﴿وقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ﴾

عُطِفَتْ جُمْلَةُ (وقالَ المَلَأُ) ولَمْ تُفْصَلْ كَما فُصِلَتِ الَّتِي قَبْلَها لِانْتِهاءِ المُحاوَرَةِ المُقْتَضِيَةِ فَصْلَ الجُمَلِ في حِكايَةِ المُحاوَرَةِ، وهَذا قَوْلٌ أُنُفٌ وجَّهَ فِيهِ المَلَأُ خِطابَهم إلى عامَّةِ قَوْمِهِمُ الباقِينَ عَلى الكُفْرِ تَحْذِيرًا لَهم مِنِ اتِّباعِ شُعَيْبٍ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِن أنْ تَحِيكَ في نُفُوسِهِمْ دَعْوَةُ شُعَيْبٍ وصِدْقُ مُجادَلَتِهِ، فَلَمّا رَأوْا حُجَّتَهُ ساطِعَةً ولَمْ يَسْتَطِيعُوا الفَلْجَ عَلَيْهِ في المُجادَلَةِ، وصَمَّمُوا عَلى كُفْرِهِمْ، أقْبَلُوا عَلى خِطابِ الحاضِرِينَ مِن قَوْمِهِمْ لِيُحَذِّرُوهم مِن مُتابَعَةِ شُعَيْبٍ ويُهَدِّدُوهم بِالخَسارَةِ.

وذَكَرَ المَلَأ في مَقامِ الإضْمارِ لِبُعْدِ المَعادِ.

وإنَّما وصَفَ المَلَأ بِالمَوْصُولِ وصِلَتِهِ دُونَ أنْ يَكْتَفِيَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ المُقْتَضِي أنَّ المَلَأ الثّانِيَ هو المَلَأُ المَذْكُورُ قَبْلَهُ. لِقَصْدِ زِيادَةِ ذَمِّ المَلَأِ بِوَصْفِ الكُفْرِ، كَما ذُمَّ فِيما سَبَقَ بِوَصْفِ الِاسْتِكْبارِ.

ووَصْفُ المَلَأِ هُنا بِالكُفْرِ لِمُناسَبَةِ الكَلامِ المَحْكِيِّ عَنْهم، الدّالِّ عَلى تَصَلُّبِهِمْ في

صفحة ١٣

كُفْرِهِمْ، كَما وُصِفُوا في الآيَةِ السّابِقَةِ بِالِاسْتِكْبارِ لِمُناسَبَةِ حالِ مُجادَلَتِهِمْ شُعَيْبًا، كَما تَقَدَّمَ، فَحَصَلَ مِنَ الآيَتَيْنِ أنَّهم مُسْتَكْبِرُونَ كافِرُونَ.

والمُخاطَبُ في قَوْلِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا هُمُ الحاضِرُونَ حِينَ الخِطابِ لَدى المَلَأِ، فَحُكِيَ كَلامُ المَلَأِ كَما صَدَرَ مِنهم، والسِّياقُ يُفَسِّرُ المَعْنِيِّينَ بِالخِطابِ، أعْنِي عامَّةَ قَوْمِ شُعَيْبٍ الباقِينَ عَلى الكُفْرِ.

واللّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وإنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ جَوابُ القَسَمِ وهو دَلِيلٌ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ المَحْذُوفِ، كَما هو الشَّأْنُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ.

والخُسْرانُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى -: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهم في سُورَةِ الأنْعامِ. وهو مُسْتَعارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ مِن حَيْثُ أُرِيدَ النَّفْعُ، والمُرادُ بِهِ هُنا التَّحْذِيرُ مِن أضْرارٍ تَحْصُلُ لَهم في الدُّنْيا مِن جَرّاءِ غَضَبِ آلِهَتِهِمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهم لا يَعْتَقِدُونَ البَعْثَ، فَإنْ كانُوا يَعْتَقِدُونَهُ، فالمُرادُ الخُسْرانُ الأعَمُّ، ولَكِنَّ الأهَمَّ عِنْدَهم هو الدُّنْيَوِيُّ.

والفاءُ في: فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِلتَّعْقِيبِ، أيْ: كانَ أخْذُ الرَّجْفَةِ إيّاهم عَقِبَ قَوْلِهِمْ لِقَوْمِهِمْ ما قالُوا.

وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ في نَظِيرِها مِن قِصَّةِ ثَمُودَ.

