Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ وما عُطِفَ عَلَيْها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوى اللَّهِ وإصْلاحِ ذاتِ بَيْنِهِمْ وطاعَتِهِمُ اللَّهَ ورَسُولَهُ، لِأنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ ”إنَّما“ مِن شَأْنِهِ أنْ يَحْمِلَ المُتَّصِفِينَ بِهِ عَلى الِامْتِثالِ لِما تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الأمْرِ الثَّلاثِ السّابِقَةِ،
صفحة ٢٥٥
وقَدِ اقْتَضى ظاهِرُ القِصَرِ المُسْتَفادُ مِن ”إنَّما“ أنَّ مَن لَمْ يَجِلْ قَلْبُهُ إذا ذُكِرَ اللَّهُ، ولَمْ تَزِدْهُ تِلاوَةُ آياتِ اللَّهِ إيمانًا مَعَ إيمانِهِ، ولَمْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ، ولَمْ يُقِمِ الصَّلاةَ، ولَمْ يُنْفِقْ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الإيمانِ، فَهَذا ظاهِرٌ مُؤَوَّلٌ بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ أدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن أنَّ الإيمانَ لا يَنْقُضُهُ الإخْلالُ بِبَعْضِ الواجِباتِ كَما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٤] فَتَعَيَّنَ أنَّ القَصْرَ ادِّعائِيٌّ بِتَنْزِيلِ الإيمانِ الَّذِي عُدِمَ الواجِباتِ العَظِيمَةَ مَنزِلَةَ العَدَمِ، وهو قَصْرٌ مَجازِيٌّ لِابْتِنائِهِ عَلى التَّشْبِيهِ، فَهو اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الجانِبُ المَنفِيُّ في صِيغَةِ القَصْرِ بِمَن لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وطُوِيَ ذِكْرُ المُشَبَّهِ بِهِ ورُمِزَ إلَيْهِ بِذِكْرِ لازِمِهِ وهو حَصْرُ الإيمانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِها المُشَبَّهُ بِهِ، ويُؤَوَّلُ هَذا إلى مَعْنى: إنَّما المُؤْمِنُونَ الكامِلُونَ الإيمانِ، فالتَّعْرِيفُ في ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ﴾ تَعْرِيفُ الجِنْسِ المُفِيدُ قَصْرًا ادِّعائِيًّا عَلى أصْحابِ هَذِهِ الصِّفاتِ مُبالَغَةً، وحَرْفُ ”ال“ فِيهِ هو ما يُسَمّى بِالدّالَّةِ عَلى مَعْنى الكَمالِ.وقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِجَوابِ سُؤالِ سائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وجَزاؤُهُ المُقَدَّرُ في قَوْلِهِ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ١] بِأنْ يَتَساءَلُوا عَنْ هَذا الِاشْتِراطِ بَعْدَ ما تَحَقَّقَ أنَّهم مُؤْمِنُونَ مِن قَبْلُ، وهَلْ يُمْتَرى في أنَّهم مُؤْمِنُونَ، فَيُجابُوا بِأنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهم كَيْتَ وكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أنَّ الإيمانَ المَجْعُولَ شَرْطًا هو الإيمانُ الكامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهم إلى الِاتِّسامِ بِهِ والتَّباعُدِ عَنْ مَوانِعِ زِيادَتِهِ.
وإذْ قَدْ كانَ الِاحْتِمالانِ غَيْرَ مُتَنافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الآيَةِ إيّاهُما تَوْفِيرًا لِمَعانِي الكَلامِ المُعْجِزِ، فَإنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمّا يُسْألُ عَنْهُ، وإنَّ بَيانَ العِلَّةِ مِمّا يَصِحُّ كَوْنُهُ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا.
وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ وقَعَتِ الجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِاسْتِغْنائِها عَنِ الرَّبْطِ وإنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْناءِ بِاخْتِلافِ الِاحْتِمالَيْنِ، والِاعْتِباراتُ البَلاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أسْبابِها في المَوْقِعِ الواحِدِ لِأنَّها اعْتِباراتٌ مَعْنَوِيَّةٌ ولَيْسَتْ كَيْفِيّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ.
