ اخْتِصاصًا خِلافًا لِما يُوهِمُهُ ظاهِرُ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ وإنْ كانَ العَلّامَةُ التَّفْتَزانِيُّ مالَ إلَيْهِ، وسَكَتَ عَنْهُ السَّيِّدُ الجُرْجانِيُّ وهو وُقُوفٌ مَعَ الظّاهِرِ. وتَقْدِيمُ ”عَلَيْكم“ عَلى ”بِحَفِيظٍ“ لِلِاهْتِمامِ ولِرِعايَةِ الفاصِلَةِ.