Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمُ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾
هَذا كَلامٌ مَصْرُوفٌ إلى غَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ واللَّهُ يَقُولُ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ﴾ فَهَذا انْتِقالٌ بِالكَلامِ إلى مُحاجَّةِ المُشْرِكِينَ مِنَ
صفحة ١٦٦
العَرَبِ، وهو المَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ ابْتِداءً ونِهايَةً، فَكانَ هَذا الِانْتِقالُ بِمَنزِلَةِ رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ. جاءَ هَذا الِانْتِقالُ بِمُناسَبَةِ ذِكْرِ العَهْدِ الَّذِي أخَذَ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في وصِيَّةِ مُوسى، وهو مِيثاقُ الكِتابِ، وفي يَوْمِ رَفْعِ الطُّورِ، وهو عَهْدٌ حَصَلَ بِالخِطابِ التَّكْوِينِيِّ أيْ بِجَعْلِ مَعْناهُ في جِبِلَّةِ كُلِّ نَسَمَةٍ وفِطْرَتِها، فالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمَلِ السّابِقَةِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والمَقْصُودُ بِهِ ابْتِداءً هُمُ المُشْرِكُونَ. وتَبَدُّلُ أُسْلُوبِ القِصَّةِ واضِحٌ إذِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَلى خِطابٍ في قَوْلِهِ ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، وإذْ صُرِّحَ فِيها بِمُعادِ ضَمِيرِ الغَيْبَةِ وهو قَوْلُهُ مِن بَنِي آدَمَ فَعُمُومُ المَوْعِظَةِ تابِعٌ لِعُمُومِ العِظَةِ. فَهَذا ابْتِداءٌ لِتَقْرِيعِ المُشْرِكِينَ عَلى الإشْراكِ، وما ذُكِرَ بَعْدَهُ إلى آخِرِ السُّورَةِ مُناسِبٌ لِأحْوالِ المُشْرِكِينَ.و(إذْ) اسْمٌ لِلزَّمَنِ الماضِي، وهو هُنا مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهو مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ اذْكُرْ مَحْذُوفٍ.
وفِعْلُ (أخَذَ) يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن بَنِي آدَمَ وهو مُعَدًّى إلى ذُرِّيّاتِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أخَذَ رَبُّكَ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الذُّرِّيَّةِ، مِن كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ بَنِي آدَمَ، فَيَحْصُلُ مِن ذَلِكَ أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ بَنِي آدَمَ أقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بِالمَرْبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - .
و(مِن) في قَوْلِهِ (﴿مِن بَنِي آدَمَ﴾) وقَوْلِهِ (﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾) ابْتِدائِيَّةٌ فِيهِما.
والذُّرِّيّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ والذُّرِّيَّةُ اسْمُ جَمْعٍ لِما يَتَوَلَّدُ مِنَ الإنْسانِ، وجَمْعُهُ هُنا لِلتَّنْصِيصِ عَلى العُمُومِ.
وأخْذُ العَهْدِ عَلى الذُّرِّيَّةِ المُخْرَجِينَ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ يَقْتَضِي أخْذَ العَهْدِ عَلى الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ في ظَهْرِ آدَمَ بِدَلالَةِ الفَحْوى، وإلّا لَكانَ أبْناءُ آدَمَ الأدْنَوْنَ لَيْسُوا مَأْخُوذًا عَلَيْهِمُ العَهْدُ مَعَ أنَّهم أوْلى بِأخْذِ العَهْدِ عَلَيْهِمْ في ظَهْرِ آدَمَ.
