﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهم ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهم فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .

عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٠٦] يَزِيدُ مَعْنى الإعْراضِ المَأْمُورِ بِهِ بَيانًا، ويُحَقِّقُ ما قُلْناهُ أنْ لَيْسَ المَقْصُودَ مِنَ الإعْراضِ تَرْكُ الدَّعْوَةِ بَلِ المَقْصُودُ الإغْضاءُ عَنْ سِبابِهِمْ وبَذِيءِ أقْوالِهِمْ مَعَ الدَّوامِ عَلى مُتابَعَةِ الدَّعْوَةِ بِالقُرْآنِ، فَإنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ أصْنامِهِمْ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِرْسالِ عَلى دَعْوَتِهِمْ وإبْطالِ مُعْتَقَداتِهِمْ مَعَ تَجَنُّبِ المُسْلِمِينَ سَبَّ ما يَدْعُونَهم مِن دُونِ اللَّهِ.

والسَّبُّ: كَلامٌ يَدُلُّ عَلى تَحْقِيرِ أحَدٍ أوْ نِسْبَتِهِ إلى نَقِيصَةٍ أوْ مَعَرَّةٍ، بِالباطِلِ أوْ بِالحَقِّ، وهو مُرادِفُ الشَّتْمِ. ولَيْسَ مِنَ السَّبِّ النِّسْبَةُ إلى خَطَأٍ في الرَّأْيِ أوِ العَمَلِ، ولا النِّسْبَةُ إلى ضَلالٍ في الدِّينِ إنْ كانَ صَدَرَ مِن مُخالِفٍ في الدِّينِ.

والمُخاطَبُ بِهَذا النَّهْيِ المُسْلِمُونَ لا الرَّسُولُ ﷺ لِأنَّ

صفحة ٤٢٨

الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فَحّاشًا ولا سَبّابًا؛ لِأنَّ خُلُقَهُ العَظِيمَ حائِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذَلِكَ، ولِأنَّهُ يَدْعُوهم بِما يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ، فَإذا شاءَ اللَّهُ تَرْكَهُ مِن وحْيِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ، وإنَّما كانَ المُسْلِمُونَ لِغَيْرَتِهِمْ عَلى الإسْلامِ رُبَّما تَجاوَزُوا الحَدَّ فَفَرَطَتْ مِنهم فُرُطاتٌ سَبُّوا فِيها أصْنامَ المُشْرِكِينَ.

رَوى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كانَ المُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أوْثانَ الكُفّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهاهُمُ اللَّهُ أنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ. وهَذا أصَحُّ ما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وأوْفَقُهُ بِنَظْمِ الآيَةِ. وأمّا ما رَوى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ «لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قالَ المُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنا وشَتْمِها لَنَهْجُوَنَّ إلَهَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ذَلِكَ»، فَهو ضَعِيفٌ لِأنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَلْحَةَ ضَعِيفٌ ولَهُ مُنْكَراتٌ، ولَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبّاسٍ. ومِنَ البَعِيدِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المُرادَ مِنَ النَّهْيِ في هَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ ذَلِكَ واقِعٌ في القُرْآنِ فَلا يُناسِبُ أنْ يَنْهى عَنْهُ بِلَفْظِ ”ولا تَسُبُّوا“ وكانَ أنْ يُقالَ: ولا تَجْهَرُوا بِسَبِّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَن دُونِ اللَّهِ مَثَلًا. كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ١١٠] . وكَذا ما رَواهُ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ لَمّا قَرُبَتْ وفاةُ أبِي طالِبٍ قالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ ونَطْلُبُ مِنهُ أنْ يَنْهى ابْنَ أخِيهِ عَنّا فَإنّا نَسْتَحْيِي أنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فانْطَلَقَ نَفَرٌ مِن سادَتِهِمْ إلى أبِي طالِبٍ وقالُوا: أنْتَ سَيِّدُنا، وخاطَبُوهُ بِما رامَوْا، فَدَعا أبُو طالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَهُ: هَؤُلاءِ قَوْمُكَ وبَنُو عَمِّكَ يُرِيدُونَ أنْ تَدَعَهم وآلِهَتَهم ويَدَعُوكَ وإلَهَكَ، وقالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنا أوْ لَنَشْتُمَنَّكَ ولَنَشْتُمَنَّ مَن يَأْمُرُكَ. ولَمْ يَقِلِ السُّدِّيُّ أنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَكِنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ ما أوْرَدْناهُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ.

