﴿وذَرُوا ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنَهُ﴾

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، والمَعْنى: إنْ أرَدْتُمُ الزُّهْدَ والتَّقَرُّبَ إلى اللَّهِ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِتَرْكِ الإثْمِ، لا بِتَرْكِ المُباحِ، وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] الآيَةَ.

وتَقَدَّمَ القَوْلُ عَلى فِعْلِ (ذَرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَعِبًا ولَهْوًا﴾ [الأنعام: ٧٠] . في هَذِهِ السُّورَةِ، والإثْمُ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والتَّعْرِيفُ في الإثْمِ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْراقِ؛ لِأنَّهُ في المَعْنى تَعْرِيفٌ لِلظّاهِرِ ولِلْباطِنِ مِنهُ، والمَقْصُودُ مِن هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ تَعْمِيمُ أفْرادِ الإثْمِ لِانْحِصارِها في هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، كَما يُقالُ: المَشْرِقُ والمَغْرِبُ والبَرُّ والبَحْرُ، لِقَصْدِ اسْتِغْراقِ الجِهاتِ.

وظاهِرُ الإثْمِ ما يَراهُ النّاسُ، وباطِنُهُ ما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النّاسُ ويَقَعُ في السِّرِّ، وقَدِ اسْتَوْعَبَ هَذا الأمْرَ تَرْكُ جَمِيعِ المَعاصِي، وقَدْ كانَ كَثِيرٌ مِنَ العَرَبِ يُراءُونَ النّاسَ بِعَمَلِ الخَيْرِ، فَإذا خَلَوُا ارْتَكَبُوا الآثامَ، وفي بَعْضِهِمْ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ وهو ألَدُّ الخِصامِ وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٤] ﴿وإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهادُ﴾ [البقرة: ٢٠٦] .

* * *

صفحة ٣٨

﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِتَرْكِ الإثْمِ، وإنْذارٌ وإعْذارٌ لِلْمَأْمُورِينَ، ولِذَلِكَ أُكِّدَ الخَبَرُ بِـ (إنَّ) وهي في مِثْلِ هَذا المَقامِ؛ أيْ: مَقامِ تَعْقِيبِ الأمْرِ أوِ الإخْبارِ تُفِيدُ مَعْنى التَّعْلِيلِ، وتُغْنِي عَنِ الفاءِ، ومِثالُها المَشْهُورُ قَوْلُ بَشّارٍ:

إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبْكِيرِ

وإظْهارُ لَفْظِ الإثْمِ في مَقامِ إضْمارِهِ؛ إذْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَهُ لِزِيادَةِ التَّنْدِيدِ بِالإثْمِ، ولِيَسْتَقِرَّ في ذِهْنِ السّامِعِ أكْمَلَ اسْتِقْرارٍ، ولِتَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسِيرَ مَسِيرَ الأمْثالِ والحِكَمِ.

وحَرْفُ السِّينِ - المَوْضُوعُ لِلْخَبَرِ المُسْتَقْبَلِ - مُسْتَعْمَلٌ هُنا في تَحَقُّقِ الوُقُوعِ واسْتِمْرارِهِ.

ولَمّا جاءَ في المُذْنِبِينَ فِعْلُ يَكْسِبُونَ المُتَعَدِّي إلى الإثْمِ، جاءَ في صِلَةِ جَزائِهِمْ بِفِعْلِ يَقْتَرِفُونَ؛ لِأنَّ الِاقْتِرافَ إذا أُطْلِقَ فالمُرادُ بِهِ اكْتِسابُ الإثْمِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِيَقْتَرِفُوا ما هم مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: ١١٣] .