ومِمّا يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّلالَةَ أخْبارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وعَنْ جَمْعٍ مِن أصْحابِهِ، مُتَفاوِتَةٌ في القُوَّةِ غَيْرُ خالٍ واحِدٌ مِنها عَنْ مُتَكَلَّمٍ، غَيْرَ أنَّ كَثْرَتَها يُؤَيِّدُ بَعْضُها بَعْضًا، وأوْضَحُها ما رَوى مالِكٌ في المُوَطَّأِ في تَرْجَمَةِ
صفحة ١٦٧
النَّهْيِ عَنِ القَوْلِ بِالقَدَرِ بِسَنَدِهِ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُسْألُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ﴾ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ - تَعالى - خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ حَتّى اسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وبِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنّارِ وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ» وساقَ الحَدِيثَ بِما لا حاجَةَ إلَيْهِ في غَرَضِنا ومَحْمَلُ هَذا الحَدِيثِ عَلى أنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَدْلُولِ الفَحْوى المَذْكُورِ، ولَيْسَ تَفْسِيرًا لِمَنطُوقِ الآيَةِ، وبِهِ صارَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أمْرَيْنِ، أحَدُهُما صَرِيحٌ وهو ما أفادَهُ لَفْظُها، وثانِيهِما مَفْهُومٌ وهو فَحْوى الخِطابِ. وجاءَ في الآيَةِ أنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى الذُّرِّيّاتِ العَهْدَ بِالإقْرارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ ولَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ في الحَدِيثِ، وذُكِرَ فِيهِ أنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ وأهْلِ النّارِ مِنهم، ولَعَلَّ الحَدِيثَ اقْتِصارٌ عَلى بَيانِ ما سَألَ عَنْهُ السّائِلُ فَيَكُونُ تَفْسِيرُ الآيَةِ تَفْسِيرَ تَكْمِيلٍ لِما لَمْ يُذْكَرْ فِيها، أوْ كانَ في الحَدِيثِ اقْتِصارٌ مِن أحَدِ رُواتِهِ عَلى بَعْضِ ما سَمِعَهُ.والأخْذُ مَجازٌ في الإخْراجِ والِانْتِزاعِ قالَ اللَّهُ - تَعالى - ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللَّهُ سَمْعَكم وأبْصارَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] الآيَةَ.
وقَوْلُهُ مِن ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِن بَنِي آدَمَ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وقَدْ أُعِيدَ حَرْفُ الجَرِّ مَعَ البَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ [الأنعام: ٩٩] في سُورَةِ الأنْعامِ.
والإشْهادُ عَلى الأنْفُسِ يُطْلَقُ عَلى ما يُساوِي الإقْرارَ أوِ الحَمْلَ عَلَيْهِ، وهو هُنا الحَمْلُ عَلى الإقْرارِ، واسْتُعِيرَ لِحالَةٍ مُغَيَّبَةٍ تَتَضَمَّنُ هَذا الإقْرارَ يَعْلَمُها اللَّهُ لِاسْتِقْرارِ مَعْنى هَذا الِاعْتِرافِ في فِطْرَتِهِمْ. والضَّمِيرُ في أشْهَدَهم عائِدٌ عَلى الذُّرِّيَّةِ بِاعْتِبارِ مَعْناهُ لِأنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلى جَمْعٍ.
والقَوْلُ في (﴿قالُوا بَلى﴾) مُسْتَعارٌ أيْضًا لِدَلالَةِ حالِهِمْ عَلى الِاعْتِرافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - .
وجُمْلَةُ (﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾) مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هو بَيانٌ لِجُمْلَةِ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ أيْ قَرَّرَهم بِهَذا القَوْلِ وهو مِن أمْرِ التَّكْوِينِ. والمَعْنى واحِدٌ لِأنَّ الذُّرِّيَّةَ لَمّا أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ بَنِي آدَمَ كانَ عَلى مَعْنى التَّوْزِيعِ.