قالَ الفَخْرُ: ها هُنا إشْكالانِ هُما: أنَّ النّاسَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ سُورَةَ الأنْعامِ

صفحة ٤٢٩

نَزَلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ كَذا، وأنَّ الكُفّارَ كانُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعالى وكانُوا يَقُولُونَ: عَبَدْنا الأصْنامَ لِتَكُونَ شُفَعاءَ لَنا عِنْدَ اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إقْدامُ الكُفّارِ عَلى شَتْمِ اللَّهِ تَعالى اهـ.

وأقُولُ يَدْفَعُ الإشْكالَ الأوَّلَ أنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَيْسَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُقارِنًا لِلنُّزُولِ، فَإنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَقَدَّمُ زَمانَهُ، ثُمَّ يُشارُ إلَيْهِ في الآيَةِ النّازِلَةِ فَتَكُونُ الآيَةُ جَوابًا عَنْ أقْوالِهِمْ. وقَدْ أجابَ الفَخْرُ بِمِثْلِ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ﴾ [الأنعام: ١١١] الآيَةَ. ويَدْفَعُ الإشْكالَ الثّانِي أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنا لَنَهْجُوَنَّ إلَهَكَ، ومَعْناهُ أنَّهم يُنْكِرُونَ أنَّ اللَّهَ هو إلَهُهُ ولِذَلِكَ أنْكَرُوا الرَّحْمَنَ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالُوا وما الرَّحْمَنُ أنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وزادَهم نُفُورًا﴾ [الفرقان: ٦٠] . فَهم يُنْكِرُونَ أنَّ اللَّهَ أمَرَهُ بِذَمِّ آلِهَتِهِمْ لِأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ آلِهَتَهم مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وإنَّما يَزْعُمُونَ أنَّ شَيْطانًا يَأْمُرُ النَّبِيءَ ﷺ بِسَبِّ الأصْنامِ، ألا تَرى إلى قَوْلِ امْرَأةٍ مِنهم لَمّا فَتِرَ الوَحْيُ في ابْتِداءِ البِعْثَةِ: ما أرى شَيْطانَهُ إلّا ودَّعَهُ، وكانَ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ الضُّحى.

وجَوابُ الفَخْرِ عَنْهُ: بِأنَّ بَعْضَهم كانَ لا يُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ وهُمُ الدَّهْرِيُّونَ، أوْ أنَّ المُرادَ أنَّهم يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَأجْرى اللَّهُ شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرى شَتْمِ اللَّهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠] اهـ. فَإنَّ في هَذا التَّأْوِيلِ بُعْدًا لا داعِيَ إلَيْهِ.

والوَجْهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِالسَّبِّ المَنهِيِّ عَنْهُ فِيها ما جاءَ في القُرْآنِ مِن إثْباتِ نَقائِصِ آلِهَتِهِمْ مِمّا يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ إلَهِيَّتِها، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] في سُورَةِ الأعْرافِ. وأمّا ما عَداهُ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ [الأعراف: ١٩٥] فَلَيْسَ مِنَ الشَّتْمِ ولا مِنَ السَّبِّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ الِاحْتِجاجِ ولَيْسَ تَصَدِّيًا لِلشَّتْمِ، فالمُرادُ في الآيَةِ ما يَصْدُرُ مِن بَعْضِ المُسْلِمِينَ مِن كَلِماتِ الذَّمِّ والتَّعْبِيرِ لِآلِهَةِ المُشْرِكِينَ، كَما رُوِيَ في السِّيرَةِ «أنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ جاءَ رَسُولًا مِن أهْلِ مَكَّةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ فَكانَ مِن جُمْلَةِ ما قالَهُ: وايْمُ اللَّهِ لَكَأنِّي

صفحة ٢٣٠

بِهَؤُلاءِ (يَعْنِي المُسْلِمِينَ) قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ، وكانَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حاضِرًا، فَقالَ لَهُ أبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ» إلى آخَرَ الخَبَرِ.

ووَجْهُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ أصْنامِهِمْ هو أنَّ السَّبَّ لا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ هو الِاسْتِدْلالُ عَلى إبْطالِ الشِّرْكِ وإظْهارِ اسْتِحالَةِ أنْ تَكُونَ الأصْنامُ شُرَكاءَ لِلَّهِ تَعالى، فَذَلِكَ هو الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الحَقُّ عَنِ الباطِلِ، ويَنْهَضُ بِهِ المُحِقُّ ولا يَسْتَطِيعُهُ المُبْطِلُ، فَأمّا السَّبُّ فَإنَّهُ مَقْدُورٌ لِلْمُحِقِّ ولِلْمُبْطِلِ فَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ التَّساوِي بَيْنَهُما. ورُبَّما اسْتَطاعَ المُبْطِلُ بِوَقاحَتِهِ وفُحْشِهِ ما لا يَسْتَطِيعُهُ المُحِقُّ، فَيَلُوحُ لِلنّاسِ أنَّهُ تَغَلَّبَ عَلى المُحِقِّ. عَلى أنَّ سَبَّ آلِهَتِهِمْ لَمّا كانَ يَحْمِي غَيْظَهم ويَزِيدُ تَصَلُّبَهم قَدْ عادَ مُنافِيًا لِمُرادِ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَقَدْ قالَ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]، وقالَ لِمُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه: ٤٤]، فَصارَ السَّبُّ عائِقًا عَنِ المَقْصُودِ مِنَ البِعْثَةِ، فَتَمَحَّضَ هَذا السَّبُّ لِلْمَفْسَدَةِ ولَمْ يَكُنْ مَشُوبًا بِمَصْلَحَةٍ. ولَيْسَ هَذا مِثْلُ تَغْيِيرِ المُنْكَرِ إذا خِيفَ إقْضاؤُهُ إلى مَفْسَدَةٍ؛ لِأنَّ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ مَصْلَحَةٌ بِالذّاتِ، وإفْضاؤُهُ إلى المَفْسَدَةِ بِالعَرْضِ. وذَلِكَ مَجالٌ تَتَرَدَّدُ فِيهِ أنْظارُ العُلَماءِ المُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ المُوازَنَةِ بَيْنَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ قُوَّةً وضَعْفًا، وتَحَقُّقًا واحْتِمالًا. وكَذَلِكَ القَوْلُ في تَعارُضِ المَصالِحِ والمَفاسِدِ كُلِّها.

وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنسُوخٍ. قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ العُلَماءُ: حُكْمُها باقٍ في هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى كُلِّ حالٍ، فَمَتى كانَ الكافِرُ في مَنَعَةٍ وخِيفَ أنَّهُ إنْ سَبَّ المُسْلِمُونَ أصْنامَهُ أوْ أُمُورَ شَرِيعَتِهِ أنْ يَسُبَّ هو الإسْلامَ أوِ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أنْ يَسُبَّ صُلْبانَهم ولا كَنائِسَهم لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ البَعْثِ عَلى المَعْصِيَةِ اهـ. أيْ عَلى زِيادَةِ الكُفْرِ. ولَيْسَ مِنَ السَّبِّ إبْطالُ ما يُخالِفُ الإسْلامَ مِن عَقائِدِهِمْ في مَقامِ المُجادَلَةِ ولَكِنَّ السَّبَّ أنْ نُباشِرَهم في غَيْرِ مُقامِ المُناظَرَةِ بِذَلِكَ، ونَظِيرُ هَذا ما قالَهُ عُلَماؤُنا فِيما يَصْدُرُ

صفحة ٤٣١

مِن أهْلِ الذِّمَّةِ مِن سَبِّ اللَّهِ تَعالى أوْ سَبِّ النَّبِيءِ ﷺ بِأنَّهم إنْ صَدَرَ مِنهم ما هو مِن أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَلا يُعَدُّ سَبًّا وإنْ تَجاوَزُوا ذَلِكَ عُدَّ سَبًّا، ويُعَبِّرُ عَنْها الفُقَهاءُ بِقَوْلِهِمْ: ما بِهِ كُفْرٌ وغَيْرُ ما بِهِ كُفْرٍ.