والمَعْنى لَيْسَ المُؤْمِنُونَ الكامِلُ إيمانُهم إلّا أصْحابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ المُتَّصِفُ بِها تَحَقُّقَها فِيهِ أوْ عَدَمَهُ مِن عَرْضِ نَفْسِهِ عَلى حَقِيقَتِها، فَإنَّهُ لَمّا كانَ الكَلامُ وارِدًا
صفحة ٢٥٦
مَوْرِدَ الأمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِما يَقْتَضِيهِ الإيمانُ أُحِيلُوا في مَعْرِفَةِ أماراتِ هَذا التَّخَلُّقِ عَلى صِفاتٍ يَأْنَسُونَها مِن أنْفُسِهِمْ إذا عَلِمُوها.والذِّكْرُ حَقِيقَتُهُ التَّلَفُّظُ بِاللِّسانِ، وإذا عُلِّقَ بِما يَدُلُّ عَلى ذاتٍ فالمَقْصُودُ مِنَ الذّاتِ أسْماؤُها، فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿إذا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ إذا نَطَقَ ناطِقٌ بِاسْمٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ أوْ بِشَأْنٍ مِن شُئُونِهِ، مِثْلِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ لا بُدَّ مَعَهُ مِن جَرَيانِ اسْمِهِ أوْ ضَمِيرِهِ أوْ مَوْصُولِهِ أوْ إشارَتِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِن دَلائِلِ ذاتِهِ.
والوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ فَزَعٍ فَيَكُونُ لِاسْتِعْظامِ المَوْجُولِ مِنهُ.
وقَدْ جاءَ فِعْلُ ”وجِلَ“ في الفَصِيحِ بِكَسْرِ العَيْنِ في الماضِي عَلى طَرِيقَةِ الأفْعالِ الدّالَّةِ عَلى الِانْفِعالِ الباطِنِيِّ مِثْلَ فَرِحَ، وصَدِيَ، وهَوِيَ، ورَوِيَ.
وأُسْنِدَ الوَجَلُ إلى القُلُوبِ لِأنَّ القَلْبَ يَكْثُرُ إطْلاقُهُ في كَلامِ العَرَبِ عَلى إحْساسِ الإنْسانِ وقَرارَةِ إدْراكِهِ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ هَذا العُضْوَ الصَّنَوْبَرِيَّ الَّذِي يُرْسِلُ الدَّمَ إلى الشَّرايِينِ.
وقَدْ أجْمَلَتِ الآيَةُ ذِكْرَ اللَّهِ إجْمالًا بَدِيعًا لِيُناسِبَ مَعْنى الوَجِلِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَكُونُ: بِذِكْرِ اسْمِهِ، وبِذِكْرِ عِقابِهِ، وعَظَمَتِهِ، وبِذِكْرِ ثَوابِهِ ورَحْمَتِهِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَهُ الوَجَلُ في قُلُوبِ كُمَّلِ المُؤْمِنِينَ، لِأنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ اسْتِحْضارُ جَلالِ اللَّهِ وشِدَّةِ بَأْسِهِ وسِعَةِ ثَوابِهِ، فَيَنْبَعِثُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْضارِ تَوَقُّعُ حُلُولِ بَأْسِهِ، وتَوَقُّعُ انْقِطاعِ بَعْضِ ثَوابِهِ أوْ رَحْمَتِهِ، وهو وجَلٌ يَبْعَثُ المُؤْمِنَ إلى الِاسْتِكْثارِ مِنَ الخَيْرِ وتَوَقِّي ما لا يُرْضِي اللَّهَ - تَعالى - ومُلاحَظَةِ الوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ، ولِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ: ”أفْضَلُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ“ .
وإذْ قَدْ كانَ المَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ حَثَّ المُؤْمِنِينَ عَلى الرِّضى بِما قَسَّمَ النَّبِيءُ ﷺ مِن غَنائِمِ بَدْرٍ وأنْ يَتْرُكُوا التَّشاجُرَ بَيْنَهم في ذَلِكَ، ناسَبَ الِاقْتِصارُ عَلى وجِلِ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، والوَجَلُ حالَيْنِ يَحْصُلانِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ والحالُ الآخَرُ هو الأمَلُ والطَّمَعُ في الثَّوابِ، فَطَوى ذِكْرَهُ هُنا اعْتِمادًا عَلى اسْتِلْزامِ الوَجَلِ إيّاهُ لِأنَّ مِنَ الوَجَلِ أنْ يَجِلَ مِن فَواتِ الثَّوابِ أوْ نُقْصانِهِ.