صفحة ١٦٨
والِاسْتِفْهامُ في (﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾) تَقْرِيرِيٌّ، ومِثْلُهُ يُقالُ في تَقْرِيرِ مَن يُظَنُّ بِهِ الإنْكارُ أوْ يُنَزَّلُ مَنزِلَةَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ يُقَرَّرُ عَلى النَّفْيِ اسْتِدْراجًا لَهُ حَتّى إذا كانَ عاقِدًا قَلْبَهُ عَلى النَّفْيِ ظَنَّ أنَّ المُقَرِّرَ يَطْلُبُهُ مِنهُ فَأقْدَمَ عَلى الجَوابِ بِالنَّفْيِ، فَأمّا إذا لَمْ يَكُنْ عاقِدًا قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَإنَّهُ يُجِيبُ بِإبْطالِ النَّفْيِ فَيَتَحَقَّقُ أنَّهُ بَرِيءٌ مِن نَفْيِ ذَلِكَ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٤] تَنْزِيلًا لَهم مَنزِلَةَ مَن يَظُنُّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِأنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَهُ في الدُّنْيا، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] في سُورَةِ الأنْعامِ.والكَلامُ تَمْثِيلُ حالٍ مِن أحْوالِ الغَيْبِ، مِن تَسَلُّطِ أمْرِ التَّكْوِينِ الإلَهِيِّ عَلى ذَواتِ الكائِناتِ وأعْراضِها عِنْدَ إرادَةِ تَكْوِينِها، لا تَبْلُغُ النُّفُوسُ إلى تَصَوُّرِها بِالكُنْهِ، لِأنَّها وراءَ المُعْتادِ المَأْلُوفِ، فَيُرادُ تَقْرِيبُها بِهَذا التَّمْثِيلِ، وحاصِلُ المَعْنى: أنَّ اللَّهَ خَلَقَ في الإنْسانِ مِن وقْتِ تَكْوِينِهِ إدْراكَ أدِلَّةِ الوَحْدانِيَّةِ، وجَعَلَ في فِطْرَةِ حَرَكَةِ تَفْكِيرِ الإنْسانِ التَّطَلُّعَ إلى إدْراكِ ذَلِكَ وتَحْصِيلِ إدْراكِهِ إذا جَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ العَوارِضِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلى فِطْرَتِهِ فَتُفْسِدُها.
وجُمْلَةُ قالُوا بَلى جَوابٌ عَنِ الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ، وفُصِلَتْ لِأنَّها جاءَتْ عَلى طَرِيقَةِ المُحاوَرَةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وأُطْلِقَ القَوْلُ إمّا حَقِيقَةً فَذَلِكَ قَوْلٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ، وإمّا مَجازًا عَلى دَلالَةِ حالِهِمْ عَلى أنَّهم مَرْبُوبُونَ لِلَّهِ - تَعالى - كَما أُطْلِقَ القَوْلُ عَلى مِثْلِهِ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] أيْ ظَهَرَتْ فِيهِما آثارُ أمْرِ التَّكْوِينِ. وقالَ أبُو النَّجْمِ:
قالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ راشِدًا إنَّكَ لا تَرْجِعُ إلّا حامِـدًا
فَهُوَ مِنَ المَجازِ الَّذِي كَثُرَ في كَلامِ العَرَبِ.و(بَلى) حَرْفُ جَوابٍ لِكَلامٍ فِيهِ مَعْنى النَّفْيِ، فَيَقْتَضِي إبْطالَ النَّفْيِ وتَقْرِيرَ المَنفِيِّ، ولِذَلِكَ كانَ الجَوابُ بِها بَعْدَ النَّفْيِ أصْرَحَ مِنَ الجَوابِ بِحَرْفِ (نَعَمْ) لِأنَّ نَعَمْ تَحْتَمِلُ تَقْرِيرَ النَّفْيِ وتَقْرِيرَ المَنفِيِّ، وهَذا مَعْنى ما نُقِلَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قالَ:
صفحة ١٦٩
لَوْ قالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا أيْ لَكانَ جَوابُهم مُحْتَمِلًا لِلْكُفْرِ، ولَمّا كانَ المَقامُ مَقامَ إقْرارٍ كانَ الِاحْتِمالُ فِيهِ تَفَصِّيًا مِنَ الِاعْتِرافِ.وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ: ذُرِّيّاتِهِمْ، بِالجَمْعِ، وقَرَأ الباقُونَ ذُرِّيَّتَهم بِالإفْرادِ.
وقَوْلُهم (شَهِدْنا) تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ (بَلى) والشَّهادَةُ هُنا أيْضًا بِمَعْنى الإقْرارِ.