وقَدِ احْتَجَّ عُلَماؤُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إثْباتِ أصْلٍ مِن أُصُولِ الفِقْهِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ، وهو المُلَقَّبُ بِمَسْألَةِ سَدِّ الذَّرائِعِ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: مَنَعَ اللَّهُ في كِتابِهِ أحَدًا أنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جائِزًا يُؤَدِّي إلى مَحْظُورٍ، ولِأجْلٍ هَذا تَعَلَّقَ عُلَماؤُنا بِهَذِهِ الآيَةِ في سَدِّ الذَّرائِعِ وهو كُلُّ عَقْدٍ جائِزٍ في الظّاهِرِ يُؤَوَّلُ أوْ يُمْكِنُ أنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلى مَحْظُورٍ. وقالَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الأعْرافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ﴾ [الأعراف: ١٦٣]: مالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وتابَعَهُ عَلَيْها أحْمَدُ في بَعْضِ رِواياتِهِ وخَفِيَتْ عَلى الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما مَعَ تَبَحُّرِهِما في الشَّرِيعَةِ، وهو كُلُّ عَمَلٍ ظاهِرِ الجَوازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى مَحْظُورٍ اهـ. وفَسَّرَ المازِرِيُّ في بابِ بُيُوعِ الآجالِ مِن شَرْحِهِ لِلتَّلْقِينِ سَدَّ الذَّرِيعَةِ بِأنَّهُ مَنعُ ما يَجُوزُ لِئَلّا يُتَطَرَّقَ بِهِ إلى ما لا يَجُوزُ اهـ، والمُرادُ: سَدُّ ذَرائِعِ الفَسادِ، كَما أفْصَحَ عَنْهُ القَرافِيُّ في تَنْقِيحِ الفُصُولِ وفي الفَرْقِ الثّامِنِ والخَمْسِينَ فَقالَ: الذَّرِيعَةُ: الوَسِيلَةُ إلى الشَّيْءِ. ومَعْنى سَدِّ الذَّرائِعِ حَسْمُ مادَّةِ وسائِلِ الفَسادِ. وأجْمَعْتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ الذَّرائِعَ ثَلاثَةُ أقْسامٍ: أحَدُها مُعْتَبَرٌ إجْماعًا كَحَفْرِ الآبارِ في طُرُقِ المُسْلِمِينَ، وإلْقاءِ السُّمِّ في أطْعِمَتِهِمْ، وسَبِّ الأصْنامِ عِنْدَ مَن يَعْلَمُ مِن حالِهِ أنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعالى حِينَئِذٍ. وثانِيها مُلْغًى إجْماعًا كَزِراعَةِ العِنَبِ فَإنَّها لا تُمْنَعُ لِخَشْيَةِ الخَمْرِ، وكالشَّرِكَةِ في سُكْنى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنا. وثالِثُها مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الآجالِ، فاعْتَبَرَ مالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذَّرِيعَةَ فِيها وخالَفَهُ غَيْرُهُ اهـ. وعَنى بِالمُخالِفِ الشّافِعِيَّ وأبا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.

وهَذِهِ القاعِدَةُ تَنْدَرِجُ تَحْتَ قاعِدَةِ الوَسائِلِ والمَقاصِدِ، فَهَذِهِ القاعِدَةُ

صفحة ٤٣٢

شُعْبَةٌ مِن قاعِدَةِ إعْطاءِ الوَسِيلَةِ حُكْمَ المَقْصِدِ خاصَّةً بِوَسائِلِ حُصُولِ المَفْسَدَةِ. ولا يَخْتَلِفُ الفُقَهاءُ في اعْتِبارِ مَعْنى سَدِّ الذَّرائِعِ في القِسْمِ الَّذِي حَكى القَرافِيُّ الإجْماعَ عَلى اعْتِبارِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِيهِ. ولَيْسَ لِهَذِهِ القاعِدَةِ عُنْوانٌ في أُصُولِ الحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ، ولا تَعَرَّضُوا لَها بِإثْباتٍ ولا نَفْيٍ، ولَمْ يَذْكُرْها الغَزالِيُّ في المُسْتَصْفى في عِدادِ الأُصُولِ المَوْهُومَةِ في خاتِمَةِ القُطْبِ الثّانِي في أدِلَّةِ الأحْكامِ.