والرَّجْفَةُ الَّتِي أصابَتْ أهْلَ مَدْيَنَهِيَ صَواعِقُ خَرَجَتْ مِن ظُلَّةٍ، وهي السَّحابَةُ، قالَ تَعالى في سُورَةِ الشُّعَراءِ فَأخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وقَدْ عَبَّرَ عَنِ الرَّجْفَةِ في سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ فَتَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ مِن نَوْعِ الأصْواتِ المُنْشَقَّةِ عَنْ قالِعٍ ومَقْلُوعٍ لا عَنْ قارِعٍ ومَقْرُوعٍ وهو الزِّلْزالُ، والأظْهَرُ أنْ يَكُونَ أصابَهم زِلْزالٌ وصَواعِقُ فَتَكُونُ الرَّجْفَةُ الزِّلْزالَ والصَّيْحَةُ الصّاعِقَةَ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.

وجُمْلَةُ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ، والتَّعْرِيفُ بِالمَوْصُولِيَّةِ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ، وهو أنَّ اضْمِحْلالَهم وانْقِطاعَ دابِرِهِمْ كانَ جَزاءً لَهم عَلى تَكْذِيبِهِمْ شُعَيْبًا.

صفحة ١٤

ومَعْنى كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها تَشْبِيهُ حالَةِ اسْتِئْصالِهِمْ وعَفاءِ آثارِهِمْ بِحالِ مَن لَمْ تَسْبِقْ لَهم حَياةٌ، يُقالُ: غَنِيَ بِالمَكانِ كَرَضِيَ: أقامَ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ مَكانُ القَوْمِ مَغْنًى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ”الَّذِي اسْتَقْرَيْتُ مِن أشْعارِ العَرَبِ أنَّ غَنِيَ مَعْناهُ أقامَ إقامَةً مُقْتَرِنَةً بِتَنَعُّمِ عَيْشٍ ويُشْبِهُ أنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً مِنَ الِاسْتِغْناءِ“ أيْ كَأنْ لَمْ تَكُنْ إقامَةٌ، وهَذا إنَّما يُعْنى بِهِ انْمِحاءُ آثارِهِمْ كَما قالَ فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ، وهو يُرَجِّحُ أنْ يَكُونَ أصابَهم زِلْزالٌ مَعَ الصَّواعِقِ بِحَيْثُ احْتَرَقَتْ أجْسادُهم وخُسِفَ لَهم في الأرْضِ وانْقَلَبَتْ دِيارُهم في باطِنِ الأرْضِ ولَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، أوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ. فَهَذا هو وجْهُ التَّشْبِيهِ، ولَيْسَ وجْهُ التَّشْبِيهِ حالَةَ مَوْتِهِمْ لِأنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ في كُلِّ مَيِّتٍ ولا يَخْتَصُّ بِأمْثالِ مَدْيَنَ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعالى - فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ.

وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ إذا اعْتُبِرَتْ كانُوا فِعْلًا، واعْتُبِرَ المُسْنَدُ فِعْلِيًّا فَهو تَقْدِيمٌ لِإفادَةٍ تُقَوِّي الحُكْمَ، وإنِ اعْتُبِرَتْ كانَ بِمَنزِلَةِ الرّابِطَةِ، وهو الظّاهِرُ، فالتَّقَوِّي حاصِلٌ مِن مَعْنى الثُّبُوتِ الَّذِي تُفِيدُهُ الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.

والتَّكْرِيرُ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا لِلتَّعْدِيدِ وإيقاظِ السّامِعِينَ، وهم مُشْرِكُو العَرَبِ، لِيَتَّقُوا عاقِبَةَ أمْثالِهِمْ في الشِّرْكِ والتَّكْذِيبِ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، كَما وقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها.

وضَمِيرُ الفَصْلِ في قَوْلِهِ كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ يُفِيدُ القَصْرَ وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ دُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيْبًا، وذَلِكَ لِإظْهارِ سَفَهِ قَوْلِ المَلَأِ لِلْعامَّةِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ تَوْقِيفًا لِلْمُعْتَبِرِينَ بِهِمْ عَلى تَهافُتِ أقْوالِهِمْ وسَفاهَةِ رَأْيِهِمْ، وتَحْذِيرًا لِأمْثالِهِمْ مِنَ الوُقُوعِ في ذَلِكَ الضَّلالِ.