ووَقَعَ (أنْ تَقُولُوا) في مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ الأخْذِ والإشْهادِ، فَهو عَلى تَقْدِيرِ لامِ التَّعْلِيلِ الجارَةِ، وحَذْفُها مَعَ (أنْ) جارٍ عَلى المُطَّرِدِ الشّائِعِ. والمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ أنْ يَقُولُوا إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ لا بِإيقاعِ القَوْلِ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ جَرْيًا عَلى شُيُوعِ حَذْفِهِ مَعَ القَوْلِ، أوْ هو تَعْلِيلٌ بِأنَّهم يَقُولُونَ ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَقَعْ إشْهادُهم عَلى أنْفُسِهِمْ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ﴾ [الأنعام: ١٥٦] في سُورَةِ الأنْعامِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنْ تَقُولُوا - بِتاءِ الخِطابِ - وقَدْ حُوِّلَ الأُسْلُوبُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ثُمَّ مِن خِطابِ الرَّسُولِ إلى خِطابِ قَوْمِهِ، تَصْرِيحًا بِأنَّ المَقْصُودَ مِن قِصَّةِ أخْذِ العَهْدِ تَذْكِيرُ المُشْرِكِينَ بِما أوْدَعَ اللَّهُ في الفِطْرَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وهَذا الأُسْلُوبُ هو مِن تَحْوِيلِ الخِطابِ عَنْ مُخاطَبٍ إلى غَيْرِهِ، ولَيْسَ مِنَ الِالتِفافِ لِاخْتِلافِ المُخاطَبِينَ. وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، وحْدَهُ: بِياءِ الغَيْبَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى ذُرِّيّاتِ بَنِي آدَمَ.
والإشارَةُ بِـ هَذا إلى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهامِ وجَوابِهِ وهو الِاعْتِرافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - عَلى تَقْدِيرِهِ بِالمَذْكُورِ.
والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ لَمّا جُعِلَ في الفِطْرَةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ كانَتْ عُقُولُ البَشَرِ مُنْساقَةً إلَيْهِ، فَلا يَغْفُلُ عَنْهُ أحَدٌ مِنهم فَيَعْتَذِرُ يَوْمَ القِيامَةِ، إذا سُئِلَ عَنِ الإشْراكِ، بِعُذْرِ الغَفْلَةِ، فَهَذا إبْطالٌ لِلِاعْتِذارِ بِالغَفْلَةِ، ولِذَلِكَ وقَعَ تَقْدِيرُ حَرْفِ نَفْيٍ أيْ أنْ لا تَقُولُوا إلَخْ.
وعُطِفَ عَلَيْهِ الِاعْتِذارُ بِالجَهْلِ دُونَ الغَفْلَةِ بِأنْ يَقُولُوا: إنَّنا اتَّبَعْنا آباءَنا وما ظَنَنّا الإشْراكَ إلّا حَقًّا، فَلَمّا كانَ في أصْلِ الفِطْرَةِ العِلْمُ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ بَطَلَ الِاعْتِذارُ
صفحة ١٧٠
بِالجَهْلِ بِهِ، وكانَ الإشْراكُ إمّا عَنْ عَمْدٍ وإمّا عَنْ تَقْصِيرٍ وكَلاهُما لا يَنْهَضُ عُذْرًا، وكُلُّ هَذا إنَّما يَصْلُحُ لِخِطابِ المُشْرِكِينَ دُونَ بَنِي إسْرائِيلَ.ومَعْنى (وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ) كُنّا عَلى دِينِهِمْ تَبَعًا لَهم لِأنَّنا ذُرِّيَّةٌ لَهم، وشَأْنُ الذُّرِّيَّةِ الِاقْتِداءُ بِالآباءِ وإقامَةُ عَوائِدِهِمْ فَوَقَعَ إيجازٌ في الكَلامِ وأُقِيمَ التَّعْلِيلُ مَقامَ المُعَلَّلِ.