و”عَدْوًا“ بِفَتْحِ العَيْنِ وسُكُونِ الدّالِ وتَخْفِيفِ الواوِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وهو مَصْدَرٌ بِمَعْنى العُدْوانِ والظُّلْمِ، وهو مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِـ ”يَسُبُّوا“ لِأنَّ العَدْوَ هُنا صِفَةٌ لِلسَّبِّ، فَصَحَّ أنْ يَحُلَّ مَحَلَّهُ في المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بَيانًا لِنَوْعِهِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ (عُدُوًّا) بِضَمِّ العَيْنِ والدّالِ وتَشْدِيدِ الواوِ وهو مَصْدَرٌ كالعَدْوِ.

ووَصْفُ سَبِّهِمْ بِأنَّهُ عَدْوٌ تَعْرِيضٌ بِأنَّ سَبَّ المُسْلِمِينَ أصْنامَ المُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ الِاعْتِداءِ، وجَعَلَ ذَلِكَ السَّبَّ عَدْوًا سَواءً كانَ مُرادًا بِهِ اللَّهُ أمْ كانَ مُرادًا بِهِ مَن يَأْمُرُ النَّبِيءَ ﷺ بِما جاءَ بِهِ؛ لِأنَّ الَّذِي أمَرَ النَّبِيءَ ﷺ بِما جاءَ بِهِ هو في نَفْسِ الأمْرِ اللَّهُ تَعالى فَصادَفُوا الِاعْتِداءَ عَلى جَلالِهِ.

وقَوْلُهُ ”بِغَيْرِ عِلْمٍ“ حالٌ مِن ضَمِيرٍ يَسُبُّوا، أيْ عَنْ جَهالَةٍ، فَهم لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ لا يَزَعُهم وازِعٌ عَنْ سَبِّهِ، ويَسُبُّونَهُ غَيْرَ عالِمِينِ بِأنَّهم يَسُبُّونَ اللَّهَ لِأنَّهم يَسُبُّونَ مَن أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِما جاءَ بِهِ فَيُصادِفُ سَبُّهم سَبَّ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ الَّذِي أمَرَهُ بِما جاءَ بِهِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِلْمِ صِفَةً لِـ ”عَدْوًا“ كاشِفَةً، لِأنَّ ذَلِكَ العَدْوَ لا يَكُونُ إلّا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعِظَمِ الجُرْمِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ، أوْ عَنْ عِلْمٍ بِذَلِكَ، لَكِنَّ حالَةَ إقْدامِهِمْ عَلَيْهِ تُشْبِهُ حالَةَ عَدَمِ العِلْمِ بِوَخامَةِ عاقِبَتِهِ.

صفحة ٤٣٣

وقَوْلُهُ ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ مَعْناهُ كَتَزْيِينِنا لِهَؤُلاءِ سُوءَ عَمَلِهِمْ ﴿زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ فالمُشارُ إلَيْهِ هو ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم بِقَوْلِهِ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ [الأنعام: ١٠٠] إلى قَوْلِهِ ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ . فَإنَّ اجْتِراءَهم عَلى هَذِهِ الجَرائِمِ وعَماهم عَنِ النَّظَرِ في سُوءِ عَواقِبِها نَشَأ عَنْ تَزْيِينِها في نُفُوسِهِمْ وحُسْبانِهِمْ أنَّها طَرائِقُ نَفْعٍ لَهم ونَجاةٍ وفَوْزٍ في الدُّنْيا بِعِنايَةِ أصْنامِهِمْ. فَعَلى هَذِهِ السُّنَّةِ وبِمُماثِلِ هَذا التَّزْيِينِ زَيَّنَ اللَّهُ أعْمالَ الأُمَمِ الخالِيَةِ مَعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثُوا فِيهِمْ فَكانُوا يُشاكِسُونَهم ويَعْصُونَ نُصْحَهم ويَجْتَرِئُونَ عَلى رَبِّهِمُ الَّذِي بَعَثَهم إلَيْهِمْ، فَلَمّا شَبَّهَ بِالمُشارِ إلَيْهِ تَزْيِينًا عَلِمَ السّامِعُ أنَّ ما وقَعَتْ إلَيْهِ الإشارَةُ هو مِن قَبِيلِ التَّزْيِينِ. وقَدْ جَرى اسْمُ الإشارَةِ هُنا عَلى غَيْرِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] ونَظائِرِهِ، لِأنَّ ما بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأحْوالِ غَيْرِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم بَلْ بِأحْوالٍ أعَمُّ مِن أحْوالِهِمْ. وفي هَذا الكَلامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوَعُّدِ بِأنْ سَيَحُلُّ بِمُشْرِكِي العَرَبِ مِنَ العَذابِ مِثْلُ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ في الدُّنْيا.