* * *
﴿وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا﴾التِّلاوَةُ: القِراءَةُ واسْتِظْهارُ ما يَحْفَظُهُ التّالِي مِن كَلامٍ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ يَحْكِيهِ لِسامِعِهِ،
صفحة ٢٥٧
وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ [البقرة: ١٠٢] في البَقَرَةِ.وآياتُ اللَّهِ القُرْآنُ، سُمِّيَتْ آياتٌ لِأنَّ وحْيَها إلى النَّبِيءِ الأُمِّيِّ ﷺ وعَجْزَ قَوْمِهِ، خاصَّتِهِمْ وعامَّتِهِمْ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِها فِيهِ دَلالَةٌ عَلى صِدْقِ مَن جاءَ بِها فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آياتٌ، ويُسَمّى القُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أيْضًا بِاعْتِبارِ دَلالَةِ جُمْلَتِهِ عَلى صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في المُقَدِّمَةِ الثّامِنَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ.
وإسْنادُ فِعْلِ زِيادَةِ الإيمانِ إلى آياتِ اللَّهِ لِأنَّها سَبَبُ تِلْكَ الزِّيادَةِ لِلْإيمانِ بِاعْتِبارِ حالٍ مِن أحْوالِها، وهو تِلاوَتُها لِاعْتِبارِ مُجَرَّدِ وُجُودِها في صَدْرِ غَيْرِ المَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وهَذا الإسْنادُ مِنَ المَجازِ العَقْلِيِّ إذْ جُعِلَتِ الآياتُ بِمَنزِلَةِ فاعِلِ الزِّيادَةِ في الإيمانِ.
فَإنَّهُ لَمّا لَمْ يُعْرَفِ الفاعِلُ الحَقِيقِيُّ لِزِيادَةِ الإيمانِ، إذْ تِلْكَ الزِّيادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ عارِضَةٌ لِلْيَقِينِ لا يُعْرَفُ فاعِلُ انْقِداحِها في العَقْلِ، وغايَةُ ما يُعْرَفُ أنْ يُقالَ: ازْدادَ إيمانُ فُلانٍ، أوِ ازْدادَ فُلانٌ إيمانًا، بِطَرِيقِ ما يَدُلُّ عَلى المُطاوَعَةِ، ولا التِفاتَ في الِاسْتِعْمالِ إلى أنَّ اللَّهَ هو خالِقُ الأحْوالِ كُلِّها إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنى الفاعِلِ الحَقِيقِيِّ في العُرْفِ، ولَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الكَلامُ إلى حَقِيقَةٍ ومَجازٍ عَقْلِيَّيْنِ وإنَّما الفاعِلُ الحَقِيقِيُّ هو مَن يَأْتِي الفِعْلَ ويَصْنَعُهُ كالكاتِبِ لِلْكِتابَةِ والضّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
والإيمانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أوْ بِانْتِفاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جازِمًا لا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الإيمانِ شَرْعًا في اليَقِينِ بِالنِّسْبَةِ المُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ ووُجُودَ صِفاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْها الأدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ أوِ الشَّرْعِيَّةُ، والمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أرْسَلَهُ وثُبُوتَ صِفاتِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - الَّتِي لا يَتِمُّ مَعْنى رِسالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِها: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيما يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، والعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعالى - .
ومَعْنى زِيادَةِ الإيمانِ: قُوَّةُ اليَقِينِ في نَفْسِ المُوقِنِ عَلى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْناءِ عَنِ اسْتِحْضارِ الأدِلَّةِ في نَفْسِهِ، وعَنْ إعادَةِ النَّظَرِ فِيها، ودَفْعِ الشَّكِّ العارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإنَّهُ كُلَّما كانَتِ الأدِلَّةُ أكْثَرَ وأقْوى وأجْلى مُقَدِّماتٍ كانَ اليَقِينُ أقْوى، فَتِلْكَ القُوَّةُ هي المُعَبَّرُ عَنْها بِالزِّيادَةِ، وتَفاوُتُها تَدَرُّجٌ في الزِّيادَةِ. ويَجُوزُ أنْ تُسَمّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ في الأدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيادَةِ، وذَلِكَ مَعَ مُراعاةِ وُجُودِ أصْلِ حَقِيقَةِ
صفحة ٢٥٨
الإيمانِ، لِأنَّها لَوْ نَقَصَتْ عَنِ اليَقِينِ لَبَطَلَتْ ماهِيَّةُ الإيمانِ، وقَدْ أشارَ البُخارِيُّ إلى هَذا بِقَوْلِهِ ”بابُ زِيادَةِ الإيمانِ ونُقْصانِهِ، فَإذا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمالِ فَهو ناقِصٌ“ فَلَوْ أنَّ نَقْصَ الأدِلَّةِ بَلَغَ بِصاحِبِهِ إلى انْخِرامِ اليَقِينِ لَمْ يَكُنِ العِلْمُ الحاصِلُ لَهُ إيمانًا، حَتّى يُوصَفَ بِالنَّقْصِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن وصْفِ الإيمانِ بِالزِّيادَةِ، في القُرْآنِ وكَلامِ الرَّسُولِ ﷺ، وهو بَيِّنٌ. ولَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرِيعَةِ ذِكْرُ نَقْصِ الإيمانِ، وذَلِكَ هو الَّذِي يُرِيدُهُ جُمْهُورُ عُلَماءِ الأُمَّةِ إذا قالُوا الإيمانَ يَزِيدُ كَما قالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ الإيمانُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ، وهي عِبارَةٌ كامِلَةٌ، وقَدْ يُطْلَقُ الإيمانُ عَلى الأعْمالِ الَّتِي تَجِبُ عَلى المُؤْمِنِ وهو إطْلاقٌ بِاعْتِبارِ كَوْنِ تِلْكَ الأعْمالِ مِن شَرائِعِ الإيمانِ، كَما أُطْلِقَ عَلى الصَّلاةِ اسْمُ الإيمانِ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] ولَكِنَّ الِاسْمَ المَضْبُوطَ لِهَذا المَعْنى هو اسْمُ الإسْلامِ كَما يُفْصِحُ عَنْهُ حَدِيثُ سُؤالِ جِبْرِيلَ عَنِ الإيمانِ والإسْلامِ والإحْسانِ، فالإيمانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلى الإسْلامِ وهو بِهَذا الِاعْتِبارِ يُوصَفُ بِالنَّقْصِ والزِّيادَةِ بِاعْتِبارِ الإكْثارِ مِنَ الأعْمالِ والإقْلالِ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ المُرادَ في هَذِهِ الآيَةِ ولا في نَظائِرِها مِن آياتِ الكِتابِ وأقْوالِ النَّبِيءِ ﷺ، وقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَماءِ الأُمَّةِ فَيَقُولُ: الإيمانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، ولَعَلَّ الَّذِي ألْجَأهم إلى وصْفِهِ بِالنَّقْصِ هو ما اقْتَضاهُ الوَصْفُ بِالزِّيادَةِ. وهَذا مَذْهَبٌ أشارَ إلَيْهِ البُخارِيُّ في قَوْلِهِ ”بابُ مَن قالَ إنَّ الإيمانَ هو العَمَلُ“ . وقالَ الشَّيْخُ ابْنُ أبِي زَيْدٍ ”وأنَّ الإيمانَ قَوْلٌ بِاللِّسانِ وإخْلاصٌ بِالقَلْبِ وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ يَزِيدُ بِزِيادَةِ الأعْمالِ ويَنْقُصُ بِنَقْصِ الأعْمالِ فَيَكُونُ فِيها النَّقْصُ وبِها الزِّيادَةُ“، وهو جارٍ عَلى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِن إقْرارِ ظَواهِرِ ألْفاظِ القُرْآنِ والسَّنَةِ، في الأُمُورِ الِاعْتِقادِيَّةِ، ولَكِنَّ وصْفَ الإيمانِ بِالنَّقْصِ لا داعِيَ إلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وصْفِهِ بِالنَّقْصِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ ولِهَذا قالَ مالِكٌ: الإيمانُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ.وكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلاوَةِ الآياتِ في زِيادَةِ الإيمانِ: أنَّ دَقائِقَ الإعْجازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْها آياتُ القُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنها أوْ تَتَكَرَّرُ عَلى الأسْماعِ سامِعَها يَقِينًا بِأنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلالًا عَلى ما في نَفْسِهِ، وذَلِكَ يُقَوِّي الإيمانَ حَتّى يَصِلَ إلى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلى نَحْوِ ما يَحْصُلُ في تَواتُرِ الخَبَرِ مِنَ اليَقِينِ بِصِدْقِ المُخْبِرِينَ، ويَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيادَةِ زِيادَةٌ في الإقْبالِ عَلَيْها بِشَراشِرِ القُلُوبِ ثُمَّ في
صفحة ٢٥٩
العَمَلِ بِما تَتَضَمَّنُهُ مِن أمْرٍ أوْ نَهْيٍ، حَتّى يَحْصُلَ كَمالُ التَّقْوى، فَلا جَرَمَ كانَ لِكُلِّ آيَةٍ تُتْلى عَلى المُؤْمِنِينَ زِيادَةٌ في عَوارِضِ الإيمانِ مِن قُوَّةِ اليَقِينِ وتَكْثِيرِ الأعْمالِ فَهَذا وصْفٌ راسِخٌ لِلْآياتِ ويَجُوزُ أنْ تُفَسَّرَ زِيادَةُ الإيمانِ عِنْدَ تِلاوَةِ الآياتِ بِأنَّها زِيادَةُ إدْراكٍ لِلْمَعانِي المُؤْمَنِ بِها، كَما فُسِّرَتْ زِيادَةُ الإيمانِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأعْمالِ، الَّتِي تَجِبُ عَلى المُؤْمِنِ إذْ تِلْكَ الإدْراكاتُ تَعَلُّقاتٌ بَعْضُها حِسِّيٍّ وبَعْضُها عَقْلِيٌّ.وحَظُّ المَقامِ المُتَعَلِّقِ بِأحْكامِ الأنْفالِ مِن هَذِهِ الزِّيادَةِ هو أنَّ سَماعَ آياتِ حُكْمِ الأنْفالِ يَزِيدُ إيمانَ المُؤْمِنِينَ قُوَّةً، بِنَبْذِ الشِّقاقِ والتَّشاجُرِ الطّارِئِ بَيْنَهم في أنْفَسِ الأمْوالِ عِنْدَهم، وهو المالُ المُكْتَسَبُ مِن سُيُوفِهِمْ، فَإنَّهُ أحَبُّ أمْوالِهِمْ إلَيْهِمْ. وفي الحَدِيثِ «وجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» وبِذَلِكَ تَتَّضِحُ المُناسِبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ حُكْمِ الأنْفالِ، وتَعْقِيبِهِ بِالأمْرِ بِالتَّقْوى وإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ والطّاعَةِ، ثُمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأنَّ شَأْنَ المُؤْمِنِينَ ازْدِيادُ إيمانِهِمْ عِنْدَ تِلاوَةِ آياتِ اللَّهِ.
* * *
﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ صِلَةٌ ثالِثَةٌ لِ المُؤْمِنُونَ أوْ حالٌ مِنهُ، وجُعِلَتْ فِعْلًا مُضارِعًا لِلدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنهم، ووَصْفُهم بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ وهو الِاعْتِمادُ عَلى اللَّهِ في الأحْوالِ والمَساعِي لِيُقَدِّرَ لِلْمُتَوَكِّلِ تَيْسِيرًا مَرَّةً ويُعَوِّضُهُ عَنِ الكَسْبِ المَنهِيِّ عَنْهُ بِأحْسَنِ مِنهُ مِنَ الحَلالِ المَأْذُونِ فِيهِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.ومُناسِبَةُ هَذا الوَصْفِ لِلْغَرَضِ: أنَّهم أُمِرُوا بِالتَّخَلِّي عَنِ الأنْفالِ، والرِّضى بِقِسْمَةِ الرَّسُولِ ﷺ فِيها، فَمَن كانَ قَدْ حُرِمَ مِن نَفَلِ قَتِيلِهِ يَتَوَكَّلُ عَلى اللَّهِ في تَعْوِيضِهِ بِأحْسَنَ مِنهُ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ إمّا لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ فَهو مِن مُقْتَضَياتِ الفَصاحَةِ مَعَ ما فِيهِ مِن الِاهْتِمامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وإمّا لِلتَّعْرِيضِ بِالمُشْرِكِينَ، لِأنَّهم يَتَوَكَّلُونَ عَلى إعانَةِ الأصْنامِ، قالَ - تَعالى - ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ [مريم: ٨١] فَيَكُونُ الكَلامُ مَدْحًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وتَعْرِيضًا بِذَمِّ المُشْرِكِينَ، ثُمَّ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِن أنْ تَبْقى في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ آثارٌ مِنَ التَّعَلُّقِ بِما نُهُوا عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِ، لِتَوَهُّمِهِمْ أنَّهم إذا فَوَّتُوهُ فَقَدْ أضاعُوا خَيْرًا مِنَ الدُّنْيا.