و(مِن بَعْدِهِمْ) نَعْتٌ لِذُرِّيَّةٍ لِما تُؤْذِنُ بِهِ ذُرِّيَّةٌ مِنَ الخَلْفِيَّةِ والقِيامِ في مَقامِهِمْ. والِاسْتِفْهامُ في أفَتُهْلِكُنا إنْكارِيٌّ، والإهْلاكُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلْعَذابِ، والمُبْطِلُونَ الآخِذُونَ بِالباطِلِ، وهو في هَذا المَقامِ الإشْراكُ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإيمانَ بِالإلَهِ الواحِدِ مُسْتَقِرٌّ في فِطْرَةِ العَقْلِ، لَوْ خُلِّيَ ونَفْسَهُ، وتَجَرَّدَ مِنَ الشُّبُهاتِ النّاشِئَةِ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ في النَّظَرِ، أوِ المُلْقاةِ إلَيْهِ مِن أهْلِ الضَّلالَةِ المُسْتَقِرَّةِ فِيهِمُ الضَّلالَةُ، بِقَصْدٍ أوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، ولِذَلِكَ قالَ الماتُرِيدِيُّ والمُعْتَزِلَةُ: إنَّ الإيمانَ بِالإلَهِ الواحِدِ واجِبٌ بِالعَقْلِ، ونُسِبَ إلى أبِي حَنِيفَةَ وإلى الماوَرْدِيِّ وبَعْضِ الشّافِعِيَّةِ مِن أهْلِ العِراقِ، وعَلَيْهِ انْبَتَّتْ مُؤاخَذَةُ أهْلِ الفَتْرَةِ عَلى الإشْراكِ، وقالَ الأشْعَرِيُّ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ واجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لا بِالعَقْلِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ولَعَلَّهُ أرْجَعَ مُؤاخَذَةَ أهْلِ الفَتْرَةِ عَلى الشِّرْكِ إلى التَّواتُرِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ بِالتَّوْحِيدِ.
وجُمْلَةُ (﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القِصَّتَيْنِ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، وتُسَمّى واوَ الِاسْتِئْنافِ أيْ مِثْلُ هَذا التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الآياتِ أيْ آياتِ القُرْآنِ، وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] في سُورَةِ الأنْعامِ. وتَفْصِيلُها بَيانُها وتَجْرِيدُها مِنَ الِالتِباسِ.
وجُمْلَةُ (﴿ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾) فَهي في مَوْقِعِ الِاعْتِراضِ، وهَذا إنْشاءُ تَرَجِّي رُجُوعِ المُشْرِكِينَ إلى التَّوْحِيدِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَأْوِيلِ مَعْنى الرَّجاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى صُدُورِهِ مِن جانِبِ اللَّهِ - تَعالى - عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
صفحة ١٧١
والرُّجُوعُ مُسْتَعارٌ لِلْإقْلاعِ عَنِ الشِّرْكِ، شُبِّهَ الإقْلاعُ عَنِ الحالَةِ الَّتِي هم مُتَلَبِّسُونَ بِها بِتَرْكِ مَن حَلَّ في غَيْرِ مَقَرِّهِ المَوْضِعَ الَّذِي هو بِهِ لِيَرْجِعَ إلى مَقَرِّهِ، وهَذا التَّشْبِيهُ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ حالِ الإشْراكِ بِمَوْضِعِ الغُرْبَةِ لِأنَّ الشِّرْكَ لَيْسَ مِن مُقْتَضى الفِطْرَةِ فالتَّلَبُّسُ بِهِ خُرُوجٌ عَنْ أصْلِ الخِلْقَةِ كَخُرُوجِ المُسافِرِ عَنْ مَوْطِنِهِ، ويَقْتَضِي أيْضًا تَشْبِيهَ حالِ التَّوْحِيدِ بِمَحَلِّ المَرْءِ وحَيِّهِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ، وقَدْ تَكَرَّرَ في القُرْآنِ إطْلاقُ الرُّجُوعِ عَلى إقْلاعِ المُشْرِكِينَ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ إلّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] أيْ يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ، وهو تَعْرِيضٌ بِالعَرَبِ لِأنَّهُمُ المُشْرِكُونَ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ، وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: ٢٩] فَإنِّي اسْتَقْرَيْتُ مِنَ اصْطِلاحِ القُرْآنِ أنَّهُ يُشِيرُ بِهَؤُلاءِ إلى العَرَبِ.