وحَقِيقَةُ تَزْيِينِ اللَّهِ لَهم ذَلِكَ أنَّهُ خَلَقَهم بِعُقُولٍ يَحْسُنُ لَدَيْها مِثْلُ ذَلِكَ الفِعْلِ، عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٠٧] . وذَلِكَ هو القانُونُ في نَظائِرِهِ.

والتَّزْيِينُ تَفْعِيلٌ مِنَ الزَّيْنِ، وهو الحُسْنُ، أوْ مِنَ الزِّينَةِ، وهي ما يُتَحَسَّنُ بِهِ الشَّيْءُ. فالتَّزْيِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذا زِينَةٍ أوْ إظْهارُهُ زَيْنًا أوْ نِسْبَتُهُ إلى الزَّيْنِ. وهو هُنا بِمَعْنى إظْهارِهِ في صُورَةِ الزَّيْنِ وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فالتَّفْعِيلُ فِيهِ لِلنِّسْبَةِ مِثْلُ التَّفْسِيقِ. وفي قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧] بِمَعْنى جَعَلَهُ زَيْنًا، فالتَّفْعِيلُ لِلْجَعْلِ لِأنَّهُ حَسَنٌ في ذاتِهِ. ولِما في قَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالوَعِيدِ بِعَذابِ الأُمَمِ عَقَّبَ الكَلامَ بِـ ”ثُمَّ“ المُفِيدَةِ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهم فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾، لِأنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ الجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ

صفحة ٤٣٤

بِـ ”ثُمَّ“ أعْظَمُ مِمّا تَضَمَّنَتْهُ المَعْطُوفُ عَلَيْها، لِأنَّ الوَعِيدَ الَّذِي عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِـ ”ثُمَّ“ أشَدُّ وأنْكى، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيا زائِلٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ. والمَعْنى وأعْظَمُ مِن ذَلِكَ أنَّهم إلى اللَّهِ مَرْجِعُهم فَيُحاسِبُهم. والعُدُولُ عَنِ اسْمِ الجَلالَةِ إلى لَفْظِ رَبِّهِمْ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ الوَعِيدِ وتَعْلِيلِ اسْتِحْقاقِهِ بِأنَّهم يَرْجِعُونَ إلى مالِكِهِمُ الَّذِي خَلَقَهم فَكَفَرُوا نِعَمَهُ وأشْرَكُوا بِهِ فَكانُوا كالعَبِيدِ الآبِقِينَ يَطُوفُونَ ما يَطُوفُونَ ثُمَّ يَقَعُونَ في يَدِ مالِكِهِمْ.

والإنْباءُ: الإعْلامُ، وهو تَوْقِيفُهم عَلى سُوءِ أعْمالِهِمْ. وقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنا في لازِمِ مَعْناهُ، وهو التَّوْبِيخُ والعِقابُ، لِأنَّ العِقابَ هو العاقِبَةُ المَقْصُودَةُ مِن إعْلامِ المُجْرِمِ بِجُرْمِهِ. والفاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنِ المَرْجِعِ مُؤْذِنَةٌ بِسُرْعَةِ العِقابِ إثْرَ الرُّجُوعِ إلَيْهِ.